آخر تحديث: 6 / 12 / 2024م - 2:36 م

الشاعر معروف الرصافي ونقد المنتفخين

حسين الخليفة

يحكى أن الشاعر الرصافي كان قد دخل على واحد من ذوي النعمة والجاه في مكتبه، فوجد الكِبر كله جالساً على كرسيه الفخم الفاخر فقال في حاله مرتجلاً:

مالي أراك على الكرسيِّ منتفخاً

إنْ كان فيك احتباسُ الريحِ فاحتقنِ..؟!

ومثل هذا الأمر مشهود وملموس ومما تتكرر صوره في مشاهد الحياة، فقد يغري الثراء أو صاحب الجاه صاحبه، فيتكبر على الآخرين بما يملك من قوة المادة ووجاهة الجاه..

إنه إغراء المسند بالمسند إليه بالرغم من حال الإسناد من حيث ثباته وعدم الاطمئنان بديمومة بقائه

وهو سكرة الغافل حين يمتنع عن إرواء شجرة جاهه بخدمة محتاج وباستغاثة مستغيث

وهو - على كل حال - شأن من لها بزائل براق وحرم نفسه من التمتع بلذة البذل والعون واقتناص لحظات الإشراق.. ذلك حديث من أعشى بصيرته النشب والمادة والجاه ولم يشكر الواهب الشكر العملي بما منحه وأعطاه..

إلا أن الحياة قد أرتنا بعض من لا يملكون في الوجود إلا رصف الكلام وصياغته يستغرقون في خيلائهم وتعظيم أنفسهم واستصغار الناس، ومنهم الشعراء، وغيرهم ممن لا يمتلكون إلا رصيد الكلمة منهم أيضاً - وأقول منهم الشعراء ومنهم غيرهم ولا أعمم - فهم - ممن أعنيهم - على رأس صنَّاع الكلام وفي طليعة البشر المتعالين، فينبغي لنا - نحن محبي الأدب - أن نتحسس من كل مظاهر التكبر والتعالي والانتفاخ، ونبدأ بنقد الحال المذكورة في مواضع اهتماماتنا وفي مناحي اشتغالاتنا.

وأذكر أنني شاهدت في إحدى القنوات الفضائية مقابلة مع شاعر طاعن في السن، وفوجئت حين ذُكر أمامه بعض شعراء التراث، وطلب منه إبداء رأيه فيهم، أنه استشاط غضباً لمجرد ذكر أسمائهم في الحديث، وما ينبغي أن يذكر إلا هو وحده ولا يشار إلا إليه بالبنان وباللسان، فانهال لينال من الشعراء العرب كلهم ومن العربية أيضاً؛ ذلك لأنه كان صاحب اقتراح تبديل لغة بلده الرسمية من العربية إلى العامية، مستخفاً بالعرب والعروبة وممجداً ومشيداً بأجداده «الفينيقيين» حتى وصل به الأمر إلى طرق المقارنة بينه وبين الذات الإلهية، وادعى بأنه لن يموت..!!

لكنَّ الله سبحانه وتعالى الذي يقهر عباده بالموت قد قهره به بعد فترة قصيرة من مقابلته الأعجوبة تلك، وصارت روحه في قبضة بارئها العظيم.

يا ترى ما الذي قدمه هذا الشاعر في حياته وبم نفع الناس، حتى تتضخم ذاته ويبلغ به الخيلاء ذلك المبلغ؟

إنها كلمات منظومة ليس غير..!، فلِمَ يتكبر إلى درجة الشطح والشطط؟!

في اعتقادي أن الشاعر أوكل من كانت الكلمة مضمار عمله إذا لم يعتقد بأن عمله في رصف الكلمات يساوي عمل النجار في ضرب المسامير في الأخشاب وعمل الإسكافي في غرز إبرته في الأحذية وعمل عامل النظافة الذي يخلص الناس من أذى النفايات ومن روائحها الكريهة - وكل عمل شريف مقدر ومحترم - فإنه سينتج شعراً مزوقاً بالكلمات والأساليب، شعراً خالياً من الروح، شعراً قد يُدرس في بعض المواقع الأكاديمية، ولكنه لا يختلط بأنفاس الناس ولا يتوغل في أعماق مشاعرهم، فالروحية الشفافة في الشعر تظهر جلية ليشعر بها العامي والمتخصص، والناقد قد يدرس النص ويفسره ويحلله إلى مستوياته اللغوية والسياقية وحين يصل إلى الحديث عن روحية النص، فإنه يشير إليها، لأنه يحس بها، ولا يقوى على بيان ماهيتها، كالطبيب الذي يدرس جسم الإنسان ويبين وظائف الأعضاء فيه، وحين يصل إلى الروح فإنه لا يستطيع بيانها أو الاقتراب منها، ويكفيه أنه يحس ويشعر بها.

إن الروح الترابية والمتواضعة تجري في كلمات الشاعر مجرى الدماء في العروق حتى وهو يفتخر ويعتد بنفسه، فالناس سيشعرون بأنه ينطق أو يفصح عن إنسانهم فيه.

ولي أن أقول لكل من طاف بكعبة خيلائه:

يا صاحبي وصديقي ويا أَخِي

ألا تعتقد أو رسَّختْ في نفسك الحياة القصيرة بأنَّ

”الناس للناس وإنْ لم يشعروا خدمُ“؟!

ألا ترى أنَّ أنسنةَ الكلمات وغناها بزخم الروح ما هي إلا فرع أنسنة الذات وصداها ومسار الحفاظ عليها في استهلاك مداها، وأنَّ كل خلل في توازن الذات لا بد أن يظهر على الحروف والكلمات..؟

فإنْ رأيت ذلك،

فاجعلْ في كلماتك التوازن قبل الوزن إنْ كنتَ ممن يبدع الكَلِمَ الموزون، واجعلْ كلماتك غنية بموسيقى الروح التي تدهش العامي والمتخصص،

اجعلْها غنية بها،

فبها ومنها تدق القلوب وإليها الأفئدة تهفو،

اجعلْها كذلك قبل إجهاد نفسك في استمطار الموسيقى الداخلية وتكثيف الدِّيَم التي تريدها لنثر نصك أو لنصِّك «الشِّعرِ/ النثرِ» إنْ كنتَ ممن يبدع النصَّ الأجدَّ الأجد..

فقد علَّمتنا الحياةُ بالتجاربِ والوجدان

علَّمتنا أن لا «أَجَدَّ» يستعصي على طي الزمان،

وتبقى - ما بقي الدهر - إنسانية الإنسان.