آخر تحديث: 23 / 11 / 2024م - 3:22 م

على أعتاب الصعاليك!

ميرزا الخويلدي * صحيفة الشرق الأوسط

ما الذي يفرق بين الشعراء الصعاليك وشعراء المعلقات...؟ جميعهم كانوا عرباً وينتمون للتراث العربي، ويمتازون بالجودة الأدبية، وقدموا مساهمات في إثراء اللغة والأدب والثقافة... لكن بعضهم كان يحظى بنظام حماية اجتماعي «القبيلة»، والآخر كان منبوذاً أو ثائراً على نظام القبيلة.

في ذلك المجتمع؛ القيمة الثقافية مثل القيمة الشخصية، ليست ذاتية، بل بما ترمز إليه من تبعية وانتماء وعصبية. نحن أمام نمطين مختلفين من الثقافة. كلاهما ساهم في إثراء اللغة والأدب. وكلاهما من موقعه تشبع بأخلاق البيئة التي عاش فيها. لكن بقي هناك مثقفون ذوو ياقات مصقولة وشعور مصبوغة يوزنون في المحافل بالذهب، ومثقفون فقراء معدمون محرومون يعيشون على الهامش. أخلاقيات الأفراد والمجتمع لا تصنع موهبة، البيئة العربية التي أنجبت شعراء عظماء مثل النابغة الذبياني، وزهير بن أبي سلمى، وعلقمة الفحل، هي التي أنجبت الشنفرى وتأبط شراً وعروة بن الورد.

وُلِدَ الشعراء الصعاليك، من رحم القهر والتهميش والتمييز والاستعلاء والطبقية في المجتمعات العربية. جاء أغلب هؤلاء الصعاليك من قبائل ضعيفة أو هامشية أو لديها تحالفات تخشى انهيارها. القبائل القوية كانت تمارس أفعال الصعاليك كالفتك والغزو وأخذ الغنائم والسبايا جهاراً نهاراً وكانت تحمي فرسانها الأشداء الذين يغيرون على القبائل وينهبون أملاكها.

حين تقرب الصورة ستجد أن لا شيء يميز الصعاليك عن غيرهم سوى حياة التصعلك. كانوا يشتركون مع الجميع في النمط الأخلاقي العام... ف «الحر يشبع من مخلابه»، وحيثُ الفروسية تقترن بالغزو ونهب القبائل الأخرى وكسر هيبتها، وكان الشعراء أيقونة هذا الحفل الرهيب، كانوا فرساناً مقاتلين كامرؤ القيس، ودريد بن الصمة... أو مجرد شعراء يبثون الحماس في نفوس المحاربين ويصورون بالشعر الغارات الليلية ضد القبائل المنافسة، على أنها أفعال فروسية وبطولة، تنساب منها الأخلاق والمكرمات مثل الشجاعة والمروءة والكرم وحتى العفة. الشعراء كانوا وسائل إعلام موهوبة لتجميل تلك الأعمال الدموية وتعزيز صورتها.

في تلك الحقبة التي ولد فيها الصعاليك، كانت الحروب تفتك بأرض العرب... بكل مأساوية ودموية وهمجية... اشتعلت حروب الأخوة وأبناء العم، وفيها انتهكت المحارم وسادت لغة الثأر والانتقام مثل حرب «البسوس» و«داحس والغبراء»، و«حروب الفجار»... حتى أن وجدنا زهير بن أبي سلمى، يصرخ في وجه ثقافة الحرب تلك أيام «داحس والغبراء»، قائلاً:

«وَما الحَربُ إِلا ما عَلِمتُم وَذُقتُمُ/ وَما هُوَ عَنها بِالحَديثِ المُرَجمِ/ مَتى تَبعَثوها تَبعَثوها ذَميمَة/ وَتَضرَ إِذا ضَريتُموها فَتَضرَمِ».

في هذا الوسط، نشأ الصعاليك وتشربوا هذه الروح المشبعة بالفوضى والنفاق: «غزو وشجاعة»، «نهب وكرم»، «عدوان ومروءة»... وزادوا عليها ذخيرتهم الانفعالية من الغضب الناتج عن القهر والتهميش، بل وحتى التجويع... لذلك اختار الصعاليك الثورة... ولجأوا إلى البراري والقفار ينهبون ويسرقون من القوافل ما يشبع جوعهم... حتى أنه إذا شكا فتى إلى عروة بن الورد، فقره وجوعه؛ أعطَاهُ فرساً ورمحاً، وقال لهُ: إِن لم تستغنِ بهما فلَا أَغنَاك الله...!

اختار بعض الصعاليك أن يتمرد على نظام القبيلة، خصوصاً تلك القبائل البائسة التي كانت تصب جام غضبها على أبنائها بغية إسكاتهم ودفعهم للهامش. فالخوف يقود الفئات الضعيفة لممارسة القمع الداخلي على أبنائها.

وكانت العنصرية أحد أسباب نشوء ظاهرة الصعاليك. بعض القبائل تنكرت لأبنائها لاختلاف ألوانهم. فقد كانت العنصرية سمة أصيلة في الثقافة العربية، بل إنها أشد سوءاً مما نعرفه في أي مكان آخر، حيث يتنكر الأب لابنه لمجرد أنه ولد من أم حبشية فصار لونه أسود. وتطرد القبيلة أبناءها لمجرد أن سحنتاهم سمراء... حدث ذلك مع الصعاليك، أمثال: السليك بن السلكة، وتأبط شرا، والشنْفَرى. وحدث مع عنترة، وهو فارس قبيلة عبس، حيث يرسم لنا صورة تلك تلك العنصرية:

«يُنادونَني في السِلمِ يا اِبنَ زَبيبَة/ وَعِندَ صِدامِ الخَيلِ يا اِبنَ الأَطايِبِ/

وَلَولا الهَوى ما ذَلَ مِثلي لِمِثلِهِم/ وَلا خَضَعَت أُسدُ الفَلا لِلثَعالِبِ».