آخر تحديث: 24 / 4 / 2024م - 11:56 م

السؤال القديم المتجدد حول الشعراء النقاد

محمد الحرز * صحيفة اليوم

عندي قناعة تامة حول توجّه الشعراء للنقد استخلصتها من خلال تأمّلاتي حول بعض التجارب الشعرية المتميزة مفادها أن لكل كتابة شعرية عميقة ثمة مقومات وشروط، وأهم مقوماتها وشروطها تكمن في تفتّح الوعي النقدي خلف تلاوين الكتابة ومفرداتها المجازية، والوعي النقدي المقصود هنا هو إدراك المظاهر والتحوّلات التاريخية والثقافية والاجتماعية والسياسية التي تطال الحياة والواقع إدراكًا، تكون وظيفته منع الإبداع ذاته من محاولة الوقوع في شرك النمطية والسطحية والابتذال والسائد.

هذه حقيقة قائمة في جملة تصوّراتي حول الشعر والحياة والإنسان والتاريخ لا يمكن أن أتغافل دورها عندما أتحدث عن الشعر وعلاقته بالنقد.

لقد كان الرهان الحققيي بالنسبة لي فيما يخص هذا الوعي النقدي هو أولًا في استجماع عناصره ومكوناته وملامحه ورؤاه من سياقه الشعري، ومن ثَّم لاحقًا، تحويله إلى خطاب نقدي يرتكز في تكوينه بالطبع على التحليل المنطقي والتركيب الفلسفي وجملة من العناصر أهممها الفهم والتأمل وممارسة التأويل المحكوم بشروط المخيلة. معادلة صعبة التحقق بالنسبة للكثيرين، بل إن البعض يرى فيها مجرد تنظيرات لا تمت إلى

الشعر والنقد بصلة، ناهيك عن البعض الآخر - وهم كُثر - الذينلا يؤمنون بممارسة النقد في ظل ممارساتها الشعرية، وذلك بداعي الإخلاص البريء للشعر، وكذلك الاستجابة لدوافعه الشعورية اللا واعية فقط.

قد نتفق أو نختلف في جوانب معينة من المسألة، ولكن ما يهمني بالدرجة الأولى هو التعبير الصادق والأمين لكل التجليات التي تعكسها إحساساتي ورغباتي وتوجساتي وتفكيري وتجربتي تجاه الحياة والإنسان والثقافة والمجتمع والتاريخ، ولايمكن أن تكون هذه الإحساسات مجرد تنظيرات بالنسبة لي، هي في نظري خارجة من عمق التاريخ الإنساني، هي موروث ثقافي جاءنا من الآباء والأجداد بالقدر الذي ورثنا صفاتنا البيولوجية والفسيولوجية من الطبيعة، ألم يقل نيكوس كازنتساكيس الروائي العظيم «.. إنك لست واحدًا بل جيشًا بأكمله.. هل تحس بالغضب؟! اعلم إذا كان أحد أجدادك الأوائل هو الذي يرغي ويزبد على شفتيك».

هذا الجانب من الوعي هو في عمق ممارساتي الشعرية، واشتغالاتي النقدية، وبالتالي هو المحرك الأساسي الذي يفضي بي إلى دهاليز الكتابة والإفضاء في القواميس اللغوية هو القصد والتوجه، ولا أظن أنها مجرد تهويمات أو تنويعات شكلية، بل هي معادلة صعبة كما قلت، حاولت كثيرًا أن أنقل إحساساتي بمرجعياتها الثقافية من المخيلة إلى المنطق والعكس صحيح، وذلك كلما كانت الحاجة ماسة للتعبير عن تحولات الحياة ومؤثراتها على الجسد والشعور والإدراك.

ربما نجحت في بعض الأحيان أو أخفقت في بعضها الآخر، ولكن ما لا يمكن أن يغيب عن بالي على الإطلاق هو أنني أمارس الكتابة بالقدر الذي أجدني أتنفس فيها أكسير الحياة، وهذا القدر كافٍ بالنسبة لي على الأقل كي أتجاوز ما يظنه البعض أنه تناقض صارخ، حينما نجمع الممارسة الشعرية والنقدية في ذات كاتبة.

هذه الحالة التي يؤمن بها البعض تعكس من وجهة نظري مأزقية التصنيف والتجنيس التي شوّهت مفهوم الكتابة، وأحالت الكتابة الإبداعية إلى ما يشببه الكنتونات القائمة على معيارية فجّة، لا تستمد مبررات وجودها من الموروث الكتابي في الحضارة العربية الإسلامية، ولا من دلالات الوعي بالكتابة في الحضارة الغربية، إنها مجرد تصانيف جرت عليها عوادي الزمان من التصلب والتخشب، وما زالت تحمل سمات الفوضى والتخلف التي هي ركيزة من ركائز حياتنا الثقافية العربية الراهنة.