آخر تحديث: 19 / 4 / 2024م - 7:41 م

قداسة الحُب في قصيدة ”لا عاصِمَ اليوم“ لفاطمة الدبيس

الشيخ سمير آل ربح

في قصيدتها المنشورة في ”جهات“، بعنوان ” لا عاصمَ اليوم “، تستند الشاعرة الأستاذة فاطمة الدبيس على التناص في تشكيل صورتها الشعرية، والتناص يعني ”تقاطع النصوص وتداخلها، ثم الحوار والتفاعل فيما بينها“، وبذلك فإن التناص هو أسلوب لتشكيل ”فضاء النص“ و”الممارسة النصية“ من وجهة نظر جوليا كرستيفا التي تقول بتقاطع نصين أو أكثر داخل النص الواحد [1] .

واختارت الشاعرة القرآن الكريم لتقتبس منه مفرداتٍ وتوظِّفها في تشكيل صورتها الشعرية، وهذا يكشف عن ثقافتها القرآنية التي مكَّنتها من هذا التناص، فاقتبست منه ما يحقِّق مرادها، وهو إعطاء «الحُب» قداسةً وطُهرًا؛ بدءًا من عنوان قصيدتها ”لا عاصمَ اليوم“، استلهامًا من قول نوح شيخ الأنبياء لابنه الذي أصرَّ على التخلف عن الرَّكْب، وظن أن اللجوء إلى الجبل هو طوق النجاة: ﴿قَالَ سَآَوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ قَالَ لَا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ [2] .

”لَا عَاصِمَ“: لا، نافية للجنس، أي لا شيءَ يمنع أمر الله في غرق من يتخلف عن سفينة نوح. قال الزَّجَّاج «وغيره»: يجوز أن يكون ”عاصم“ في موضع رفع على أن يكون بمعنى معصوم [3] ؛ إذ إن ”فَاعِل“ تأتي بمعنى ”مفعول“، نحو ﴿مَاء دَافِق [4] ، أي مدفوق، ونحو قول الحُطيئة الشهير:

دَعِ المَكارِم لا تَرحل لبُغيتها

واقعد فإنك أنتَ الطَّاعِمُ الكاسي

أي: المطعوم المكسو.

تتوالى المفردات القرآنية في القصيدة على هذا النحو:

دِين، كفر، ضَلَّ، ملة «ملَّته»، جنة «جنته»، الأنبياء، نبوءة، اسَّاقط، الوحي، مصحف، رتَّل، سورة «سورته»، قميص، التبتل، عروج «عرجنا»، الرب، انبجست، عرش، اندك، الصلصال، اصطفاء «ليصطفي»، قِبلة «قِبلته»، محاريب، خطيئته، الذنب، قيامة «قيامتنا»، طوفان، رحمة «رحمته». جاءت هذه المفردات متوالية في الأبيات، ولم يخلُ بيتٌ من واحدة منها، ما يعكس حضورها حضورًا لافتًا في معجم الشاعرة.

وفي مقابل ذلك تأتي ألفاظ الحب وما يتعلق به «حالاته»: الهوى «موضعان»، أغرى، العطر، البوح، نزق، العشق، التيه، العناق «موضعان».

والواضح في هذا النص غلبة الألفاظ القرآنية على ألفاظ الحب وتجلياته، في إرادة واضحة على إضفاء مزيد من القداسة والطهر على موضوع القصيدة.

ونختار هنا ثلاث صور شعرية تناولتها الشاعرة في قصيدتها:

تقول:

لا دينَ أو كُفرَ..

ضلَّ القلب ملَّتَهُ

حتى رأى في سوادِ العين جنَّتَهُ

فهو «الحبيب» يرى الجنَّةَ حين يبصر عينَي من يحب، بل سواد عينيه، أرادت شخص الحبيب، على نحو المجاز المرسل، والعلاقة بينهما الجزئية. ذكرت العينين وأرادت الإنسان، نحو قوله تعالى: ﴿فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ [5] . أما حين يفقد من يحب، فهو بمثابة من لا دين له ولا ملة، بل يعيش التيه والضياع في داخل روحه «ضل القلب ملته».

ونلاحظ في البيت كثافة المفردات القرآنية: دين، كفر، ضل، ملة، جنة، تمثِّل نصف ألفاظ البيت، وهو يوضِّح مدى توظيف الشاعرة لها.

وفي بيت آخر تقول:

أرخى علينا قميصَ البوح

منتهكًا

حق التبتل

واستجلى حقيقتهُ

تستدعي قصة يوسف الصديق، حينما أرسل قميصه لأبيه: ﴿اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هَذَا فَأَلْقُوهُ عَلَى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيرًا [6]  فارتدَّ بصيرًا: ﴿فَلَمَّا أَنْ جَاءَ الْبَشِيرُ أَلْقَاهُ عَلَى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيرًا [7] . هذا القميص أصبح رمزًا يوظِّفه الشعراء في تشكيل صورهم الشعرية. إنه رمز الشفاء: شفاء الروح وشفاء الجسد على حدٍّ سواء، وها هي ترى أن مكاشفة الحبيب ومصارحته والحديث معه والبوح إليه، تراه قميصًا يُلقى «ينتهك»، فتَظهر الحقائق بينهما.

وفي بيتها الأخير تأخذ طوق النجاة بقولها:

لا عاصمَ اليومَ من طوفان لهفتنا

إلا العناق

فقم نستجدِ رحمتهُ!

إلا العناااااااااااااااااااق.. فقُم نستجدِ رحمتهُ!!!

في وسط هذا الموج الغارق، لا تنطفِئ لهفة كل واحد إلى الآخر إلا بالعناق، فهو المُنجي، وإلا غرقا معًا. ويحلو لها أن تطيل مد «العناق»: العناااااااااااااااااااق، آخذة بطريقة الكتابة التصويرية. أرادت أن تطيل الصائت الطويل «مد الألف»، ما استطاعت إلى ذلك سبيلًا، ومعه يطول العناق بينهما.

[1]  مصطلحات النقد العربي السيماوي: الإشكالية والأصول والامتداد، مولاي علي بو خاتم، ص 187
[2]  هود: 43
[3]  تفسيرالقرطبي: https://cutt.us/zajjaj
[4]  الطارق: 6
[5]  النساء: 92
[6]  يوسف: 93
[7]  يوسف: 96