آخر تحديث: 16 / 4 / 2024م - 4:10 م

الحكاية المختصرة، والتكثيف المختزل، والمفارقة الصادمة

قراءة في مجموعة حسن علي البطران القصصية القصيرة جداً «مارية وربع من الدائرة»

الدكتور محمد صالح الشنطي * مجلة اليمامة

فن القصة القصيرة جداً فن سردي مثير للجدل، غير أنه، في اعتقادي، من أصعب الفنون أداءً، يوحي بالبساطة والسهولة، في حين إنه فن مراوغ بطبيعته؛ فهو محدود الطول، عميق الدلالة، مختصر العبارة، ينطوي على المفارقة، يكاد يكون هناك إجماع على أن أركانه ثلاثة: الحكاية، والتكثيف، والمفارقة، تفضي إلى وحدة دلالية، وفي إطارها تأتي تفاصيل أخرى تختلف حولها وجهات النظر.

يشير الكاتب منذ البداية إلى أن مجموعته تتكوّن من عشر حزم إبداعية، كل حزمة تحتوي على أربعة نصوص، تتبعها أربعة نصوص أخرى طول حزامها لا يكفي على حد تعبيره، وهذا يشير إلى وعي الكاتب بجوهر هذا الفن، ويخطط له على نحو مدروس، ويسير وفق خطة محدّدة، يحاول الناشر أن يزوّد القارئ بعلامات تدلّه على ما أسماه «الحزام الإبداعي» لكل مجموعة، مقترحاً له: الرمز، والفكرة، والعنصر المشترك الذي قد يكون فعلاً حركياً أو لوناً أو مفردةً أو فلسفة، ولعل في ذلك ما يريح القارئ أو يفسد عليه متعة التأمّل والتفكير، ولكنه، على أية حال، لا يُلزمه بشيء من ذلك؛ فليس من الضروري أن يكون القارئ على وعي بهذه التوجيهات، خصوصا إذا كان النّص مرجعيته الأساس فحسب.

في قصته «لحظة لم تكن عابرة» في حزمته الإبداعية الأولى، توفّر العنصر الأهم في القصة القصيرة جداً في العنوان؛ فمن شأن اللحظات أن تكون عابرة، وهنا اجتمع النقيضان: المرور العابر، والاستمرار، لتفصح القصة، منذ عنوانها، عن أهمية الموقف الذي انطوى على تكثيف مركّز يتمثل في الشخصيتين الرئيستين، والحدث الموحّد والمتحرك الابتسام وعدمه، والعنصر الثالث الحكاية؛ حيث اللقاء والتردد بين الابتسام وعدمه، واحتواء الدفء لهما مع شدة البرد، وهذه مفارقة أخرى تعزّز الأولى. أما النص الثاني من هذه الحزمة، ويحمل عنوان «الشجرة المقطوعة»، فينطوي على المقوّمات الثلاثة: الحكاية التي قوامها الاتصال والانفصال واللقاء والافتراق والرفض المطلق «الغضب من اقتراح الاقتراب» والقبول المطلق «الزواج»، والتكثيف في الحدث والشخصية والمكان والزمان، والمفارقة بين الإقبال والإدبار.

أما النص الثالث «قارورة لا تكفي» فيشترك مع ما سبقه من نصوص في المفارقة بين الفعل والقول: كسر القارورة، وإعلان الحاجة إليها. اللافت في القصة استخدام لفظ «القارورة» الذي يستدعي عبارة «رفقاً بالقوارير» وتأنيث محور الوقائع في هذه النصوص «المرأة»، والمفارقات فيما تتعلق بالموقف منها، يتمّم هذا في النص الرابع «غبار مقدس» وهو يعزّز ما ذهبت إليه من أن الحزام الإبداعي الرابط بين هذه النصوص «المفارقة في موقف الرجل من المرأة».

في الحزمة الثانية يبدو المكان محوراً مشتركاً بين النصوص الأربعة، وهي في مجملها، تجعل منه مناط الدلالة في القصة الأولى الشاطئ، وفي الثانية البيت الحرام، وفي الثالث المزرعة، وكلها تدور حول القيمة النفعية، مادية أو معنوية؛ ففي قصة «شاطئ في كفة الميزان»، تكون ساحة الحدث ماثلة في الشاطئ، ويكون الرفض منوطاً بالقيمة المادية؛ فرفض الفقير ناجم عن رجحان كفة غيره في مستواه المادي. وتمثلت المفارقة في الربط بين الشاطئ والميزان. وفي قصة «طواف بعد أكل الثمرة»، كان العزوف عن الطواف حول الكعبة، بعد اختفاء المرأة، مفارقة صادمة ربطت بين أداء الشعيرة الدينيّة والتعلّق بالرغبة الجنسية، وفي الثالثة «فأر يحوم في الحديقة» مفارقة ذات طابع رمزي يتمثل في استباق الرغبة لأوانها، واصطناع الوسيلة لها مهما كانت دناءتها «الفأر والبندورة»، وفي الرابعة «مكان» رمزية المسافة، والتعبيرعن التنائي بين الراغب والمرغوب.

في الحزمة التالية التي عنوَن أولها ب «شوكة أخرى» تمحورت حول الفشل في الاستمرار على الطريق المختارة، والوقوع في المأزق، وكان محور المفارقات «السير والنكوص»، والتقدم والارتداد؛ ففي الأولى، ينجح البطل في اصطياد السمكة، ولكنه يفشل في الاحتفاظ بها فيتعثّر ويصاب بالنزيف، وفي الثانية «خفة برائحة لبان» يحاول بطلها أن يساوم على فتح القارورة ويحصل على مبتغاه من وراء ذلك، ولكنه يفشل، وتحترق خيمته، وينظر إليه الجميع بلا اكتراث؛ حيث المفارقة بين الرغبة في الربح والخسران المبين، والمبالغة في الاهتمام، والخفة، والاستهزاء.

وفي الثالثة يمضي في طريق النجاح والارتداد نحو الفشل، الوصول والنكوص؛ فالبطل يحقق أقصى درجات النجاح بوصوله إلى رتبة عسكرية عليا، ثم يعود متدرباً وكأنه يبدأ من جديد؛ من هنا، كان العنوان المفارق بين الجاذبية وتيار الهواء «الارتفاع والانخفاض».

وفي القصة الرابعة يمضي الكاتب في تعزيز ثيمة التحوّل، من خلال قطبي الحدث، عبر عبارة رمزية تتمثل في التساؤل حول زراعة الورد، فنحن أمام حزمة إبداعية كما يسميها المؤلف محورها الحركة والتحول: فنحن أمام دينامية تجعل من الشخصية ذات إرادة في التغيير تتأرجح بين قطبين أساسيين يمثلان خاصيّة رئيسة من خصائص القصة القصيرة جداً، فالنصوص الأربعة تتأسّس على: التحوّل والتعثّر في الأولى، والنجاح والإخفاق في الثانية، والتقدم والنكوص في الثالثة، والسلب والإيجاب في الرابعة، وهي ثيمات ذات سمة درامية محدودة بحدود الفكرة الرئيسة التي ينتجها وعي الكاتب بحركة الحياة والأحياء، يلفّها غموض ناجم عن طبيعة القصة القصيرة جدا التي تبدو أقرب إلى الشرارة الناجمة عن حساسية الوعي وانطلاق شرارة الفكر.

يمضي الكاتب على هذا النهج في مجموعته هذه، فتتحول القصة القصيرة جداً إلى ومضات لامعة تضيف لفضاء الخيال، وتلامس صُور الوعي، وتبقى وفيّة للممارسة الإبداعية لهذا اللون من القصص الذي يبدو - وفقا لتصور بعض الفلاسفة النقاد - تطويراً لفن سابق كما يرى «برونتير»، أحد النقاد الثلاثة الذين أسّسوا للمدرسة الاجتماعية والتاريخية في النقد، وهم: هيبوليت تين، وسانت بيف، وبرونتير الذي مهّد للمدارس الأدبية، الأمر الذي يحدو إلى تصوّرٍ مفاده أن القصة القصيرة جداً تمثل الارتقاء بفنّ المقامة التي ظهرت في العصر العباسي منبثقة من فن الرسالة.

العناوين الأربعة في الحزمة الرابعة مصادر مطلقة الدلالة: الحوَل، والنداء، والاتّساع، والخوف. والمصادر لغةً هي أصل الاشتقاق، الخوف. الرؤية المنحرفة حيث المفارقة بين الاستقامة والانحراف، والانزلاق عن الرؤية الصائبة والوقوع في أسر الوهم وتنكّب الصواب، فالمكان بما يمتاز به من مظاهر لافتة لا تستقيم رؤيته لدى البطلة الأنثى التي تبدو محور الحركة في النصوص الأربعة في هذه الحزمة كما يسمّيها صاحبها: الأنثى في رؤيتها للحياة، وتقلّبها في تعاملها من الآخر الرجل بين الرغبة والخوف، والتردّد بين الإرادة والفعل، كل ذلك يأتي في مشاهد وامضة دالّة، علامات تؤشر للمعنى وتثري الدلالة.

في حزمته الإبداعية الخامسة يبدو معجمه اللفظي في العنوان حقلاً لونياً، ولكنه اللون المعنوي وليس الحسّي يدّخر معنىً رمزيّاً؛ فالقصص الأربع الشخصية الرئيسة فيها نموذج معبر عن دلالة متفرّدة متميّزة عن الغير، مفارقةً لعناصر الّلقطة التي يقتنصها الكاتب مستلّاً لها من أُلبوم الحياة يستقطرها، بمعنى أنه يصفّيها من مختلف العلاقات التي تتصل بالتعلق بمظاهر المتعة أو الترف، والانخراط في السعي وراء الرغبات؛ ففي طلاسم بيضاء يختار الكاتب المقبرة فضاءً للقصة؛ حيث الارتباط بيتن النموذج الذي اختاره والشعائر التي يؤديها في هذا المكان الذي يشير إلى المآل والمصير، وازوراره عن الآخرين، وهذا مؤشر يومئ إلى طبيعة النموذج الذي يستعرض سماته في بقية قصص الحزمة. وفي القصة الثانية انزلاق، يبدو النموذج مريضا متعثرا رافضا للخروج من القفص، وفي مستهل القصة يشير الكاتب إلى الغربان السبعة المصابة بالعمى في إشارة رمزية دالة. وفي القصة الثالثة تبين أن النموذج لاعب الكرة يقع في حركته بين نقيضين: البراءة من التسلل في لعب كرة القدم، واكتشاف ارتكابه لها في النهاية مفارقة صادمة، ولعل ما يميز الكاتب في قصصه إطلاقه لعبارة رمزيّة دالة، ففي القصة السابقة أشار إلى الغربان السبعة العمياء في أول القصة أو في آخرها حين قال في نهاية هذه القصة: اكتشف أن ماء الشاي الذي يشربه معهم لم يغلٍ تماما، وهي أشبه بلحظة التنوير في القصة القصيرة. وفي «أيام ملونة» يبدو المشهد وقد انطوى على خلاصة التجربة الإنسانية للنموذج حين يقدم لقطتين في فقرتين محوريتين نقيضتين، وهو ما يميز الملمح الدرامي في هذا الفن: اللقطة الأولى تصور حاجته حيث يمد يده إلى الرغيف الذي هو في أمسّ الحاجة إليه، واللقطة الثانية، وهو يمد يده بالرفض لما كلّف به. رؤية عميقة لمفهوم التحول والحاجة المذلة والأنفة المعزّة.

والمجموعة تقتضي دراسة أوفى لا يتسع لها المجال؛ ولعلها تكون موضوع دراسة تتقصّى ملامحها وسماتها الجمالية والرؤيويّة.

نشر بتاريخ 19 يناير 2023