الطريق الشاق لبناء التفاهمات السياسية
الرئيس الأميركي السابق ريتشارد نيكسون، وقبل ذهابه إلى الصين في العام 1972، وضع مُرتسما ورقيا كتب فيه: ”ما الذي نُريده نحن؟“. ثم كتب ”ما الذي يريدونه هُم؟“. ثم كتب ”ما الذي نُريد كلانا“، وهي القصة التي يرويها الدكتور ولي نصر، في كتابه ”الأمة التي يمكن الاستغناء عنها: السياسة الأميركية في حالة تراجع“، معلقا عليها بقوله: ”مهما يكن رأيه في الشكل الذي ستكون عليه الإجابة عن السؤال الأخير، فإنه أرسى قواعد دبلوماسيته مع الصين وفقاً لما تقرره تلك الإجابة“.
ذات الشيء اشتغل عليه السفير ريتشارد هولبروك، المبعوث الأميركي الخاص لباكستان وأفغانستان في إدارة الرئيس باراك أوباما. والذي عمل على مقاربة الملف الأفغاني عبر تصور ”رسم به دوائر تمثل اهتمامات القوى الإقليمية ومصالحها، ومنطقة صغيرة تتقاطع فيها هذه الدوائر وتتداخل، تلك المنطقة هي التي يجب أن تجري فيها التسوية النهائية“، كما يقول نصر.
تلك السياسة سعى لتجربتها عمليا هولبروك، عندما سعى بدبلوماسية طويلة الأمد وصبورة، إلى إقناع الهند وباكستان، أن من مصلحتهما الوصول إلى نقاط اتفاق بشأن أفغانستان، تساهم في تعزيز الأمن في هذا البلد، وتحقق لكل من إسلام أباد ونيودلهي مصالحهما.
لم تكن المهمة سهلة، فبين باكستان والهند إرث طويل من النزاع والمصالح المتضاربة، كما أن أفغانستان تمثل نقطة اشتباك وصراع بالوكالة بين البلدين. من هنا، اعتقد هولبروك أن ”واحدة من أهم نقاط التلاقي في المصالح والاهتمامات هو ألا أحد «بما في ذلك باكستان» راغب في رؤية الفوضى وهيمنة المتطرفين وهي تسبغ نفسها بشكل مستدام في أفغانستان“، كما يسرد والي نصر في كتابه، وهو الذي كان واحدا من الفاعلين الرئيسيين في فريق هولبروك.
ولأجل تحقيق هدفه، اعتمد هولبروك استراتيجية حوار بين الهند وباكستان، تقوم على استبعاد جميع الملفات التي تشكل نقاط اختلاف بين البلدين، بما فيها قضية كشمير، واستطاع ”اقناع الجنرال كياني أن يجلس مع الهنود للحوار حول أفغانستان وفقط أفغانستان، دون أن يجري فتح أي ملف آخر، وأخذ هولبروك هذه الموافقة وطار بها إلى الهند التي كرر قادتها دائما إنهم على استعداد للحوار مع باكستان حول الشأن الأفغاني فقط، على ألا يشمل أي موضوع جانبي آخر“. ويضيف نصر قائلا: ”لقد تمكن هولبروك من خلق دفعة لتحريك الأوضاع ضمن ظروف غير مواتية، حتى الهنود والباكستانيين كانوا من جانبهم مندهشين من قدرته على جمعهم سوية“.
مساعي ريتشارد هولبروك هذه، لم يكتب لها النجاح، لا لكونها غير فاعلة أو لم تُبنَ على أسس دبلوماسية صحيحة، وإنما لكون الموت باغته فجأة في العام 2010، ولذا فقدت الجهود زخمها، ولم تستطع وزيرة الخارجية الأميركية - حينها - هيلاري كلينتون مواصلتها.
التجربة السابقة رغم أنها بنيت على رؤية قد يعتبرها البعض ”رومانتيكية“، يشوبها الكثير من الأمل غير الواقعي، والدليل أن المشكلات بين باكستان والهند لا تزال مستمرة، إلا أن المساعي الدبلوماسية هذه، يمكن الاستفادة منها في بناء منهجية قائمة على الدبلوماسية والحوار من جهة، والقوة من جهة أخرى، بحيث تكون الأخيرة في خدمة السياسة، وورقة ضغط من أجل تعزيز السلم والأمن.
هنالك مشكلات عدة في الشرق الأوسط، سواء بين إيران وعدد من جيرانها العرب، أو في العراق بين الفرقاء السياسيين المختلفين، أو المواجهات المستعرة في ليبيا، وحالة عدم الاستقرار في اليمن وسورية، وكل هذه الملفات الشائكة لا يمكن حلها إلا عبر الحوار والتواصل الحقيقي الجاد، الذي يروم اجتراح الحلول لا مجرد إضاعة الوقت.