آخر تحديث: 23 / 11 / 2024م - 1:35 م

أراجيز الطف 44

محمد أحمد التاروتي *

تحمل أرجوزة الشهيد جنادة بن كعب الأنصاري، في يوم عاشوراء، كافة معاني الشجاعة، والإقدام والثبات على الحق، وعدم التراجع عن الطريق المستقيم، من خلال التمسك حتى الرمق الأخير بالبيعة، التي تطوق رقبته تجاه الإمام الحسين ، فضلا عن الاستبشار بالموت على تراب كربلاء، بجوار سبط المصطفى ، فهو على استعداد التضحية بالروح، في سبيل الحفاظ على البيعة، التي عقدها مع الإمام الحسين ، والدفاع عن العترة الطاهرة.

الشهيد جنادة بن كعب يبدأ أرجوزته، في معركة الطف، كما جرت العادة لدى الكثير من شهداء كربلاء، بالتعريف بالذات والتفاخر بالنسب والعشيرة، فهذه الطريقة تمثل الوسيلة المثلى لإعطاء العدو الصورة الواضحة، للبطل المتقدم إلى القتال وطلب المبارزة، لاسيما وأن العدو لا يعرف هوية المقاتل في الغالب، الأمر الذي يستدعي إماطة اللثام عن شخصية البطل المتحفز للنزال، فالشهيد جنادة بن كعب، ينطلق في التعريف بالذات عبر استخدام ”جناد“ أولا، ويردف اسمه والده ”ابن حارث“ ثانيا، لإزالة الغموض واللبس لدى الجيش الأموي، بالإضافة للإجابة على التساؤلات الحائرة في عقل العدو، فضلا عن بث الخوف في قلوب الألوف المتحفزة للقتال، خصوصا وأن الشهيد جنادة بن كعب من الشجعان العرب، مما يعني أن الموت سيكون مصير كل شخص، يحاول الاقتراب منه، أو الرغبة في مبارزته بساحة المعركة، حيث يقول ”أنا جناد وأنا ابن الحارث“.

بينما ينتقل الشهيد جنادة بن كعب، في عجز البيت الأول، من الأرجوزة، إلى امتلاك الإرادة الصلبة في مواجهة الجيش الجرار، دون خوف أو وجل، انطلاقا من المبادئ الإسلامية والأخلاقية، التي تربى عليها، فهو لا ينقض العهود التي قطعها على الإطلاق، حيث يفضل الموت وقطع رقبته، على التراجع أو النكوص على العهد الذي قطعه، فالشهيد جنادة بن كعب، يستخدم مفردة ”خوار“ للدلالة على امتلاك الشجاعة والإقدام، خصوصا وأن مفردة تحمل ”خوار“ معاني الضعف والجبن والخوف وكافة الصفات الذميمة، وبالتالي فإنه يحاول إعطاء العدو صورة واضحة، على مقدار الشجاعة التي يمتلكها في ساحة القتال، نظرا للقيم التي يحملها والمبادئ التي يتمسك بها طيلة حياته، فالعدو لن يرى سوى البسالة، والإقدام وعدم التردد في القتال، انطلاقا من العهد الذي قطعه أمام سيد الشهداء ، بالقتال حتى النفس الأخير من حياته، والرغبة الصادقة في نيل شرف الشهادة، والالتزام بالواجب الديني المفروض على كل مسلم، في الدفاع عن ريحانة المصطفى ، في مواجهة معسكر الباطل والنفاق، والمتمثل في جيش عبيد الله بن زياد، حيث يقول ”لست بخوار ولا بناكث“.

يتناول الشهيد جنادة بن كعب، في الشطر الأول من البيت الثاني، من الأرجوزة، العلاقة الرابطة مع سيد الشهداء ، فهو لا ينطلق في النزول إلى ساحة المعركة، من عصبيات قبلية، أو أغراض شخصية، أو رغبة في الانتقام، أو غيرها من الأسباب الدنيوية، وإنما ينطلق من عهد وثيق الزمه في الوقوف بشموخ، في أرض كربلاء لحمل السلاح والرغبة في الدفاع، عن سبط المصطفى ، فهو ملزم بالعهد الذي قطعه أمام الله ورسوله بحماية العترة الطاهرة، ومن ثم فإن الغرض الذي يحركه يختلف عن الأغراض الدنيوية، التي تحرك الجيش الأموي، فطاعة الله ورسوله تمثل الغاية الحقيقية، وراء الرغبة في الشهادة، لاسيما وأن طاعة سيد الشهداء طريق إلى طاعة الله ورسوله، باعتباره حجة الله على الأرض، فالشهيد جنادة بن كعب، يتحدث صراحة عن ”البيعة“ التي تطوق عنقه، تجاه ريحانة المصطفى ، مما يفرض عليه الالتزام تجاه هذه البيعة بما كل ما يملك، وبالتالي فإنه لا يملك في يوم عاشوراء سوى نفسه، التي يقدمها رخيصة في ذات الله، والامتثال للرسول ﷺ في الدفاع عن أهل بيت النبوة، حيث يقول ”عن بيعتي حتى ترى موارث“.

يتحدث الشهيد جنادة بن كعب، في عجز البيت الثاني من الأرجوزة، عن السعادة التي ينتظرها بعد نيل الشهادة، حيث سيرتقي مع كوكبة الشهداء في ساحة الخلود الأبدي، مما يجعل نفسه ”طيبة“ بالمصير الذي ينتظرها، بعد انتقال الروح إلى خالقها، لاسيما وأن وسام الشهادة سيعلق على الرقبة، ويحصل على الشرف الرفيع، فالمعسكر الذي يقف إلى جواره يدافع عن الحق والمبادئ والقيم، فيما معسكر عمر بن سعد تحركه الأطماع الدنيوية والمناصب الزائلة، الأمر الذي يكشف الفوارق الكبيرة في المنطلقات والمرتكزات، التي تفصل بين الفريقين، فالشهيد جنادة بن كعب، يتحرق شوقا إلى الشهادة، والموت في سبيل العهود التي قطعها، في الثبات على الطريق حتى اللحظات الأخيرة من حياته، فهو لا يرى بأسا في بقاء جسده مقطعا على ”الصعيد“، مقابل التمسك بالبيعة التي قطعها على نفسه، في الدفاع عن سيد الشهداء ، حيث يرى ”النكث“ عن البيعة عارا على صاحبه، ولا يليق بصاحب المروءة، التراجع عن العهود التي قطعها على نفسه، وبالتالي فإن ”الناكث“ ستبقى وصمة عار تطويق جبين صاحبها في الحياة، وبعد الممات، حيث يقول ”سلوى في الصعيد ماكث“.

وتنقل كتب السير أن الشهيد جنادة بن كعب الأنصاري قاتل في كربلاء، وقتل في الحملة الأولى، وكان يقول وهو يقاتل:

أنا جناد وأنا ابن الحارث
لست بخوار ولا بناكث

عن بيعتي حتى ترى موارث
سلوى في الصعيد ماكث

كاتب صحفي