نهاية الغرب لا «نهاية التاريخ»!
في مثل هذا اليوم من نوفمبر «تشرين الثاني» سنة 1989، سقط جدار برلين. كانت لحظة حاسمة ومحورية في تاريخ العالم، فائقة الرمزية والدلالة، فتحت فصلاً جديداً في تاريخ البشرية. في هذا اليوم سقطت بشكل مدوٍّ ومريع المنظومة الشيوعية التي حكمت ما يقارب نصف الكرة الأرضية لمدة سبعين عاماً.
مع سقوط جدار برلين انهارت سريعاً فكرة «نهاية التاريخ» التي نظّر لها كارل ماركس، عادّاً أن الشيوعية تمثل النموذج الأرقى الذي يمكن للبشرية أن تصل إليه بعد أن تقطع طريقاً طويلاً من البدائية، والإقطاعية، والرأسمالية، والاشتراكية، وصولاً للشيوعية. وهي النظام الأكثر عدالة ومساواة وسعادة للبشرية، وعندها ينتهي التاريخ! الغريب أن الشيوعية هي التي انتهت ولم ينتهِ التاريخ!
في نفس العام، جاء الأميركي فرنسيس فوكوياما، منتشياً بلحظة سقوط المعسكر الاشتراكي وهزيمة الشيوعية عندما تهاوى جدار برلين ليعيد إنتاج نظرية هيغل، ويعيد من جديد صياغة نظرية «نهاية التاريخ». اقتنص فوكوياما اللحظة ليبني نظريته على أنقاض الفوضى التي خلفها انهيار المنظومة الشيوعية، واكتساح الرأسمالية المعسكر الاشتراكي، وقيام نظام القطب الواحد. نهاية التاريخ في هذه النظرية كانت لحظة درامية محفوفة بأضواء السينما، تمثل الانتصار الأميركي الغربي على الخصم السوفياتي... أكثر من كونها فكرة ملهمة لخلاص البشرية.
ببساطة، رأى أن للتاريخ نهاية، وأن نهاية التاريخ هي سيادة النموذج الآيديولوجي الغربي القائم على النظام الليبرالي الديمقراطي والرأسمالية الحديثة... قال إن هذه «التوليفة» هي الطريق الوحيد الذي يجب سلوكه لدخول «التاريخ الكوني» للإنسان، وكلما اجتاحت هذه المنظومة العالم بأساطيلها «طبعاً»، وأخضعتهم باسم الديمقراطية والليبرالية والسوق المفتوحة، للنظام الجديد؛ فإن المجتمعات البشرية تصل إلى مرحلة التاريخ الكوني، الذي عنده ينتهي التاريخ!
الممتع أن الفترة الزمنية بين سقوط الجدار واليوم ما زالت خالدة في الذكرى، والممتع أن العالم بعدها شهد ثورتين من أكبر الثورات الإنسانية: ثورة المعلومات، وثورة الاتصال... لم يعد التاريخ مجرد أسفار يسطرها المنتصرون في الظلام، ويحولون الأكاذيب إلى حقائق «كما يشير جورج أوريل: «إذا كانت كل السجلات تحكي القصة نفسها، فإن الأكذوبة تدخل التاريخ وتصبح حقيقة»». منذ ذلك اليوم؛ أي منذ سقوط جدار برلين، لم تتمكن الليبرالية الغربية من الانتصار في أيٍّ من المعارك الأخلاقية التي خاضتها، أصبحت حتى القيم التي قامت عليها تتهاوى، بل أصبحت تسير بالإنسان نحو التوحش والقطيعة والشقاء...
خاضت الثورة الفرنسية صراعاً ضد الإقطاع والاستبداد، وقامت على مبادئ أبرزها: «الحرية والمساواة والإخاء». وتمادى المؤرخ الفرنسي فرنسوا ألارد، بالقول إن الثورة الفرنسية «تختلف عن الثورات الأخرى في كونها ليست فرنسية فقط، بل تهدف إلى إفادة البشرية جمعاء». وقامت الثورة الأميركية على مجموعة قيم أبرزها: الاستقلال عن الاحتلال البريطاني، وتأسيس دولة ديمقراطية تتبنى مبادئ الحرية والعدالة وحقوق الإنسان، وإنشاء دستور جديد يضمن الحريات الأساسية مثل حرية التعبير والدين والصحافة والتجمع، وسيادة الشعب، والمساواة، والحماية من الاستبداد. وكلتا الثورتين حملتا شعار التنوير، لكن كيف تحولت «قوى التنوير» إلى أدوات لقمع الشعوب ومساندة الاحتلال وتبرير جرائمه، بل تزوير التاريخ أيضاً؟ كيف يمكن تحت ظل النظام الليبرالي الذي يسعى لوراثة الأرض وامتلاك التاريخ أن يتغاضى عن الإبادة الجماعية الموثقة والمنقولة على الهواء مباشرة، وعن قتل الأطفال...؟ كيف له أن يكمم أفواه الصحافيين، ويخرس ألسنة المغردين، ويلاحق أصحاب الرأي، ويقمع حرية التعبير...؟ والأسوأ كيف لنظام يقوم على الحداثة ويدّعي العدالة الإنسانية، أن يتبنى أكثر الخطابات تطرفاً: تقسيم العالم إلى فسطاطين، إلى عالم الخير وعالم الشرّ؟ هل كانت إسرائيل هي الثقب الأسود الذي يبتلع قيم الغرب الديمقراطي الليبرالي... أو أن تلك المنظومة هي التي كشفت عن نفسها لحظة الحقيقة؟
حين تفتقد الحضارة قدرتها على تمثيل الإنسان وإسعاده وتحقيق تطلعاته... بل حين تصبح أداة للقسر والظلم والعدوان والشقاء... فإنها تتهاوى، وهنا يأتي كلام كارل ماركس: «إن كل نظام يشتمل في نفسه على بذور هدمه».