آخر تحديث: 31 / 10 / 2024م - 8:43 ص

القصيدة الإنسانية

ليلى الزاهر *

لاحت في سماء قراءاتي الشعريّة قصيدة جميلة تجثو في حضرتها المشاعر الإنسانية، وتخجل جميع القوافي من قافيتها عندما تسير متباهية في دروب الشعر.

هذه القصيدة وصفها الكاتب عباس محمود العقاد فأبدع عندما قال:

«لو كان للأدب العالمي ديوان لكانت هذه القصيدة في طليعته»

قد تكون أروع قصيدة في العالم كما وُصفت، وقد تُعيد أنت قراءتها مرارًا كما فعلتُ أنا، لذلك تُرجمت إلى لغات عديدة وما ذلك إلا لأنها تُخاطب في الإنسانية الواجب المقدّس، والحقوق التي تشهّر بنفسها لإمضائها عنوةّ أو طواعية بحبّ يسكن الفؤاد.

نظمها الشاعر السوري الراحل عمر بهاء الدين الأميري في الحنين والشوق إلى أولاده حينما سافروا وتزوجوا وتركوه وحيدًا قابعًا خلف أسوار الوحدة.

هذه القصيدة تخلق المواقف أمامك فتجعل الأبناء يتواجدون وإن غابوا وتُشخّص حضورهم في أرجاء القلوب والبيوت معا.

يقول في مطلعها:

أين الضجيجُ العذبُ والشغبُ
أين التدارسُ شابه اللعبُ؟

أين الطفولةُ في توقدها
أين الدمى في الأرض والكتب؟

أين التشاكسُ دونما غرضٍ
أين التشاكي ماله سبب؟

أين التباكي والتضاحكُ في
وقت معا والحزنُ والطرب؟

أين التسابقُ في مجاورتي
شغفا إذا أكلوا وإن شربوا؟

يتزاحمون على مجالستي
والقربِ مني حيثما انقلبوا

يتوجهون بسوْقِ فطرتهم
نحوي إذا رهبوا وإن رغبوا

ثم يشدّ حبال الشوق إلى قلبه لنراه يصف علاقته الحميمة بأولاده، وكأنّ الشوق سدّ جميع أبواب الفرح بغيابهم.

واقعا.. ليس من البطولة والإنجاز أن يبتعد الإنسان عن والديه ويكفّ عن عزف أوتار الحياة عندما يقول «أبي» و«أمي» لأنه بأي حال من الأحوال لم يقم بالواجب الأكبر تجاه من ابتعد عنهم بتقديم الحجج والأعذار.

إنها صورة من أجمل الصور عندما يصف أناشيدهم وهتافاتهم فيقول:

فنشيدُهم: «بابا» إذا فرحوا
ووعيدُهم: «بابا» إذا غضبوا

وهتافهم: «بابا» إذا ابتعدوا
ونجيهم: «بابا» إذا اقتربوا

بالأمسِ كانوا مِلءَ منزلنا
واليوم ويح اليوم قد ذهبوا

وكأنما الصمت الذي هبطت
أثقالُه في الدار إذ غربوا

إغفاءةَ المحمومِ هدأتها
فيها يشيعُ الهمُ والتعبُ

ذهبوا أجل ذهبوا ومسكنُهم
في القلبِ ما شطوا وما قربوا

إني أراهم أينما التفتتْ
نفسي وقد سكنوا وقد وثبوا

وأحسُّ في خلَدي تلاعبَهم
في الدار ليس ينالهم نصبُ

وبريق أعينهم إذا ظفروا
ودموع حرقتهم إذا غلبوا

في كلِّ ركنٍ منهم أثرً
وبكل زاوية لهم صخب

وقد أكدّ الشاعر على حقيقة مهمة وهي أن المنزل العائلي ليس فندقًا أو نزلا للإقامة فقط؛ فلا تكافؤ بين الاثنين على الإطلاق فقافيته العذبة وصفت آثار أولاده وخربشاتهم في كل مكان فهاجت الذاكرة واشتعلت حبّا، وترصدت بأفكار الشاعر فحرمته كلّ لذّة إلا لذّة انتصار بصماتهم المتفرقة في كلّ مكان من المنزل، ولشدّ ما أبهرني بقوله:

في النافذات زجاجها حطموا
في الحائط المدهون قد ثقبوا

في الباب قد كسروا مزالجَه
وعليه قد رسموا وقد كتبوا

في الصحن فيه بعضُ ما أكلوا
في علبة الحلوى التي نهبوا

في الشطر من تفاحةٍ قضموا
في فضلةِ الماءِ التي سكبوا

إني أراهم حيثما اتجهتْ
عيني كأسرابِ القطا سرَبوا

دمعي الذي كتمته جَلدا
لما تباكوا عندما ركبوا

حتى إذا ساروا وقد نزعوا
من أضلعي قلبا بهم يجب

ألفيتني كالطفل عاطفةً
فإذا به كالغيثِ ينسكبُ

قد يعجب العذالُ من رَجلٍ
يبكي ولو لم أبكِ فالعجب

هيهات ما كل البكا خَوَر ٌ
إني وبي عزمُ الرجالِ أبٌ

يخبرنا الشاعر في قصيدته بأننا في حرب مع الحقوق والواجبات إذ تظهر بين كلماته رسالةٌ عميقة تتّوج حق الوالدين على جميع الحقوق والواجبات.

وأنا أقرأ هذه القصيدة تمنيتُ أن توضع وثيقة حكومية تُعاقب من يُهمل واجبه تجاه والديه ويحصر زيارته لهما في نهاية كل أسبوع، فمن غرائب الدنيا وعجائبها أن تنكر فضل والديك عليك وتبخل على نفسك بزيارتهما في كلّ يوم.

وعلى المستوى الإنساني والواجب الديني وفي معترك هذه الحياة المليئة بالواجبات لابد أن تتصدر زيارة الوالدين برنامجك اليومي كأقل واجب تقدمه لهما، وتذكّر دائمًا أنّ ابنك يأكُلُكَ صغيرًا ويرثك كبيرًا.