قطة سوداء في ليل حالك
يبدأ الفكر الحديث بحسب برتراند راسل بالشك وينتهي إليه. كل شيء ينبغي إخضاعه للشك، باستثناء الشك ذاته الذي هو تعبير عن الذات المفكرة. ديكارت كان الشرارة. كان البداية التأسيسية. بدأ هذا الفكر بالشك المنهجي، الكوجيتو، شاقاً طريقه نحو مسارات تنتهي بتقويض المسلمات والأحكام المسبقة ونزع البداهة عن البداهة، وصولاً نحو إنهاك العالم بضجيج النقد. فالنقد قيمة القيم التي يرى فيها راسل تبريراً كافياً للفلسفة، والمعادل المعرفي للشجاعة كقيمة أخلاقية ضرورية في كل مجتمع سوي.
كان الشك إذن رافعة فكرية للحداثة، والشك إنساني، ذلك لأن إنسان الأزمنة الحديثة وجد ذاته وحيداً مرمياً في صحراء شاسعة من المعنى دون سند أو معونة «هايدغر». وعليه تأسست السمات الذهنية للعصر الحديث، تلك التي يحددها الفيلسوف الألماني هايدغر بالعلم والتقنية الميكانيكية وأنسنة الفن والإبداع والتاريخ، وبالتالي «علمنة» شتى تجليات الروح، فصار الفن تعبيراً عن الحياة الإنسانية، وتم تدشين التأويل الثقافي لكل مساهمات التاريخ البشري، فكل ما يبدو على أنه متعال بدا منتجاً بشرياً صرفاً وصولاً للانسلاخ التام من الميثولوجيا، والتأسيس البشري الذاتي لكل فلسفة ممكنة.
الفلسفة بيت مشكلات بلا نوافذ يقينية. يحثنا راسل على تبجيل غياب اليقين بصفته قيمة مركزية: «إن قيمة الفلسفة هي في الحقيقة بما تكون عليه من عدم يقين بالذات». هناك عجز مزعج في التفكير الفلسفي، هناك فجوات، أجوبة ناقصة، عواقب تدميرية تلحق الأضرار بالمألوف والاعتيادي، مفاعيل انعتاقية غير محسوبة، تهديد بإفساد العقول وإفشاء جسارة الأسئلة، هناك في التفكير دائماً وأبداً شيء ما مزعج ومقلق، لكن مع ذلك يلح راسل على المداواة بالداء ذاته، بالمزيد من التفكير لا بالحد منه، بالتحرر من الفلسفة بالفلسفة ذاتها، تحريرها من الدوغمائيات بالشك والنقد، فراسل يجعل من التفكير حراً على نحو راديكالي.
غير أن لتحرير الفكر تبعات وعواقب وأخطار. راسل نفسه دفع ثمناً باهظاً. عاش حياة مديدة تقارب القرن «1872 - 1970» قضاها وفياً لمفهومه للفلسفة والتفلسف كماهية نقدية، كان مثقفاً بالمعنى النبوي للكلمة، وكان عصياً على التعريف، نعت بالليبرالي حيناً والاشتراكي وداعية السلام حيناً آخر.. لوحق وسجن، وتعرض لجميع أشكال العنف الرمزي والتشويه من الاتجاهات النقيضة. عقد برفقة سارتر محكمة ضد الحرب في فيتنام أواخر الستينات. كان اسمه ذاته تهمة في الأوساط المحافظة التي جنّ جنونها عندما دعي للتدريس في إحدى الجامعات الأمريكية، لكن نفوذه المعرفي لم يتأثر وهو الحائز على جائزة نوبل تقديراً لدفاعه عن حرية الفكر، فقد كان رياضيا كبيراً وفيلسوفاً مؤسساً للفلسفة التحليلية أو الوضعية المنطقية التي كان للفيلسوف العربي الشهير «زكي نجيب محمود» فضل التعريف بها وشرحها وإشاعتها في الوعي العربي.
فلسفة النقد لا تمنح الشجاعة وحسب بل الفصاحة أيضاً، الفصاحة والوضوح والاعتراف. «إنني في الفلسفة نصير الوضعية المنطقية»، هكذا أمكن لزكي نجيب محمود «1905 - 1993» الجهر باعتناقه للوضعية المنطقية. وقد كان هو أيضاً علماً بارزاً في سماء الفكر العربي. ألف العديد من الكتب، من بينها كتاب خصصه لراسل، وكتاب آخر أكثر أهمية يحمل عنوان المذهب الفلسفي الذي ينتمي إليه: «الوضعية المنطقية». كما ترجم عيون الفكر الغربي وأمهات الكتب الفلسفية، خصوصاً في حقل تاريخ الفلسفة كقصة الحضارة لويل ديورانت، وتاريخ الفلسفة لبرتراند راسل.. إلخ. يبقى الجوهري في كل نتاجه الغزير والمتدفق دفاعه الحار عن الوضعية المنطقية الذي يقترن بالطبع بنزعة هجومية ضد كل تجليات الميتافيزيقا. فالوضعية المنطقية التي تقوم على إرث النقد التجريبي والنقد الكانطي تتسم بنزعة لا أدرية «Agnosticism» إزاء الماورائيات، كالمبادئ الكونية التي وضعها الفلاسفة لتفسير كلية الكون كالمبدأ الأول والعلة الأولى، فكل مفهوم كلي لا يستند إلى الخبرة التجريبية يتم تجاهله.
ما الميتافيزقا؟ علم الكون بأسره/ المبدأ المفسر لكلية الأشياء، هي الفرع الفلسفي الذي يتناول المبادئ المفارقة للعالم الحسي، التفكير في الوجود بما هو موجود، الشيء في ذاته على حد تعبير كانط، أو الوجود الثابت، وبما هي كذلك فقد توحدت الميتافيزقا على امتداد العصور الوسيطة بضغط من الفكر الديني مع اللاهوت، قبل أن يصار إلى التفكيك بينهما في بدايات الأزمنة الحديثة.
يقول زكي نجيب محمود مصنفاً موضوعات الفلسفة: «على أن الأشياء التي تتناولها الفلسفة ببحثها نوعان: فهي إما أشياء لا تقع لنا في الخبرة الحسية، أي أننا لا نراها بالعين ولا نسمعها بالأذن ولا نلمسها بالأيدي مثل المطلق والعدم والقيم والشيء في ذاته وعندئذ يسمى البحث بالميتافيزيقا، وإما هي أشياء مما نصادفه في العلوم الأخرى كالإنسان والمجتمع واللغة والتاريخ لكنها تعالجها بغير الطريقة التجريبية التي تعالجها بها العلوم وعندئذ يسمى البحث فلسفة طبيعية أو فلسفة تاريخ أو فلسفة لغة».
رأى كانط استحالة الميتافيزقا. لكنها استحالة سيكولوجية لا منطقة، إذ ليس بوسع الإنسان سيكولوجيا إدراك «الشيء في ذاته» بينما ترى الوضعية المنطقية بحسب زكي نجيب محمود استحالة الميتافيزقا على نحو منطقي، بصفتها دوالاً بلا مدلولات.
تعيد الوضعية المنطقة بناء التراتبية الفلسفية. فإذا كانت الميتافيزيقا لبّ الفلسفة والمنطق أو التحليل اللغوي أداة أو وسيلة لها، فإنها تقلب الوضع، مفصحة عن هدفها النهائي: الإطاحة بالميتافيزيقا ووضعها في ركن مهمل من التاريخ لتكون تذكاراً نفيساً أو موضوعاً أركيولوجياً، في مقابل رفع المنطق والتحليل إلى أوج الفلسفة. لم تعد الفلسفة متكبرة، تشمخ في برجها الرفيع. الفلسفة اليوم أرضية «تريد أن تجلس مع الناس على مائدة واحدة». كانت الفلسفة بناء نسقياً موازياً للعالم، أو إعادة بناء ذهنية للكون، فصارت مجرد تحليل لغوي. الفلسفة في جوهرها ما هي إلا نقد للغة.
نلمس موقف الفيلسوف بوضوح في أحد نصوصه الأدبية السردية. فقد نشر في العام 1965م قصة رمزية بعنوان «قصة نفس» هي بمثابة نبوءة بحيرة تلوح في الأفق. السردية تحكي انشطارات الذات بين «الأحدب» الانفعالي الحزين والمحبط «الهو وفق الترسيمة السيكولوجية الشهيرة» وإبراهيم، رمز الفيلسوف العقلاني «الأنا الأعلى» والراوي ذاته الذي يشكل الأنا الواقعي. يعلن إبراهيم - كما كان يفعل الفيلسوف ذاته - عن إيمانه بالوضعية المنطقية بلهجة واثقة مدعمة باستعارة بصرية: «نعم إن نظرتي آخذة في التحول الجريء بعد أن رأيت كم أفنى الفلاسفة جهودهم في بحث عقيم عن أشياء في الغيب وقد حددتهم طبيعة كيانهم بحدود عالم الشهادة. إنهم كالباحث الأعمى يبحث في غرفة مظلمة عن قطة سوداء ليس لها وجود».
ومن السهل اكتشاف الرمزية الكامنة خلف هذا الثالوث الذي يعبر عن ذات الفيلسوف المعذبة بالانشطارات الدائبة في خصومة داخلية أبدية. إن القصة تعد بصحوة ستكون بمثابة الحد الذي يطوق تمرد الفيلسوف على الفلسفة.
تعيد الصحوة إشكالية توفيقية هي الإشكالية الوسيطية ذاتها: التوفيق بين الفلسفة واللاهوت. فبعد العام 1967م عام الهزيمة التي مني بها الواقع العربي، وعندما كان على الوعي العربي خوض مواجهة شرسة مع الذات، باحثاً في التراث والتاريخ عن مواطن الأزمة والخروج من الأزمة في الآن نفسه، إذ بدأ سؤال التراث يكتسح وعي المثقف العربي. تنبه الفيلسوف إلى ضرورة معاينة التراث وتجديد الفكر العربي «وهو عنوان أحد كتبه الصادر عام 1971م».
نهل الفيلسوف من الفكر الحديث وتشبع به قبل أن تداهمه صحوة من نوع ما، صحوة فريدة متأخرة، صحوة الوعي المتأخر بانزياح الإشكالية الثقافية من الإصغاء إلى الوافد الثقافي والأخذ عنه إلى سؤال المواءمة بين المعاصرة والتراث/ الحداثة والأصالة، فقرر العودة إلى التراث والماضي بصفتها ضمانة الهوية «الذات العربية». فإذا كانت الحداثة تقرن بالغرب فإن التراث رديف العروبة، والإشكالية الثقافية إذن تكمن هنا تحديداً: مدّ الجسور بينهما/ اكتشاف الصلة.. إلخ. أثارت الصحوة المتأخرة حيرة الفيلسوف مثلما أوقعت المتلقي في شراكها. يحار الفيلسوف ومعه يحار القارئ. كان يمقت جميع تجليات الميتافيزيقا: إنّ الميتافيزقا ضحية القطة التي تلتهم بنيها. الفيلسوف ناقد، وعليه أن لا يوفر شيئاً من نقده، والميتافيزيقا التي هي أسطورة عند الفيلسوف أول الأشياء التي ينبغي أن يطالها النقد والتقويض، هي عبث في عبث، عبث دلالي، ضجيج متكلف لا يقول شيئاً. أو هي بحث عن قطة سوداء في ليل حالك الظلام، كان المفكر باختصار داعية للقطيعة، لكن الصحوة المتأخرة فرضت ضرباً من المصالحة مع الذات التي يشكل التراث وفق فهم زكي نجيب محمود عنصرها الأساسي والجوهري كذات عربية، الأمر الذي لاحظه الباحث المغربي عبدالإله بلقزيز، فصاحب «خرافة الميتافزيقا» الذي كان من أشد المعبرين حماسة عن القطيعة مع التراث في كتاباته الأولى «قد تصالح مع الرؤية التراثية للتراث». بعد إخراج الماورائيات من باب الاستحالة المنطقية صار لزاماً تحت ضغط المصالحة مع التراث استدخالها في نسق كوني محكوم بالثنائية والازدواج: «فإذا شئنا أن يكون لنا موقف نستمده من تراثنا، فليكن هو موقف المعتزلة والأشاعرة معاً، فمن المعتزلة نأخذ طريقتهم العقلية، ومن الأشاعرة نأخذ الوقوف بالعقل عند آخر حد نستطيع بلوغه».
هذه المصالحة تتجلى بقوة في مشروعه التجديدي للفكر العربي. لابد للنهوض العربي من بناء فلسفة عربية مستمدة من روح التراث. يسأل زكي نجيب محمود: «هل من سبيل إلى إنتاج فلسفي عربي أصيل؟» إذ لكل ثقافة ومجتمع فلسفة خاصة، فكما شاعت في العالم الأنكلوسكسوني المعرفة العلمية «الأبستمولوجيا»، وفي العالم اللاتيني والجرماني الفلسفة الوجودية والإنسانية فلم لا تكون لدينا فلسفتنا الخاصة بنا، حيث ستكون تلك الفلسفة العربية المحكومة بالثنائيات مع إعطاء الأسبقية للروحي كما يقول الفيلسوف. تستبدل الوضعية المنطقية بمنطق الهويات، والكونية التجريبية بالخصوصية الثقافوية، وصولاً نحو إفراغ النقد الفلسفي من محتواه وجدواه وتمييعه. وبدل أن تكون الفلسفة علاجاً من التعقيد والغموض الميتافيزيقيين تصبح علاجاً سيكولوجياً لأزمات الهوية وانتكاساتها وخيباتها السياسية والاجتماعية والاقتصادية.. ضجر السمسار الثقافي «والتعبير للفيلسوف نفسه» من عرض السلع الثقافية الأجنبية. تعب الفيلسوف من التيه والغربة. ذلك أن الغريب من هو غريب في موطنه، كما يقول التوحيدي. والهوية هي البيت، والعروبة مخدعه الدافئ. العودة إلى الذات خلاص من شقاء النفي باستعادة الواقعة التراثية «طرية» كما لو حدثت للتو، كأن لم تحدث قطيعة معرفية وتحولات اجتماعية وتاريخية، فالفلسفة العربية المقترحة هذه تقوم على ثنائيات هي ذاتها الثنائيات التي رزح تحتها الفكر الوسيط من ابن رشد حتى توما الأكويني: الأرض والسماء، العقل والوجدان أو الوحي، الوافد والأصيل، الأمر الذي يؤول إلى إعادة تأسيس تلك المرجعية المتعالية المعروفة للأخلاق والقيم والمجتمع وربما أيضاً.. المعرفة العلمية.
لم يكن الفيلسوف وحده. تموجات الفكر وحيرته وتردده ظاهرة شملت الكثير من المثقفين العرب. فنزعة التوفيق التي تجمع بين متباينات لا تكشف عن تردد وافتقار إلى الجرأة وحسب بل تحد النقد ذاته ممعنة في إبعاد التراث إلى تلك المنطقة المحرمة على النقد الفلسفي والتحليل العلمي، وهي الظاهرة التي تؤكد الحكم الذي أصدره المفكر المصري نصر حامد أبو زيد: «إن خطاب التنوير فشل في إحداث التنوير».