آخر تحديث: 23 / 11 / 2024م - 4:07 م

لا تعبثوا بالقاعدة البغدادية

زكي بن علوي الشاعر

درسنا نحن والأجيال التي سبقتنا القاعدة البغدادية التي كانت تطبع مع جزء من المصحف الشريف، وكانت تطبع - إن لم أخطئ - في الهند، وتقوم على استعراض حروف الهجاء، ثم عرض صورها وصور الحركات الثلاث والسكون؛ ليحفظ الطالب تلك الصور والأشكال، ثم يقرأ القرآن علىٰ شيخه أو شيخته، جزءًا جزءًا، وشيخه يسمع ويصوب ويصحح إن أخطأ في قراءته، وما حفظه بصره ونطقه لسانه فتعوده أساس له وقاعدة في قراءته؛ ومن هنا سميت «قاعدة»، وقيل لها: بغدادية؛ لأنها ابتكرت في بغداد، وإن لم يعرف صاحبها وتاريخ تطورها.

ولم تكن دراستنا إلا تلقينًا، ولم تكن شرحًا وإفهامًا، علىٰ أننا انتفعنا بذٰلك التلقين أيما انتفاع؛ بل أعاننا بعد في دراسة النحو والصرف والإملاء... فرحم الله معلمينا ومعلماتنا، وجزاهم خير جزاء المحسنين.

وقد اطلعت علىٰ مذاهب الضبط بالشكل، وكان أرقاها ما اختاره من قام من العلماء علىٰ طباعة المصاحف في مصر والسعودية وغيرهما، وكنت أنظر في المصاحف المطبوعة لغير العرب، من مسلمي القارة الهندية، فأجد صورة الواو وصورة الياء مضبوطتين بصورة السكون، إلا إن كانتا متحركتين شبيهتين بالصحيح من الحروف.

وسكون المصحف معروف، وهو صورة رأس خاء صغيرة غير منقوطة، ويرمز إلىٰ أن هٰذا الحرف ساكن «خالٍ من الحركة»، ثم رمز للسكون في غير المصحف بدائرة صغيرة مستديرة، وهي صفر، فالحرف المضبوط بها صفر من الحركة خالٍ منها.

بحثت كثيرًا عن مصاحف مطبوعة قديمة قرأنا وقرأ من قبلنا فيها، فلم أجد، وبحثت عن القاعدة البغدادية المطبوعة قديمًا، فلم أجدها كذٰلك.

ثم إني وجدت القاعدة البغدادية مطبوعة في لبنان، ومعها جزء ، وقد صور هٰذا الناشر جزء من المصاحف المطبوعة في مصر والسعودية، ولم يعلم أن هٰذا الضبط ليس تطبيقًا للقاعدة البغدادية، كما كان حال المصاحف الجامعة والمجزأة قديمًا.

ومن عجيب أمره أنه تصرف في رسم الحروف، فرسم ا ب ت... ن هـ ولاء ى والسلام.

ويظن بعض من لقن القاعدة البغدادية وهٰذا الناشر أن «والسلام» عند انتهاء تعداد الحروف تحية.. وما هي بتحية مجردة؛ ولٰكن الحرف الأول في الهجاء الأبتثي إنما هو الهمزة، ولو قيل: ”همزة“، لما ظهر صوت الهمزة في بداية لقب الحرف، كغيره من الحروف؛ إذ ما من لقب للحرف، إلا وصوته في بداية لقبه؛ تقول: باء، وصوت الباء فيه، وتاء، وصوت التاء فيه،... ونون، وصوت النون في بداية اسمها ولقبها... وهٰكذا.

أما إذا قلت: همزة، فليس صوت الهمزة في اسمها ولقبها؛ ولذٰلك قيل: ألف؛ لينطق صوت الهمزة في بدايته.

ولا يقال للهمزة: ألف، إلا تجوزًا، وقد يقال لها: ألف يابسة. أما الألف، فهو ذٰلك المد الذي في مثل «صاحب»، ولأن طبيعته المدية لا تمكن المتكلم من البدء به، وأراد صاحب القاعدة البغدادية أن يدرجه ويعده في الهجاء، أتىٰ به مادًّا به حرف اللام، ف «لا» في القاعدة البغدادية إنما هو رمز الألف، وإنما كتب صاحب القاعدة «لا والسلام»؛ ليفهم الدارس أن الألف هو هٰذا المد الذي في «لا» من كلمة «السلام»، ولم يكتب «لا السلام»؛ لأن الألف يحذف عندئذ؛ للتخلص من التقاء الساكنين «الألف والسين المبدلة من لام أل»، فلا يعرف الدارس طبيعة الألف المدية.

والقاعدة البغدادية علىٰ منهج المتقدمين الذين يرون أن أخف الحركات الفتحة، وأثقل من الفتحة الكسرة، ثم أثقل من الكسرة الضمة، وقد كنا نردد: أَ إِ أُ بَ بِ بُ تَ تِ تُ... ثم بًا بٍ بٌ تًا تٍ تٌ. أما نحن المتأخرون، فأخف الحركات الفتحة، وأثقل منها الضمة، ثم الكسرة أثقل من الضمة.

وتظهر الثمرة في كتابة ما فيه همزة متوسطة؛ إذ ينظر ما حركة الهمزة؟ وما حركة الحرف الذي يسبق الهمزة؟ ثم ترسم الهمزة علىٰ ما يناسب الحركة الأقوىٰ منهما؛ فالمبني للمفعول من «رأىٰ» يرسم عند المتقدمين «رُؤِيَ»، يكتبون: رُؤِيَ الهلال، ويرسم عند المتأخرين «رُئِيَ»، يكتبون: رُئِيَ الهلال.

في القاعدة البغدادية والقاعدة المكية والقاعدة النورانية أخطاء، وكلها لا يعتمد عند العارفين بالضبط؛ ولٰكن الناظرين فيها أحسن حالًا من أبنائنا وبناتنا الذين أتوا بالعجائب والغرائب.