آخر تحديث: 21 / 11 / 2024م - 3:01 م

في انتظار عالمية شِعرنا اليوم

حسين الخليفة

- أهلا وسهلاً صديقَ الروح والشعر والنقد والأدب.
- أهلاً بكَ مُحبَّ ديوان العرب.
- هل بإمكانك - صديقَ الروح - أن تقول شيئاً وأنت لا تقول شيئاً؟
- نعم فذلك ما تحقق في البيت الشعري القائل:

كأننا والماءُ من حولِنا  *** قومٌ جلوسٌ حولهم ماءُ 

هذا إن ذُكِر البيت وحده على سبيل الفكاهة والظَّرَف، ولك أن تدرجه في سياق نصِّي ليكتسب دلالة جديدة منتجة، بل فائقة الإنتاج.

- جميل جميل، وكيف بإمكانك ألَّا تقول شيئاً وأنت تقول شيئاً؟
- تجد هذا المعنى فيما أخبرَ عنه بيتٌ يقول:

اختصرت لك الحديثَ أنَّتي *** وأنَّةُ الشاكي حديثٌ مختصرْ

فالأنَّةُ صوت لا قول ولكنَّها أنبأت عن قول.. والبيت المذكور هو من النصوص التي يُتَمَثَّلُ بها في مسألة رَدِّ العجز على الصدر، وهي تقنية لا يحسن التعاطي معها تعاطياً شكلانياً صرفاً يقولبها فيغفل عن طاقاتها الإيحائية المتنوعة.

- يا لطيف..!،

وماذا عن قول يُثمرُ قولاً؟

- القول المثمرُ منتجٌ إبداعي وأمارتُهُ أنه يعطيك ما يُعطيك في القراءة الأولى، وهو عطاء عام تتمتع بكرمه وجوده الأفهام كلها، ثم يعطيك غير ما أعطاك في القراءة الثانية، وهو عطاء خاص يستمتع باستيحائه الخواص؛ ولذا فهو - لكونه قولاً يثمرُ قولاً - يتربع على عرش الديمومة ويأخذ مكانته في صفحة الخلود.

- أراك وصفتَ ولم تتمثَّلْ..!

- الوصف إشارة والتمثُّل عبارة، ولك أن تعتبرالوصف أشبه باللاقول المشير إلى قول أو القول المنظِّرالمشير إلى قول بالقوة وإلى لا قول بالفعل.

- لله درُّكَ فما أكثرَ التنظيرَ وما أقلَّ التحبير...!

- هههه.. لقد قصدتُ فيما تقدم من قول أن أستنطق جملتك التعجبية تلك، وقد تم لي ذلك، ويمكنك أن تقول متعجباً أيضاً:

ما أكثر أن يلهو المشغوفون بالتنظير عن استنطاق ما أجاد به عندنا من فرسان الإبداع والتحبير..!

- هل تقصد أن التنظيرات الأدبية ينبغي أن تكون وليدة استقراء ما عندنا من إبداعات؟

- هذا هو الصحيح، وأما الحكم على ما عندنا بمقاييس ما لدى الأغيار، فهو استعارة تنظير، وتأطيرصورنا بإطارات ليست على مقاسها؛ فقومك وهم قومك ”لم يجروا في حلبة واحدة“، وعليه فمن الخطأ الحكم على ضبط ترجيع أذان مؤذن بميزان مستوحى من وقع دقة الناقوس..

- وما الذي نتج عن اختلاف الميزان والموزون في رأيك؟

- نتج عن ذلك إغراق المكتبة الأدبية بنصوص محاكية مقلِّدة منصاعة، بنصوص ميتة لا ورح فيها.

- وكيف حصل ذلك ومنتجو النصوص مبدعون؟

- المشكلة تكمن حين يستجيب المبدع لدعوات القطيعة مع منتج محيطه الماضي والحاضر المتماهي معه إبداعياً - مع ملاحظة أن التلبُّس بالزمن عائد إلى مقتضيات الصدورلا إلى تشكُّل ماهوي أورؤيوي لدى الصادر - فيبدأ «مبدعُنا» في ضبط إيقاع نصوصه على دقات ذلك الناقوس المبشَّر به، مستجيباً لتوجيه نفر من «النَّقَلة» الذائبين بمقاييس الأغيار، وهم مجرد نقلة وما بشروا به لم يبدعوه، وهو «مبدع» مستجيب «لاشتراطا تهم» ليس غير، والنتيجة ما تراه من نصوص موميائية محنطة ينفر منها المتلقي المتخصص الواعي قبل المتلقي الذواق العادي.

- والحل؟

- هناك مقولة متداولة في عالم النقد والأدب مفادها أن «العالمية تنطلق من المحلية» وهي مقولة أثبتت التجارب صحتها، ومن أقرب الأمثلة على ذلك في عصرنا تجربة الشاعر بدر شاكر السياب الذي بلغ شعره مبلغ العالمية حين تمرد على تجاربه المحاكاتية لأدب الأغيار، فرمى «الغصن الذهبي» في مجرى نهره الصغير «بويب» وانطلق من موجودات محيطه ومن معالمه المحلية، من «بويبه» و«جيكوره» ومن «شناشيله» و«غابات نخيله»...، حتى تخلصت قصيدته من شوائب أساطير غصن الأغيار الذهبي وخرج لنا ب «أنشودة مطره» التي بلغت من العالمية مبلغها وصارت الأنشودة التي تتناولها حلقات الدرس في حقل الأدب المقارن في مختلف جامعات العالم على اختلاف لغاتها..وهي على تسالم نخبويتها المتخطية حواجز اللغات، تعد قصيدة جماهيرية شعبية «خطابية» بامتياز بالمعنى الإيجابي لمفهوم الخطاب - بحسب ما نرى، لا بحسب ما ينقله أو يستعيره المستعيرون الناقلون نقل المنبهرين غير الواعين -؛ فقد وصلت القصيدة إلى حنجرة المغني، وهو وصول كاف بالبرهنة على ما نقصد من تمتعها بالخطابية التي عنيناها..

- صدقتَ صدقتَ.. فيالروعتها من قصيدة جمعت بين الحسنيين، وهما صفتان يحلم كل أديب أو شاعر أن تتصف بهما النصوص التي ينتجها.

ولكن كأنك فيما أسلفت تريد أن تدعو الشعراء وعموم الأدباء الجدد إلى الانطلاق من محليتهم ليصلوا إلى عالميتهم..

- نعم وأدعو من توجهوا إلى مسار النقد والتنظير أن يكفوا هم أيضاً عن استحضار ما لدى الأغيار وإعادة تدويره، فما كل مادة مستهلكة هناك يصلح تدويرها هنا، وأن ينطلقوا من قراءة ما لدينا من إبداع بنهم، والاشتغال على انتزاع الملامح التي بإمكانها أن تشكل نظريتنا النقدية والأدبية منه، وأن يجمعوا النصوص الإبداعية التي كان لها حظ من التداول والديمومة ليستنطقوها ويقفوا على المكامن التي جعلتها محل إدهاش لدى النخبة والعامة على حد سواء؛ ليساهم ما انتزعوه منها في تشكيل رؤانا الخاصة في النقد والأدب، ليكون لنا محل من الإعراب في الفعل المنتج لا في الانفعال المستهلك..

- ولكن ما مبرر حصر تكوين الرؤية النقدية الخاصة في عملية الانتزاع من المنتج الإبداعي، أليس في ذلك الحصر بخس للنقاد الذين ينبغي أن تكون لهم توجيهات ورؤى مؤسِّسة لا منتزعة؟!

- ما تفضلت به صحيح مئة بالمئة ولكن مرحلته لم تأتِ بعد..

- كيف؟!

- لا يكون الناقد مبدعاً حق الإبداع إذا لم يمر بعملية الانتزاع التي تفتح عينيه على ما كان ليفتح أعين المعنيين على ما ينبغي أن يكون، باعتباره استكمالاً إبداعياً لا نقضاً أو تقويضاً أو تهديماً لإبداع لم يقو الزمان على النيل من حيويته النابضة بالحياة.

- فهمت منهجيتك التراتبية فيما تقترح وتطرح، ولكن ما نسبة أَمَلِكَ في تحققها؟

- النسبة كبيرة بل لا حدود لها متى ما عدنا إلى ذواتنا واستعذبنا الاعتداد بأنفسنا، بمبدعينا وبنقادنا، فالعربية هي «أم اللغات» كما يقول حليم دموس، وهي «تاج العروس» في موقعها الأدبي القادر على خوض عباب عالميته في زمننا زمن «القرية الواحدة» الذي لا مكان فيه لأدب لا يشق طريقه نحو العالمية.

- ألا ترى أن حوارنا هذا الذي هو في «عام الشعر» وفي شهر «يومه العالمي» قد اتجه إلى التوجه إلى نقد منتج إبداعي أفرزته الهَبَّات التي تعرف، واتجه إلى نقد النقد؟

- هذا هو المسار الصحي والطبيعي إذا أردنا إدراك عالميتنا في الشعر والنقد وعموم الأدب وفنونه، فلا يمكن ألا يكون هناك تناسب طردي بين منتج الإبداع ومنتج النقد ومنتج نقد النقد.. وأما تعرضنا لـ «الهبَّات» - كما عبرتَ - ونقدنا لناقليها فهو تنشيط لمسار «نقد النقد»، فلا مشكلة عندنا - و”واثق الخطوة يمشي ملكاً“ - من «الهبَّات» التي تريد تهديم تراثنا الشعري العريق واتهامه بالتقريرية وتجريده من الشعرية، كما أننا لا نتحسس من دعوات هؤلاء إلى هجر سكتنا وتحويل عجلة قطارنا إلى سكة الأغيار والنظرة بسوداوية إلى كل ما عندنا من إبداع شعري وقرائي.. كل هذا لا نتحسس منه، ولكن ما يزعجنا هو جفاف روحية هؤلاء «النقلة» وتحسسهم من «نقد نقدهم»، حتى إنك ليصعب عليك أن ترى من يرعى منهم صحيفة تصدر ورقياً أو في فضاء الشبكة العنكبوتية يسمح لك بأن تنشر مقالاً في صحيفته ينقد ما تبناه من رؤى نقدية، مع قدرته - إن سمح لك بذلك - بتقديم ورقة منه أو ممن يتبنى رؤاه بنقد نقدك؛ لتدب في صحيفته الحيوية وينشط الحراك النقدي والإبداعي فتتخلص من نمطيتها ويزداد تداولها.

- هذا صحيح والعجيب أن الصحف والمجلات الأدبية التي كانت تصدر في عصر النهضة وتموجات صداه كانت تجمع بين الأضداد وتنشر الرأي والرأي المضاد، ولذلك كانت ناجحة وواسعة الانتشار ينتظر القارئ صدور أعدادها بشغف ولهفة ليستمتع بالردود والردود على الردود..

- نعم، ونحن لا نعدم من مثلها عندنا، ولكننا ما دمنا نبحث عن الجمال بأبهاه كان تعرضنا لنقد «الهبَّاتيين»، فانزعاجنا منهم ولهم حباً بهم وبما يمتلكون من طاقات يمكن لها أن تزهر وتثمر إذا خرجت من قوقعتها وانطلقت في الآفاق بعيداً عن الحدية التقويضية..، فأحرِ بها أن تُنَزِّل شعرنا ونقدنا قديمه وحديثه منزلة العسل اللذيذ ذي الألوان المختلفة ثم تسعى إلى ابتكار أي لون إبداعي أو توجيه الأنظار إلى أي مبتكَر جديد والتعاطي معه تعاطياً إبداعياً لا استنساخياً ممجوجاً، لينضاف إلى الألوان الإبداعية السابقة، وشتان ما بين روحية الكسب المضمخة بشذا الحكمة وبين روحية الإلغاء الملطخة بنجيع أبيها - بحسب ما تمليه عليها الواهمة -؛ فالإبداع الأصيل لا يمكن أن يسقطه أو يلغيه تقادم العهد وتعاقب الليل والنهار.. فما أجمل أن يكون همنا الانتصار للجمال بروحية الإضافة لا بروحية القطيعة والقطع عن الإضافة..

- جميل جداً، ولا أجمل من الانتصار للجمال، لمطلق الجمال..، وفي الختام أترك لك الكلمة التي تريد أن تجعلها مسك الختام.

- لا بد لنا من التصرف بالمثل السائر، وأن نوطن أنفسنا بأن «فتاة الحي أو غانيته تطرب»، وبحذف «لا» النافية منه نعيد التأكيد على الانطلاق من محليتنا شعراً وأدباً ونقداً ليكون منتجنا متناغماً مع المعطيات التي تتطلبه «قريتنا الواحدة».