آخر تحديث: 21 / 11 / 2024م - 9:35 م

من سرق أحلام أطفالنا؟

محمد الحميدي

العقل هبةٌ يُفترض الحفاظُ عليها من المؤثرات الحياتية السلبية، خصوصاً ضمن عصر، يشهد حالة انكباب - بشكل مُفرط - في استخدام الأجهزة الذكية؛ ما يقودُ إلى تعطيل الملَكات العقليَّة، لعدم الاهتمام بتنميتها، وهو ما يسير بها إلى الضمور في نهاية المطاف.

الإفراطُ في استخدام الأجهزة الذكية، يبدو تأثيرهُ واضحاً على عقول الأطفال الصغار، إذ خلال السنوات العشر الفائتة؛ بدت الأجهزة وكأنها التصقت بأجسادهم، فلا يتحركون إلا بها، ولا يبحثون إلا عنها، حيث غدت عالمهم وأسلوبهم في مقاربة الحياة؛ ما أنتج اختلالاتٍ وظيفية داخل ذاكرتهم، أبرزها الضعف الشديد في ميدان العلاقات الاجتماعية، وتفضيل العزلة على اللقاء بالأصحاب.

تظلُّ أخطر الاختلالات الوظيفية ما يتعلق بالذاكرة نفسها؛ من ضعف الإقبال على الحفظ، أو أداء العمليات الحسابية، أو ممارسة ملكَة التركيب والتصور «الخيال»، أو عدم الاهتمام بإدراك الاتجاهات الجغرافية، والقائمة تطول لتشمل الوظائف الذهنيَّة، التي اعتاد أطفال أزمنة سابقة القيام بها بتلقائية.

اختلافُ الأزمنة؛ يُبرز الفرق بينها، إذ كلَّما كبُر الاختلاف؛ اتَّسعت الفروق، واتَّضحت الهوَّة، وهو ما يُلاحظ على سلوكياتٍ؛ كالقيادة، والمبادرة، وبث الحماس، والقدرة على التحشيد، ومتابعة العمل.. إلخ، التي تعدُّ طبيعيَّة تماماً، حيث يمارسها الأطفال خلال ألعابهم، بينما يمرحون مع أقرانهم من الأقرباء والجيران.

إنَّ مجتمعاً يخلو من ألعابٍ، ولقاء بين أقرانٍ؛ لا بدَّ وأن يكون عُرضة للتفكك والانهيار، ضمن مستويي الأسرة الكبيرة «القبيلة»، والأسرة الصغيرة «العائلة»، فنتيجةُ غياب اللقاء مع الأقران؛ تغدو اكتفاء بواقع افتراضي أوجدته أجهزة ذكية؛ مهمَّتها سرقة الذاكرة وإعادة تشكيلها.

سرقةٌ أداتها الوحيدة شاشةٌ زرقاءُ، السارقُ يسكن على بعد مئات، أو آلاف الكيلومترات، حيث الشاشة تنقل جزءاً من مشهد، يتم اختياره بعناية؛ ليؤثر في المشاهِدين، كي يكملوا مشاهدتهم حتى الأخير، أمَّا بقية المشاهد، فيتم تجاهلها عمداً؛ لئلا تنكشف الخدعة، وتتوقف المتابعة.

إدراكُ الحقيقة؛ كلمةُ سرٍّ التي لا يبوح بها أحد، إذ حينما تتضح الحقائق؛ تتمكن الذاكرة من التمييز بين الجيد والرديء، والصائب والخاطئ، فتستعيد قدرة ”التمييز واتخاذ القرار“ تجاه القضايا، حيث هي إحدى العمليات الذهنيَّة، التي تسببت الشاشة في تعطيلها.

ضخَّ كميَّة هائلة من الزيف؛ يقود إلى إرباك الذاكرة، وإضعاف قدراتها، وهو ما يُسهِّل على الآخرين سرقتها، والتعديل عليها، فتظل معتمدة عليهم، ومحتاجة إلى خدماتهم، ما يقود إلى إشكال عميق يتمثل في صعوبة التفريق بين الذاكرات البشرية؛ التي ستتشابه وتتماثل، وهو ما سيرتدُّ على هُوية الإنسان، لينطرح سؤال ملحٌّ: من أنتَ؟ وما الذي يميِّزك؟

سؤالُ الهُوية والتَّمايُز، يعدُّ من أخطر الأسئلة الثقافيَّة، لأن إجابته مُطالب بها الجميع، رجالاً ونساء، كباراً وصغاراً، حيث لكل واحد فهم للحياة، يختلف عن فهم الآخرين، ورؤية منفصلة عن رؤيتهم، ورغبات مستقلَّة عن رغباتهم، رغم ما يظهر بينه وبينهم من تشابه وتماثل؛ لكنها تظل نابعة من داخله، وملتصقة بخصوصيَّته كفرد.

ثمةَ افتقادٌ للخصوصيَّة، والنَّبع من الداخل المتمايز عن الآخر، خصوصاً بالنسبة للأطفال، الذين هم أكثر عرضة للتأثر بغسيل الأدمغة، حيث يتم إخبارهم باستمرار؛ أنهم قطعٌ فائضة، لا يحتاجها أو يهتم بها أحدٌ، وهي الخديعة الماكرة، التي انطلت على العقول، وتسببت في مآسي شتَّى، حان وقت تجاوزها، عبر زيادة اللقاء بين الأقران، وتشجيعهم على اللعب، وترك الأجهزة الذكية جانباً.

وعيدكم مبارك.