أدونيس في السعودية
قد لا يبدو من الأهمية بمكان، أن تزور المملكة شخصية مهمة، سواء كانت مختصة في مجال العلم أو الفكر والأدب، أو الاقتصاد والسياسة، فالمملكة ساحة جاذبة لكل هؤلاء، بالخصوص مع تحوّلات الرؤية، والحراك الذي تشهده هذه الساحة دليل كبير على فاعلية هذه التحولات.
لكن الغريب في الأمر هو الضجة التي صاحبت زيارة أدونيس للمملكة، فقد كان يمكن أن تمر هذه الزيارة مرور الكرام، لولا أن اسم الزائر «أدونيس» الذي ارتبط اسمه بالصراع حول الحداثة العربية. وهذه الضجة لا لكونه انتصر وقدم تنظيرات مهمة في مجال الشعرية والفكرية العربية منذ خمسينيات القرن الماضي، وإلا لجاز لنا أن نضع في صفه أسماء كثيرة نظروا وكتبوا واجتهدوا حالهم حال أدونيس. وكان يمكن لهذه التنظيرات مثلها مثل غيرها ألا تثير الزوبعة حولها، ولا تفتح باب الجدل بأفكارها ولا تجعل من أدونيس اسما تدور حوله الشبهات وحدة المواقف ضده، لولا أنه كان ناقدا جذريا للثقافة العربية، وهو من بين المنظرين والنقاد المبدعين القلائل الكبار الذي ربط مفهوم الثورة على القيم الشعرية الموروثة بالمفهوم ذاته على كل قيمة موروثة - ليست بالضرورة تؤدي عنده للقطيعة - أكانت اجتماعية أو فكرية أو دينية أو سياسية واقتصادية ربطا عضويا، بحيث لا يتحقق هذا دون ذاك. وكأنه يقول لن يتجدد شعرنا ويصبح حداثيا إذا لم تتجدد حياتنا العربية في جميع مجالاتها المختلفة والعكس صحيح.
لكن ماذا يقول أدونيس بعد مرور أكثر من نصف قرن على هذه الرؤية، فقد أنجز في ظني خلالها نصا شعريا متجاوزا وثوريا شكلا ومضمونا كما أراه من العمق بينما الحياة العربية، ويا للعجب ذهبت من سيئ إلى أسوأ؟!
ولولا أنه أيضا لم يزر السعودية قط، لا مواقفه سمحت بذلك ولا الفضاء الثقافي والديني بالمملكة كان مهيأ حينها لاستقباله، رغم ما شهدته المملكة من خلال مهرجان الجنادرية طيلة سنوات مضت من حضور أغلب مفكري ومبدعي العالم العربي على مختلف توجهاتهم وتياراتهم.
هذان العاملان وحضوره الدائم في قلب الإشكالية التي تثار بين حين وآخر في الصحف والملتقيات والحوارات حول سلبيات الحداثة وإيجابياتها، هو ما جعل زيارته للمملكة حدثا مهما لم يستثمر كما ينبغي، فالأكاديمية الشعرية بالطائف لم تألُ جهدا في سعيها للمبادرة لدعوة أدونيس للحضور بدعم من هيئة الأدب والنشر والترجمة.
قدم خلالها محاضرتين في الرياض والطائف وأمسية شعرية في جدة وزار خلالها منطقة العلا.
وقد كنت حاضرا مستمعا إليه في كلتا المحاضرتين، والتي لم يخرج فيهما عن آرائه المعروفة والمبثوثة في كتبه وحواراته.
لكنني تمنيت على الهيئة أن تنظم حلقات نقاش تضم أدونيس ونخبة من مثقفي المملكة الذين قرأوا أدونيس وغيره من المفكرين والمبدعين وهم كثر في مشهدنا الثقافي، وألا تقتصر زيارته على مدن معينة لأجل الاطلاع على تراث المملكة وعمقها التاريخي، وأن يقدم كزائر ومحاضر في قاعات الجامعات السعودية مثلما قامت الأكاديمية الشعرية بتقديم أدونيس لطلبة جامعة الطائف في حوار كان تفاعليا.
هذه الأمنيات مطلب ضروري، سواء ارتبطت بحضور أدونيس أو غيره من المفكرين والمبدعين المؤثرين، وسواء اتفقنا مع أقوالهم أو اختلفنا. لكن منجزاتهم تظل تملك قابلية المجادلة والحوار.
لكن بعض المثقفين برر عدم حماسه لحضور محاضرة أدونيس بأن أطروحاته تجاوزها الزمن، والبعض الآخر أراد أن يناظر أدونيس ويقارعه الحجة بالحجة لكن أدونيس اعتذر كما يقول، وآخر ينتقد أدونيس بسبب مواقفه السياسية وبالتالي يلغي تاريخه الفكري والشعري، وآخر يحاكم أدونيس ويظن أنه يحاوره.
لا أتصور شخصًا ذرف على ما بعد التسعين في عمره، بالخصوص إذا كان مفكرا وشاعرا كأدونيس وتصالح مع عالمه الداخلي، وعاش تجربة حياتية وخبر تقلبات الحياة العربية لا يمكن ألا نصغي ونتعلم من هذه التجربة نحن الأجيال التي جاءت بعده.