أراجيز الطف 27
يبتدئ الشهيد محمد بن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب أرجوزته، في معركة كربلاء الخالدة بالتوجه إلى الخالق، بالشكوى من الاعتداء الآثم للجيش الأموي، الذي زحف نحو سيد الشهداء ، لارتكاب أكبر الفظائع على الإطلاق، بالإضافة إلى وصف معسكر عمر بن سعد بالعمى، وعدم رؤية الحق، والسير وراء الأطماع الزائلة، فضلا عن إصرار الجيش على إظهار الكفر والطغيان، في الوقوف أمام سبط الرسول الأكرم ﷺ.
ينطلق في الشطر الأول من الأرجوزة، من الشكوى إلى الخالق، باعتباره الملجأ الأول والأخير في جميع الامتحانات الدنيوية، حيث تظهر الكلمات القليلة مدى التعلق بالخالق، وكذلك إظهار القيم الإسلامية المتجذرة، في هذه الكوكبة القليلة الناصرة لسيد الشهداء في يوم عاشوراء، فاللجوء إلى الله يمثل قمة الإيمان، ويرسل رسالة واضحة بعدم الخضوع للخوف من القتال، مهما كانت قوة العدو، أو الأعداد الكبيرة التي اجتمعت ساحة المعركة، حيث يقول في الشطر الأول من الأرجوزة ”نشكو إلى الله من العدوان“، وبالتالي فإن الشكوى إلى الخالق تكمن من العدوان الآثم، الذي اجتمعت عليه تلك الجيوش الكبيرة المحتشدة، في صحراء كربلاء لإراقة الدماء الطاهرة، الواقفة بكل شموخ وعزة في معسكر الإمام الحسين .
فيما يصف في عجز البيت الأول من الأرجوزة، حالة الجيش الأموي، والتي تتمحور في انعدام البصيرة، وفقدان القدرة على رؤية الحق، فالوقوف إلى جانب الجيش الأموي يمثل قمة ”العمى“، خصوصا وأن مكانة ومنزلة الإمام الحسين ، ليست خافية على الجميع، فالأمة الإسلامية تعرف سيد الشهداء باعتباره سبط الرسول ﷺ، وبالتالي فإن حمل السلاح في وجه غريب الغرباء ، لا يخرج عن انعدام الرؤية، والإصرار على تجاهل الحقائق الدامغة، فالذنوب والمعاصي، تشكل إحدى العوامل للإصابة بفقدان البصيرة، والسير في طريق الضلال، فالشهيد محمد بن عبد الله بن جعفر يعتبر القتال ضد الجيش الأموي أمراً حتمياً، نتيجة الإصابة بالعمى، وعدم الانصياع لصوت الحق، بمناصرة سيد الشهداء ، والإصرار على الوقوف خلف عبيد الله بن زياد، حيث يقول ”قتال قومٍ في الردى عميان“، وبالتالي فإن النصح ومحاولة إزالة الغشاوة، عن عيون الألوف من جيش عمر بن سعد، بمثابة إضاعة الوقت، خصوصا وأن الشيطان استحوذ عليهم، ودفعهم للمشاركة في ارتكاب أكبر الجرائم في التاريخ الإسلامي.
في الشطر الأول من البيت الثاني من الأرجوزة، يضع الشهيد الإصبع على أهم الأسباب، وراء فقدان البصيرة، وإصابة الجيش الأموي بالعمى، حيث يعتبر الابتعاد عن معالم القرآن، أحد الأسباب الرئيسية، وراء الانخراط في طريق الضلال، والسير خلف مطامع الدنيا، فالتمسك بالقرآن يشكل حاجزا من الوقوع في فريسة سهلة لإغراءات الشيطان، وعدم الانصياع وراء الأطماع الزائلة، بينما الانحراف عن جادة الصواب، مرتبط بترك القرآن وراء الظهر، وبالتالي فإن الجيش الأموي يتحرك من دافع الطمع الدنيوي، فالجائزة التي وضعها عبيد الله بن زياد، لتشجيع الناس على قتال الإمام الحسين ، حركت النفوس المريضة لدى معسكر الجيش الأموي، فقائد الجيش عمر بن سعد وجد نفسه في مواجهة سيد الشهداء ، طمعا في نيل حكم ”الري“، وبالتالي فإن، الكلمات القليلة من الشطر الأول من البيت الثاني، كشفت مستوى الوعي لدى الشهيد محمد بن عبد الله بن جعفر، في الوصول إلى العلة الكامنة، وراء إصرار معسكر بني زياد على الدخول في القتال في كربلاء، حيث يقول ”قد تركوا معالم القرآن“.
وفي عجز البيت الثاني من الأرجوزة، يتناول القرآن عبر التحدث عن الآيات الكريمة، حيث تتضمن التنزيل والتبيان، مما يشكل إضاءة للراغب في السير على طريق النجاة، والابتعاد عن جادة العمى، فالقرآن الكريم يحمل في طياته، جميع معالم الرشاد والهدى، بحيث تقود الإنسان المسلم إلى الفوز بالجنان، والابتعاد عن الجهيم، وبالتالي فإن الابتعاد عن معالم القرآن يمثل الهاوية، والانخراط في الطرق الخاطئة، جراء فقدان الرؤية السليمة في انتهاج الطريق السليم، بحيث تكون نتائجه وخيمة في الدنيا قبل الآخرة، الأمر الذي تجلى في مصير الجيش الأموي، الذي لقي الجزاء العادل، في الدنيا قبل الآخرة، حيث يقول ”ومحكم التنزيل والتبيان“.
ويتعرض الشهيد في الشطر الأخير من الأرجوزة، إلى صفة من الصفات البارزة في الجيش الأموي، فالجموع المتحفزة لإراقة دماء سيد الشهداء وأهل بيته، لا تتورع عن إظهار الكفر والطغيان، خصوصا وأن جميع محاولات النصح التي سبقت بدء معركة كربلاء الخالدة، سواء من أصحاب الإمام الحسين، أو الخطب التي ألقاها سيد الشهداء ، لم تجد استجابة من لدن معسكر بن سعد، جراء الأقفال الجاثمة على القلوب، فالطغيان يقطع الطريق أمام وصول كلمات النصح إلى القلوب، مما يسهم في الإصرار على مواصلة مشوار الضلال، فالرغبة في قتال سيد الشهداء ، تظهر الكفر لدى الجيش الأموي، خصوصا وأن مكانة الإمام الحسين ليست خافية على أهل الكوفة، فهؤلاء لم ينكروا المقام الرفيع لسيد الشهداء ، وإنما أصروا على القتال طاعة لأمير الكوفة عبيد الله بن زياد، وكذلك بغضا للإمام علي بن أبي طالب .
وتنقل كتب السيرة أن الشهيد محمد بن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب ارتجز عندما برز إلى القتال في ساحة الميدان قائلاً:
نشكو إلى الله من العدوان
قتال قومٍ في الردى عميان
قد تركوا معالم القرآن
ومحكم التنزيل والتبيان
وأظهروا الكفر مع الطغيان