البطران في مجموعته القصصية «أصغر من رِجل بعوضة» يفلسف فراغات النص ويتمرد ويمارس العصيان ويسعى إلى تأسيس ذائقة جديدة
إذا كانت نظريّة التلقّي تتحدّث عن الطريقة التي يتلقّى فيها القارئ النّصّ؛ فإنّ نظريّة التأويل تتحدّث عن الطريقة التي يُؤَوّل بها القارئ النّصّ. ما ينتج عنه: أفق التوقّع، فراغات النّصّ، المسافة الجماليّة، القارئ الضمني وغيرها.
بالتالي، فإذا كان الجزء المكتوب من النّصّ يمنحنا المعرفة، فإنّ الجزء غير المكتوب هو الذي يعطينا الفرصة لتَمثّل الأشياء أو الإحساس بها.
وفي هذه الأمسية بين أيدينا مجموعة نصوص قصيرة جدًّا بعنوان «أصغر من رِجل بعوضة» للقاصّ حسن علي البطران مُصدّرة بعبارة النّفري: «كلّما ضاقت العبارة اتّسع المعنى»، ما يمهّد لنا الطريق لنقرأ هذه النّصوص بذهنيّة مختلفة، وما يدفعنا إلى التساؤل: أهي ومضات أو لفظات أو قصص قصيرة؟ أو قصص قصيرة جدًّا؟ كلّ هذه الأسئلة تضع المتلقّي في مأزق وتدفعه إلى البحث عن أدوات جديدة للتحليل؛ لا سيّما أنّ الكاتب يقول في موضع آخر: «لا تقرأني من خلال حروف إبداعي». ما يحيلنا إلى المتكلّم الموجود في النّصوص، ربّما يتخفّى الكاتب وراءه أو يترك مسافة بينه وبين المتكلّم.
في الواقع، إنّ القصة القصيرة جدًّا ليست حداثيّة، بل لها جذور في التراث العربي القديم يمكن الحصول عليها في أخبار الحمقى. كذلك عَرَف الموروث السردي العربي أنواعًا قصصيّة مختلفة مثل: قصّة الخبَر، وقصّة المثل. وقد استخدم النّقاد والدّارسون تسميات متعدّدة لتمييز شكل القصّة القصيرة جدًّا مثل: القصّة المفاجئة، السريعة، الومضة، الضامرة.
هذه التسميات تحيلنا إلى بناء الشّكل، وتوحي بأنّه بناء محدود لا يلائم متطلّبات القصّة الكاملة. فالقصص مكتوبة بإيجاز وتكثيف وإضمار وحذف واختزال للفكرة، ما يناسب طبيعة العصر ويجعلها قريبة من لغة ال««Chat، وما يتيح للمتلقّي قراءة القصّة في ثانية واحدة أو دقيقة أو دقيقتين.
وقد اتّخذت نصوص هذه المجموعة شكل النّصّ القصير جدًّا، وهو شكل سريع القصّ عميق المعنى، وقد بوّب الكاتب قصصه في مجموعات تحمل عناوين رئيسة تتضمّن قصصًا قصيرة جدًّا ذات عناوين فرعيّة اختزَلت في مضمونها حياة الفرد، وعكست مظهرًا من مظاهر المفارقة في الحياة. وهذه المفارقة لا توازي الواقع بل تكشف عن متناقضاته والأمثلة كثيرة: «لبست البياض وتبعته سريعًا بالسواد» و«أقمت صلاة المغرب، لم ترتد العباءة، ولم تتوضّأ...» - «يظلّ في حالة غربة وهو يعيش داخل أسوارهم».
واللّافت أنّ الكاتب لم يلجأ إلى الانزياح كثيرًا في بناء لغته القصصيّة، وكأنّه يحاول الابتعاد عن شعريّة النّصّ، فيحاول أن يبثّ الحركة والحيويّة في نصوصه القصيرة التي تقتفي حالة أو فكرة تمثّل ومضة، مثلاً في نصّ «فَرِز» يقول:
تحرّك وتحرّك الآخر
نظر إلى تحرّك الآخر بأنّه تجاوُز، ابتسم الآخر...
وفي نصّ آخر يقول:
- سألها عن حالها..
أجابته: أتألّم؟
أعاد سؤالَه لها: ممّ ولمَ؟
امتَنعت عن الإجابة، رَكِبَ وسيلته وغادر
إنّها صدمة المفارقة التي تنبعث من اتّساع الأفق ومن ضيق الواقع. بالتالي، فإنّ الاكتشاف الآني المفاجئ والتكثيف كلّها سمات مهمّة تقوم عليها النّصوص، فلا مجال للترادف أو الوصف وكأنّ القصّة تبني الحدث كلمة كلمة بناءً محكمًا لا زيادة فيه. بل بالعكس، يلجأ الكاتب إلى تقنيّة الحذف كما حصل في نصّ «ثقوب متباعدة»، إذ يقول: تحاول تقترب منه، يتظاهر بالمرض.
ويمكن القول إنّ التكثيف الذي تبيّناه في هذه المجموعة القصصيّة تجلّى في الميل إلى الجمل القصيرة المركّزة الموحية، والاقتصار على عدد محدّد من الشخصيّات وتركيز الحوار والاستغناء عنه أحيانًا إضافةً إلى كسر الزمن أو تجميده وضيق العنصر المكاني والعناية بالاستهلال لجذب المتلقّي والاهتمام بنهاية القصّة.
ومن الظواهر المهمّة التي ركّز عليها القاصّ ظاهرة الالتفات في الضمير، مثلاً:
امتنعت عن الإجابة، ركِب وسيلته وغادر
هربت منه وجرى خلفها
نادته: حبيبي
اضحكي، قال لها:
لبست نظّارتها وابتسمت
إنّ سبب كثرة الالتفات يعود إلى طبيعة تشكيل بنية النّصّ إذ يأتي بغير المتوقّع لدى المتلقّي، ويعطي النّصّ بعدًا جماليًّا تتّسق فيه الجمل وتترتّب وفق نمطيّة خاصّة تكسب النّصّ بناءً مميّزًا.
وبنفس الأسلوب القائم على الدّهشة والمفارقة تتّسع الجملة، وتطول القصة كما حصل في بعض النماذج من المجموعة إذ نفاجأ بقصّة «دواء تحت أقدام» هذه القصّة التي تدغدغ عاطفة المتلقّي، فتجعله يشعر بأنّه يقرأ ويراقب وينتظر النتيجة.
إنّ هذه القصص تثير أسئلة فنيّة تصدم القارئ، وتهزّ وعيَه الجمالي، وتؤكّد له أنّ البنية الفنيّة لهذه النّصوص فيها احتجاج ورفض لكلّ ما هو متداول ومألوف. فالكاتب كثّف أفكاره ووظّف تقنيّات قادرة على إنتاج نصوص قصيرة جدًّا بلغة ذات حمولة دلاليّة تعتمد على الرمز، والغموض. فيشعر المتلقّي بأنّ عليه أن يستحضر المحذوف والغائب والمحتمل ويبتعد عن اللّغة المباشرة والصريحة.
وتجدر الإشارة إلى أنّ هذا النّوع من القصص يحتاج إلى مواكبة نقديّة مستمرّة ومتضافرة لأنّ فيه تمرّد على الحدود والقيود: إذ يصوغ مادّته من الهواجس، والسرد والوصف والرسم والسيناريو السينمائي، واللّقطات المسرحيّة، ومخزون الذاكرة. فالكتابة عند البطران ليست للعبرة أو لنقل التجربة بل هي فعل عصيان ورفض تسعى إلى تأسيس ذائقة جديدة.