آخر تحديث: 29 / 3 / 2024م - 11:37 ص

الشعر العربي واستضافة الآخر

محمد الحرز * صحيفة اليوم

ماذا يعني أن تستضيف الآخر في قصيدتك، أو حسب عبارة الشاعر والباحث محمد بنيس ضيافة الآخر؟

لا شيء يؤدي معناه أقوى من عبارة «التجديد»، فهو الدافع الذي لازم تاريخ القصيدة، منذ أن أغلق الجاحظ الباب على الشعر العربي، وأحكمه من الداخل برتاج قوي من خلال مقولته «وفضيلة الشعر مقصورة على العرب، وعلى من تكلم بلسان العرب».

ومنذ أن أصبح الشعر ذاته قد استحوذ على فضاء الهوية القومية، وهيمن على عناصر قيمها، التي تمثل الشخصية العربية، ومنذ أيضًا أصبح هو المنبع الذي نهضت بسببه العلوم الإسلامية في شتى فروعها، واستمدّت قوتها من غنى لغتها وثراء دلالاتها.

وفي هذا السياق يقول الباحث جمال الدين ابن الشيخ، في كتابه الشعرية العربية «لقد اعتبر الإنتاج الشعري الذي جمعه اللغويون متنًا على درجة كبرى من التمثيلية، ينبغي استخدامه لصياغة المعارف اللغوية».

ناهيك بالطبع عن نظرة القداسة التي أحيطت بالشعر «بالخصوص الجاهلي منه» نظرًا إلى قداسة اللغة العربية التي نزل بها الوحي «بلسان عربي مبين».

لذلك ما أن أطل القرن الثالث الهجري برأسه، حتى ترسخ ما كان قد انبثق عن هذا التحالف بين مفهوم القداسة والوحي من جهة، وبين اللغة والشعر من جهة أخرى، مفهوم آخر هو الإجماع، وهو مفهوم شرعي - كما يؤكد على ذلك الباحث نفسه - رُحّل من العلوم الدينية إلى العلوم اللغوية والأدبية. وأصبح معيارًا يحتكم إليه الاختلاف الحاصل بين النقاد واللغويين، مثلما كان يحتكم إليه علماء الدين في اختلافاتهم الشرعية.

يقول ابن سلام الجمحي في طبقات فحول الشعراء: «وقد اختلف العلماء بعد في بعض الشعر، كما اختلفت في سائر الأشياء، فأما ما اتفقوا عليه فليس لأحد أن يخرج منه».

لكن هذا السياج من الصلابة والمتانة الذي أحيط به الشعر، هل ظل صامدًا لم يتم اختراقه، ولم يتم تخطيه أو تجاوزه، بعبارة أكثر بساطة، ماذا نسمي شعر أبى تمام وأبى نواس، إذا ما اكتفينا بهذين الشاعرين الحداثيين فقط، أليس في تجربتهما خروج على مفهوم الإجماع؟!

هذه حقيقةٌ غدتْ إحدى المسلمات في التراث الشعري العربي، وليس ثمة أحد باستطاعته أن يقول خلاف ذلك.

لكن ما أود التساؤل حوله هنا، هو الدافع الذي يفضي بالشاعر أو القصيدة إلى تخطي السياج «الإجماع» أو تجاوزه؟

أعلم تماما الاجتهادات والإجابات والبحوث التي قاربت مثل تلك الدوافع، الذي أحالها بعضهم إلى التحول من حياة البداوة إلى الحياة الحضرية في المدن الكبرى، كبغداد والبصرة ودمشق، كما أحالها بعضهم الآخر إلى تسرب ثقافات الشعوب الأخرى، كالفارسية والهندية، وامتزاجها بتأثيرها القوي في حياة العرب.

قد تجيب هذه الإحالات «جزئيًا» عن المعنى العميق، الذي يجعل شاعرين مثل أبي تمام وأبي نواس يتمردان على سلطة الإجماع.

لكن الإحالة الأكثر عمقا في ظني هي باستضافة القصيدة للآخر، أيًّا كان هذا الآخر، سواء كان على مستوى المضامين أو على مستوى الشكل، وهذه الاستضافة هي إحدى الشروط الكبرى لحداثة القصيدة وخروجها عن التقليدية، ولكون أن القصيدة لم تعرف تطورًا في الشكل من خلال الخروج على عموده وأوزانه، قبل منتصف القرن العشرين، بسبب فقدان الترجمة للشعر عن الآداب الأخرى، وانتفائه عن أفق اجتهادات الشعراء.

فإن الأفق المتاح للحداثة في حينه هو أفق المضامين، ومن يتصفح ديوان الحماسة لأبي تمام يدرك حقيقة ما أقول.