الثقافة الذاتية العامة.. منبر مَن لا منبر له.. حدثٌ وحديثٌ ”56“
يُمكِنُ نسجُ دِيباجةِ القولِ الصائبِ، باتّزانٍ رَصِينٍ، وهُدوءِ أعصابٍ باردةٍ، والصدُوع الذاتي المُتألّق، بأنّ مُدّخرَ أُصولِ رَصيدِ ثروةِ ”الثقافةِ“ العامةِ هو رَيعٌ لمُحصّلةِ جُهودٍ ذَاتيةٍ رَاقيةٍ؛ ونِتاجُ اجتهاداتٍ شَخصيةٍ مُكتسبةٍ... أرَى، وتَرى مَعي، عزيزي القارئ الكريم، مَاثلَ شخصِ الفردِ المُثقّفِ مِنّا، وقد توشّحَ بأطرافِ وِشاحِ الثقافةِ العامةِ الزاهِي استِلطافًا ظَاهرًا؛ ودَجّن ألقَها اللّافِت استِحبابًا وأُلفةً؛ واستأنَس بساطعِ بريقِها الجاذِب اختِيارًا مُصاحِبًا، بمِلءِ الأَسماعِ الصاخيةِ؛ وإرتاعِ الأَبصارِ المُشرئبةِ، مُنذ نُعومةِ أظفارهِ المُتوقّدةِ… ولَن يَتوانَى للَحظةٍ مُهادِنةٍ، الشخصُ المُقيّمُ المُنصِفُ - في آنٍ واحدٍ - في أنْ يُثمّن ويُغبِط الصَفحةِ الناطقةِ لثقافةِ المُتحدّثِ اللّبقِ النِّحرِير لِهُنيهةٍ، مِن أمامِه؛ المُنطلِق شَفافيةً ووُضُوحًا، في تجاذُبهِ الهادئ، لأمتَعِ وأروَعِ وُصَل أطرافِ الحديثِ الوِدّي السلِس، بأنّه قد مَلكَ زِمامَ أفكارِه النيّرة؛ وتأبّطَ قِيادةَ دِفافِها السالكةِ، بين جَنبيهِ؛ وقد أحسنَ كَفاءةَ الإظْهارِ الزاهِر؛ وأجاد لِياقةَ الجَهرِ الفاخِر بمَحاسِنِها، مِن فوقِ ناصيةِ مِقرَأ مِنبرهِ الحُرّ الجَاذبِ، وقد صاغَ أنيق مُفردات حَديثهِ صِياغةً حَسنةً مَغبوطةً؛ وأخرجَها إخراحًا بارِعًا مُتقنًا، كما تُخرجُ النّحلةُ الرشيقةُ أريحيةً، سَائغَ شَهدِها الصافِي الشافِي بودٍ مَلحوظٍ؛ وتُهدِي دُودةُ القزّ المَمشوقةِ تَفضّلًا، ثَمينَ شَمع خُيوطِها الناعمةِ ”العَسجدِيةِ“ بتكرّمٍ مَشهودٍ، دُونمَا مَنٍ مِن ضَجيجٍ أَجوفٍ، أو إرفادٍ مِن عَجيجٍ ”مُستَلطفٍ“ لتُمتِعا معًا، بزخمٍ بادٍ، بوافِر رَيعِ إهداءِ نِحلَةِ مَقامِ المَانِحتين: ”النحلة ودودة القز“ الرشيقتَين، شَغفِ الأَذواقِ الحاضِرةِ المُقيّمةِ، حَلاوةً وطَلاوةً، لِمنحةِ العطاءِ السّنِيّةِ؛ لتُسدِيا بأقصَى سَخائهما الثمين، لَذّةَ الأذواقِ، حَلاوةً ومُتعةً؛ وتَكسُوا نُعومةَ الأَجسادِ قَسامةً ووَسامةً…!
هَذا، وعَلى خَلفيّةِ نَقيضِ ألقِ صَفحةِ رِقاعِ الثقافةِ العامةِ الناضحةِ الناطقةِ انبهارًا صَارخًا، يَنطمِسُ صَقِيلُ لَمعانِ السطوعِ المّعرفِي المُدوّي انحِسارًا مَلحُوظًا؛ وتَأفلُ بزوغُ وصُدوعُ ثقافةِ الفرد المُتحدّثِ اعتِدادًا مُثبّطًا، لجذبِ ناصعِ مَتنِ المعرفةِ العارفةِ، باحتِجاب أبجدياتِ الثقافةِ العامةِ، عَن مخزُونِ باقةِ سَائر مُحتوى حَافظةِ عَبقريةِ الفِكر الألمعِي المُتجدّد…! وفي طيفِ ناصيةِ دِيباجةِ سَردِ أُقصُوصَةِ هذا السياقِ المُتواضِعِ، أتذكّر - بتَامّ جَلاءٍ ووُضُوحٍ - في الثلثِ الأخيرِ، قبل نهايةِ عَقدِ السبعينيات، مِن القرنِ الميلادي المُنصرمِ، فَورَ وُصولِي إلى أمريكا، للدّراسةِ الجامعيةِ في مِنحةِ دراسيةٍ حُكوميةٍ، مَوقِفًا مُحْرِجًا، لَا أكادُ أنساه مَا حَييتُ؛ ولَا يُحسَدُ مْتسائلُه ”حامل الدكتوراة“ المُتبحّر في مادّةِ تخصّصهِ العلمي، الذي يسألني - بعدم دِرايةٍ وثقافةٍ - عَن مَوقع المملكة العربية السعودية، على خريطةِ العالم…! مع أنّي الطالب القادم إلى أمريكا، قد دَرَستُ، في مادّةِ الجُغرافيا، في سنةِ الكفاءةِ مِن المرحلةِ المتوسطةِ، عَن مَوقعِ أمريكا الجُفرافِي؛ وكذَا تضاريسِها الطبيعيةِ؛ وأهمّ مُدنِها، وثرواتِها الاقتصاديةِ... ولَاحِقًا، تابعت عَن كَثبٍ، مُختلف أهمّ الأخبارِ في صَميم الساحةِ الأمريكيةِ العامّةِ، مِن خلالِ مَهارةِ القراءةِ الحُرّةِ، ووَسائلَ الإعلامِ المعروفةِ، آنذاك…! وفي جَعبةِ ذَاكرتِي المُتواضعةِ مَوقفٌ مُماثلٌ، عَاصرته في النصفِ الأولِ، مِن فترةِ الثمانينيات المُنصرمةِ، في ولاية تكساس الأمريكية نفسِها… ففي غابِر إحدَى الإجازات القصيرةِ، قد أُتِيحَ لِي السفر بالسيارة، بمعيةِ زميلي، المُبتعث السعودي، مِن مدينة ”دِنتون“ في شمال الولاية ذاتِها، إلى مدينة ”أوستن“ العاصمة، في وَسطِها، والتي تبعُد فيمَا لَايقلّ عن ثلاتِ مئةِ مِيلًا، عن مدينة دنتون؛ وهُناك استمتعت بالتسوّق في رُبوع العاصمةِ الجميلةِ… وعِند ارتيادي لإحدى الأسواق الكُبرى أعجبتني تُحفةٌ فنيةٌ ثمينةٌ؛ ولَعلّها القطعة المعروضة الوحيدة هناك؛ فعزمت على شِرائها بشيكٍ مَصرفِي مَسحوبٍ على مَصرِف بمدينة دنتون التي تبعُد «300» ميلًا عن العاصمة أوستن والمُفارقة الطريفة، أنّ ثمنَها يزيد على مئة دُولارٍ؛ وحَسب العُرفِ السائدِ آنذاك، لَا يُمكن تصديق وإجازة الشيك المسحوب على مَصرِفٍ يبعد أكثر مِن مئة مِيلًا، عَن العاصمة، وعِندمَا عاين مُدير السوق الشيك المُحرّر لصالِحه سَألني عن المسافة التي تبعد دنتون عن أوستن فأجبته «جُزافًا مُماثلًا لحصيلتهِ الثقافيةِ» بأقلّ مِن مئةِ ميلٍ؛ لرغبتِي الجامِحةِ، في شراء واقتناء تلك التحفةِ الفنيةِ الفاخرةِ؛ ولاختبارِ ثقافة المدير الجغرافية... وعليه، أجاز المدير الشيك، دُون المعرفة بأبعادِ الأحوالِ الجغرافيةِ، وكُبرياتِ أهمّ مُدنها داخل الولايةِ ذاتِها، التي يَسكُنها...!
وهناك مَحطُّ مَوقفٍ ثقافيٍّ مُشرّفٍ آخر، لَاحظته، أثناء فترة دِراستي، هو أنّ جامعة ”نورث تكساس“ تطرحُ كُتيّبًا ”بكُورساتٍ“ تعليميةٍ - تثقيفيةٍ قصيرةٍ، على مِنوالِ ”التعليم المستمر“ مع بدايةِ كلّ فصلٍ دِراسيٍّ، عَادةً مَا تكُون في الفترةِ المسائيةِ، يُعلَن فيه عن مُدّتها، وتَكلفتها، ومَكان حُضورها؛ ويقومُ بعمليةِ التدريسِ والتدريبِ ثلّةٌ مِن أكفأ الأساتِذة والمدرّبين الميدانيّين، وأكثرهم خِبرةً... وقد سعِدتُ واستمتَعتُ بمُلاحَقتِها؛ وذلك لإثراء حَصيلتي الثقافيةِ، مِن جهةٍ؛ وتطويرِ مُختلفِ المهاراتِ المعرفيةِ والعمليةِ، التي أحتاجها، في قادِمِ مَسيرةِ قِطار ِحَياتَي العمليةِ مُستقبلًا، مِن جهةٍ أخرى… عَلاوةً على ذلك المدّ التثقِيفي الماتِع، أضيفُ أساسَ أرصدةٍ لُغويةٍ - عَمليةٍ مُوسّعةٍ، لَا غِنى لي عنها، لصالِح تخصّصي، كدارسٍ مُتخصّصٍ في اللغةِ الإنجليزيةِ؛ والجديرُ بالذّكر، أنّ بعضَ المُلتحقِين بتلك الكورساتِ القصيرةِ هُم مِن حَمَلةِ شهادةِ درجة الدكتوراة والماجستير، وفي مُختلف مَجالات التخصّصات العلميةِ والأدبيةِ، مِن الجنسين… وقد انتهيتُ باغتنامِ كَنزٍ ثمينٍ مِن الحصيلةِ الثقافيةِ العامةِ، في مَنظومات مُختلفِ العلومِ والفنونِ؛ ومَعرفةِ أهمّ مُصطلحاتها الفنيةِ؛ ومِنها - على سَبيل المثالِ - كورس عملي في معرفةِ ضَبطِ وصِيانةِ أجزاءِ السيارةِ؛ ومِثله في فنّ أساسيات الكتابةِ؛ وثالث، في القراءةِ السريعةِ؛ ورابع في فنّ مَهارات الخط، وتشكيل أنواع الخطوط… وقد أفادني ذلك الطيف المُثقِّف المُتنوّع، مِن مختلف الكورسات، في حَياتِي العمليةِ، لَاحِقًا…!
ولعلّه مِن نافلةِ القولِ الصائبِ، في مَجالِ توسِيعِ وتنويعِ دائرةِ حصيلةِ الثقافةِ الذاتيةِ، تتسابقُ خمسةٌ مِن العوامل البنائيةِ الأسَاس، في تشكيلِ رِداءِ الثقافةِ الفاخِر؛ وبَلورةِ أوشِحةِ الدرايةِ والعنايةِ الفكرية المُتيقّظةِ؛ «أولها ذكرًا: زرعُ مُفتاحِ الإحساسِ؛ وإشعالُ مِصباحِ الرغبةِ الذاتيين المُواكبين للتزوّد الذاتي مِن مختلف أحدثِ أسفاطِ العلومِ المتاحةِ، في صميم أوساطِ الساحةِ الثقافيةِ العامةِ. وثاني تلك العوامل وُرُودًا: ارتياد المكتبات القريبةِ، والإكثار مِن قِراءةِ الكتبِ، والصّحفِ اليوميةِ والمَجلّاتِ الدوريةِ؛ بهدفِ تغذِيةِ مَهارةِ التحدّثِ الطلِق؛ وتعزِيز ِصِياغةِ الكلامِ المُوجّهِ المُفيدِ، مَع ثقافةِ الآخرين. وثَالثها: الحرصُ الدائبُ على حُضورِ برامجِ النّدواتِ، والمُنتدياتِ، والمُؤتمراتِ العلميةِ والثقافيةِ المتاحةِ؛ لإثراء ذائقةِ الفكرِ المُتجدّدةِ؛ وإنعاشِ رَصيدِها الثقافي. ورَابعها: إحياءُ مُتعةِ السفرِ الحرّ إلى مختلف البلدان؛ للاطّلاعِ على حَضاراتِ وثَقافاتِ وفُنونِ تلك الأُممِ المُعاصرةِ، عَن كَثبٍ؛ ومَدّ وتوسِيع دائرةِ التعارُفِ والتحدّثِ، مع الغُرباء؛ رَغبةً ذاتيةً في تَصاهُر وتَمازُج أطياف الثقافات، في جَوفَ جَعبةِ بوتقةٍ واحدةٍ؛ ومثلها، تَعزيز مَنظومةِ الجوانبِ الثقافيةِ والإنسانيةِ المُشتركةِ. وخَامسها: مُواكبةُ الأستماعِ إلى نشراتِ الأخبارِ اليوميةِ المُصوّرةِ، ومَعرفةِ مَا يَجرِي ويَسرِي، مِن أهمّ سَلاسلِ ومُجرياتِ الأحداثِ العالميةِ» * هذا، ولَن أتأخّرَ في إهداء ديباحةِ الختامِ، المُذيّلةِ بعبارةِ القولِ المأثورِ الرصِينِ: «اقرأ شَيئًا في كلّ شيءٍ؛ ولَا تقرأ كلّ شيءٍ في شيءٍ». والله ولي التوفيق، وهو الهادِي إلى سَواءِ السبيل!