بازار كرة اليد واقتصاديات العواطف الرياضية
في مباراة تاريخية يمكن وصفها بذات القوارير لأنها شهدت إلقاء جماهير الخليج لقوارير الماء على الحكام في الملعب، انتصر النور على الخليج وتوج بطلأ لبطولة الكأس، أو ما تعرف اليوم ببطولة الأمير سلطان بن فهد، وجاء تقرير صحيفة الرياض الذي أعده الإعلامي محمد الشيخ آنذاك محتفيا بتتويج النواخذة والأكاديمية على حد وصفه، معتبرا أن النور قد لقن الخليج درسا في التفاني من أجل الشعار، وهذا التعبير الأخير وجد له صدى في تعليق أحد القراء يومها وهو يوسع من دائرة دلالته بالقول: درس لباقي الاندية فريق بلا موارد مالية ولا دعم ولكن حب الشعار واخلاص للنادي.
هذه المباراة حدثت قبل 13 عاما، أي قبل مايزيد على عقد كامل من الزمن، وهي تذكرنا بشكل أو بآخر بفكرة الاستثمار العاطفي للعلاقة بين اللاعب والنادي وكذلك النادي والجمهور، فحتى رمي القارورات هو تعبير صريح عن التفاعل العاطفي الذي ينتهي إلى الشعور المفرط بالخيبة حين بلوغ الهزيمة أو الإحساس بانسيال حظوظ الفوزوهروبها من أمامنا، الأمر الذي قد يمتزج أحيانا مع انفعالات غير سوية تنتهي إلى سلوكيات كتلك الواردة في التقرير، والجمهور بدوره ينتظر الكثير من اللاعبين على هذا الصعيد العاطفي، أي المشاركة في حب هذا الفريق/الشعار وتقديم ما يشفع لهم تحقيق الانتصارات والألقاب.
وبعيدا عن نوايا التقرير إياه، والتي لا تخفي قناعتها بأن لاعبي الخليج لم يكونوا على ذات السوية وذات الاحساس بالانتماء للفريق، تحضر فكرة اللعب من أجل الشعار اليوم كواحدة من العناوين السجالية في فضاءات التواصل، وبالتحديد مع انفتاح رياضة كرة اليد على سوق الانتقالات ضمن بازار كبير يحضر فيه المال في صورة لم يعهد مثلها على صعيد هذه الرياضة خلال العقود الفائتة، فكلما انتقل لاعب من فريق لآخر وجد المشجعون أنفسهم في لحظة ارتباك أمام ما كانوا يرددونه من كلام عن ”حب الشعار“ عند اللاعب سين واللاعب صاد، وما كانوا يفهمونه من هذا التعبير من دلالات ويتباهون به من خيالات وصور.
اليوم بات الحب لمن يدفع أكثر، يقول أحد المحبطين من هذا البازر الكبير، لمن يذكر اللاعب بقيمته السوقية ويهبه حضورا متجددا في مؤشرات البيع، لن تعبر الأخبار المتداولة عن هروب لاعب هنا أو لاعب هنا باتجاه الفرق المنافسة دون تمحيص وتفتيش وسؤال عن علاقته بالنادي، وأسباب تخليه عن الشعار، فالشعار بالنسبة للجماهير المتحمسة ليس سوى المدينة أو القرية التي يريدون لها أن تظل منتصرة وحاضرة على منصات الشرف والتتويج، لا يمكن أن نغفل هذا المزاج أو ندعي غيابه عن مشهد كرة اليد، فحتى الانزياحات التي لحقت بطريقة إدارة اللعبة وشروط نجاحها، لم تبدل كامل المزاج القديم للجماهير التي تنتظر من لاعبيها ولاء مطلقا للفريق، وتقديما للشعار على المال، طالما كان ذلك ممكنا، والذي تلخصه قصيدة الشاعر أحمد الطوال بعتابها للراحلين عن نادي النور بالقول: اللي يودك ترى ميروح عنك أبد/وافي يظل ملتزم مهما بدت حيرته.
فهل حقا ذهبت فكرة ”حب الشعار“ أدراج الرياح في كرة اليد؟
يمكن القول ببساطة أن ”حب الشعار“ خرج من حيز دلالة إلى دلالة أخرى، فكل لاعب محترف - ومحترف هنا نريد به اللاعب المتمرس والمجيد لأدواته والعارف لواجباته، نظرا لعدم التفرغ التام للاعبين - يعرف أن واجبه التفاني من أجل الفريق الذي يلتحق به، وأنه في اللحظة التي انتقل فيها لفريق جديد، بدأت هنالك علاقة جديدة محمولة على المصلحة المشتركة لتحقيق الأهداف المنشودة له، وهذا عينه ”الاحتراف“ و”حب الشعار“ والذي يعني فيما يعنيه الإخلاص في العمل وبذل قصارى الجهد لتحقيق أفضل النتائج.
وهكذا فإن الولاء مشروط، والحب مؤقت عند اللاعبين، بينما المشجعون وحدهم أكثر الناس قابلية للولاء الدائم والحب غير المشروط للأندية، طالما ظلت رابطتهم العاطفية متصلة بالفريق وليس الأفراد، وبالمكان وليس الأداء، إلى أن نصل للحظة التي يتحرر عشاق اللعبة من هواجس المكان، ويتمثلوا نموذج المشجع الزبون في عالم التشجيع، ممن يبحث عن صورة الفريق ”البراند“، صاحب الأداء وصانع الانجاز، ومن يملك أن يهبه قيمة أمام الآخرين، فمن دون انجاز يشعر المشجعون بأنهم لا ينالون التقدير الذي يستحقون.