تأملات في أنطولوجيا الصورة الفوتوغرافية
جرى التخويف من الصورة الفوتوغرافية الرقمية باعتبارها بابا للخروج من واقعية الصورة، أي أن الصورة بهذا التحول من الصورة الكيميائية إلى الصورة الرقمية فقدت أو ستفقد صلتها بالواقع، وتصبح أقرب للتصنيع والتحريف وإعادة الإنشاء من خلال الإمكانات الواسعة التي يتيحها هذا اللون المستجد من الصور، وهذا الخروج المدعى من واقعية الصورة جعل البعض يتحدث عن خروج الصورة من حقيقتها الابستمولوجية، ليس لقصور الصورة عن وصف الحقيقة/الواقع كما هو، بل لانزياحها عن الخاصية الأساسية للصورة وهي مطابقة الواقع، حتى قال البعض إن الصورة الرقمية ليست صورة فوتوغرافية مطلقاً!.
كانت الصورة أنطولوجيا متصلة بالواقع اتصالاً سببياً، هي انعكاس ميكانيكي مباشر لشيء موجود في الواقع، أما اليوم فيمكن إنتاج وقائع فوتوغرافية ليست واقعية، بمعنى أنها نتاج مزيج من صور، أو صور معدلة ومحرفة عن وقائعها، غير أن الواقعية تبقى حاضرة لأن أصل كل صورة هو متأتٍ عن واقع خارجها، أي أنها لم تقطع الصلة جذريا بوجودها الأول، وإن كانت تحولت عنه، فيما يختار البعض وضع الصور المفبركة والمدمجة خارج عنوان الصورة الفوتوغرافية، لأنها صورة عن حقيقة لم تحدث، وبالتالي يختص الحديث عن حضور الواقع في الصور التي لم تنقطع عن أصلها كلياً، حضور يشبه بصمة الأصابع على الرمل.
في الصورة الرقمية، لا يبدو السطح خلاصة نهائية للأبد، ولا يتطلب دائماً أن يكون بصمة لأثر قبله، بل هي مجموعة من «الكودات» الرقمية القابلة للتحريك، وهذا لعله ما يصيب البعض بالخيبة حين النظر إلى صورة رقمية، ويرى بها بعض التعديل، حتى لو كان ضئيلا جدا، لشعورهم بأن هذه العلاقة مع الواقع قد تزعزعت، وكأنها - أي العلاقة - هي الذريعة للاحتفاء بالصورة والنظر إليها كحقيقة.
لكن قد يسأل سائل: أليست هنالك الكثير من الصور الرقمية، وكل صورنا اليوم من هذا النوع، تماثل الصورة الأنولوجية - من التعبير الإنجليزي Analogue Photography، والمراد بها الصورة الفيلمية - في صلتها بالواقع، بحميمية روابطها مع الوجود الخارجي، وبانضباطها ضمن أشكال تمثيلها لهذا الواقع؟.
واضح أن الكثير من الدراسات التي كانت تعالج الصورة الرقمية في حدها الأنطولوجي كانت مدفوعة بالخوف من صورة لا تملك وجوداً نهائياً، هي في صيرورة مستمرة ما دامت في بنائها الداخلي مفتوحة الاحتمالات لمشارط التعديل، ولعل في ذلك بعض الصحة، غير أنه يحتمل المبالغة والغفلة، حيث الصور الكيميائية كانت تملك مساحة للتعديل والتحريف أيضاً، أي أنها تقترب من ذات المنطقة التي تمثل إشكالية وجودية ومعرفية للصورة الجديدة.
بالمقابل، مثلت مخرجات الذكاء الصناعي في السنوات الأخيرة باعثا جديدا لإعادة التفكير في وجود الصورة وماهيتها، وفي إمكانية وجود صورة «فوتوغرافية» بلا أصل ولا صلة بمادة واقعية، وإنما متحولة من عمليات حسابية، وتحليلات نصية، أي أنها واقعة رقمية بالدرجة الأولى، مع أنها في محاولتها لمحاكاة الواقع تملك القدرة على تقديم مادة شبيهة بالواقع إلى حد بعيد، وما موقع Midjourney إلا مثال على ذلك، حيث قدم خلال الأشهر الماضية منصة لتجربة تحويل الأفكار والنصوص إلى وجودات بصرية، ذات طابع فوتوغرافي، صور باذخة في تفاصيلها ودقتها، وفي ترجمة الأفكار والمشاعر التي يدرجها المستخدمون ضمن الموقع.
صار الآن الواقع والخيال كلاهما عرضة للإزاحة ضمن عملية الإنتاج البصري، لأن خيال الذكاء الاصطناعي سيعيد ترتيب دوائر الفعل الفني، وتدوير أسئلة الساحة الفنية، وفيها الصورة الفوتوغرافية، والتي وإن بقيت تراهن على صلتها بالواقع للتعريف عن هويتها، إلا أنها مرشحة على الدوام لأن تبتعد عن تعريفاتها القديمة، وأن تبحث عن حقيقتها هذه المرة ليس من خارج الأحماض، وخارج لغة الرسم بالضوء، بل من خارج الواقع حتى!.