آخر تحديث: 21 / 11 / 2024م - 1:42 م

هكذا تكلم عبد الفتاح أبو مدين لمحمد رضا نصرالله: قررنا إصدار الأضواء على «فنجان شاي»!

محمدرضا نصرالله و عبدالفتاح ابو مدين و د احمد محمد الضبيب و د عبدالعزيز الخويطر في احدى مناسبات مجلس أمناء مركز الشيخ حمد الجاسر.
محمدرضا نصرالله و عبدالفتاح ابو مدين و د احمد محمد الضبيب و د عبدالعزيز الخويطر في احدى مناسبات مجلس أمناء مركز الشيخ حمد الجاسر.
جهات الإخبارية مجلة اليمامة

هو أحد أبرز الأدباء السعوديين الذين حملوا راية التنوير عبر الصحافة والمؤسسات الأدبية، واجه التشدد الفكري بورقة وقلم، واحتضن الحراك الثقافي القائم على الفكر والنقد الحديث، آمن بمشاركة المرأة، وكان من بين أوائل من أتاحوا لها المشاركة في فعاليات النادي الأدبي في جدة، الذي ترأسه نحو ربع قرن، خلال الفترة ما بين عامي 1980م و2006م، إنه الأديب والإعلامي والناقد سعودي عبد الفتاح أبو مدين، وُلِدَ في عام 1925م ببنغازي الليبية، شغل منصب رئيس النادي الأدبي الثقافي بجدة، كما أصدر جريدة الأضواء، وهي أول جريدة تصدر في جدة خلال الحكم السعودي، شراكةً مع محمد سعيد باعشن ومحمد أمين يحيى في عام 1957م، تم تكريمه في مؤتمر الأدباء السعوديين الثالث في عام 2009م، كما نال وسام الملك عبدالعزيز من الدرجة الأولى في 2018م، من أبرز أعماله: الفتى مفتاح «سيرة ذاتية»، وأمواج وأثباج «نقد أدبي»، وفي معترك الحياة «دراسات أدبية»، وألف صفحة وصفحة من الأدب والنقد، والحياة بين الكلمات، وتوفي في عام 2019م عن عمر ناهز 94 عامًا.

في هذه الحلقة من برنامج «هكذا تكلموا» مع الزميل، الكاتب والإعلامي الكبير محمد رضا نصرالله، قدّم أبو مدين بعضًا من سيرته ومسيرته، محاولًا في ثنايا حديثه أن يكشف لنا عن عصاميته وبداياته الصعبة، وحياته القاسية، ونضاله من أجل الأدب، حيث تشابهت حياته بشكل ما مع شخصية عميد الأدب العربي د. طه حسين، الذي تأثر به أبو مدين، السطور القادمة تحمل حديثًا ماتعًا عن الأدب والصحافة والحياة في حقبة مهمة من تاريخ المملكة.

أبو وديع، أنت من مواليد بنغازي، وُلِدت فيما بين الحربين العالميتين، وقتذاك كانت ليبيا تحت مرمى النار، في حكاية الفتي مفتاح تشير في بعض صفحاته إلى معاناتك، أنت وأهلك، مع الحرب العالمية، نريد هنا أن ننطلق من هذا، قبل القدوم إلى المملكة، نريد الحديث أن يكون متلونًا بطبيعة الظروف التي تركتها هناك؛ السياسية والاجتماعية والثقافية.

فعلًا أنا عايشت هذه المرحلة، وأذكر أنه في مثل هذا الشهر، في شعبان، كنا في المسجد وبدأت الأنوار تنطفئ وقالوا إن هناك غارات حربية إنجليزية على البلد، وبدأت معاناة الناس مع هذه الحرب، بدأوا بحفر الخنادق، والأضواء كلها أصبحت بألوان معينة بسبب الحرب والقنابل والطائرات، وإنذارات تأتي للناس ببداية الغارة كي يذهبوا إلى الخنادق، وفي بعض الأحيان كان الإنذار يأتي، ولكن لا تأتي الغارة، واستمرت هذه العملية من 39 إلى 42 في منطقة بنغازي، حيث كانت بين كرّ وفرّ بين الحلفاء وإيطاليا ومعهم الألمان، وكانت البلد في فقرٍ مدقع، وأزمة حياة قاسية وعنيفة بصورة عامة بسبب الاستعمار وشح المطر، ولم يكن فيها سوى بعض المواطنين الذين تعلموا في المدارس الإيطالية ويشغلون بعض الوظائف، وبشكل عام كانت الحياة مدقعة ثقيلة.

كيف كانت الحياة الاجتماعية والسياسية وقتذاك؟

لم تكن هناك حياة اجتماعية ولا سياسية، كان هناك استعمار في البلد، كان التعليم كله باللغة الإيطالية، ما عدا مطالعة أو قراءة محدودة باللغة العربية، ومن يتخرج من تلك المدارس ينضم إلى الشرطة أو الجيش أو يكون موظفًا في الحكومة الإيطالية، وكانت الحياة طبعا قاسية لأن البلد كانت بلا موارد.

كيف نجوت بجلدك من آثار الجندية؟

نجوت لأني والدتي «رحمها الله» منعتني أن أدخل المدارس، وطالما لم أدخل مدارسهم، فهذا يعني انه لا توجد إحصائية تلزمني أو تفتش عني، وبهذه الطريقة تحولت من التعليم في المدارس الإيطالية إلى حفظ الكتاب العزيز على الطريقة التقليدية عند فقي كان يدعى أبو بكر الفزاني، من فزان وهي ولاية في ليبيا، وكان هذا هو رصيدي الأول في العلم.

بالتأكيد شاهدت الفيلم الشهير الذي قدمه مصطفى العقاد عن عمر المختار، كيف قرأت الأحداث؟، وهل وجدت فيما قدمه العقاد صورة ليبيا التي تركتها وقتذاك؟

تقريبا، لأن عمر المختار «رحمه الله» ظل يجاهد الإيطاليين بعد دخولهم ليبيا في شَعَف الجبال لمدة 20 سنة، وقبضوا عليه وهو شارف الثمانين، وقالوا له أنه إذا دخل في السلم مع إيطاليا، فإنهم سيتركون سبيله، فرفض وقال لو تتركوني لأقمت عليكم الحرب من جديد، فشنقوه في منطقة سلوق، التي تبعد 50 كم من بنغازي، والأحداث التي نقلها العقاد هي نفس الاحداث.

اليوم، حينما تتصفح ما يكتبه علي مصطفى المصراتي، خاصةً من أقاصيص وروايات، كيف ترى صورتك أنت وما تمثله من جيل كامل في ما يكتبه المصراتي، كواحد من رواد الأدب الحديث في ليبيا؟

لقد قضى زمنًا طويلًا من عمره في رصد الحركة الأدبية والثقافية من بداياتها المبكرة، وهو لديه جَلّد وصبر وبالفعل هو استطاع أن يرسم هذه الصورة بقدر كبير من النجاح، أما صورتي.. فأنا واحد من هؤلاء.

كما يقول عمر أبو ريشة.

تماما.

يبدو أن خالك، الشيخ مصطفى بدر الدين، الذي كان يعمل ناظرًا في ميناء جدة، قد شكّل وجوده هنا لحظة مفصلية في حياتك، نريد أن ترحل بنا من بنغازي إلى جدة، حيث أصبح بعد ذلك عبدالفتاح أبو مدين واحدًا من أبرز رواد الأدب والصحافة في المملكة العربية السعودية.

خالي «رحمه الله» فيما سمعت أنه كان أيضا مديرًا لجمرك في منطقة اسمها درنة، هذه المنطقة على شاطئ البحر الأبيض المتوسط على بعد 280 كم شرق بنغازي في الطريق إلى مصر، وفي عام 1911م لما غزا الإيطاليون ليبيا، هاجر خالي إلى الجزيرة العربية، وهناك أقام، فكان الحجاج الليبيون في كل سنة في عهد الإيطاليين، وعددهم محدود، يسيرون إلى الحج، وكانت والدتي ترسل معهم رسالة إلى أخيها، تبثه شوقها وأنها تريد أن تراه ما دامت حية وهو حي، وكان خالي يرسل لنا جنيه أو اثنين من الجنيهات الذهبية مع الحجاج، وكان يضيّف حجاج بنغازي هنا في بيته، وبعد فترة ومن شدة شوقه لملاقاة أخته، كتب إلى السفارة البريطانية هنا في جدة، يخبرهم بأنه يريد أن يستقدم أخته وابنها من ليبيا إلى هنا كي يعيشان معه، فالسفارة البريطانية كتبت إلى وزارة المستعمرات في لندن تقول إن مصطفى بدر الدين من الشخصيات المرموقة وذات القيمة، ولكنه محوري، أي أن ميوله مع المحور والألمان، ولكن لا مانع من أن تجلبوا له أخته وابنها للعيش معه، وهذه الرسالة مع صهري يحتفظ بها حتى الآن، ولما فُتِحَ باب الحج بعد الحرب، ركبنا في سيارات الشحن الكبيرة التي كانت تسمى بالكميون، وسافرنا بها في عام 1944م إلى مصر.

كم استغرقت الرحلة؟

استغرقت حوالي 3 أيام، من بنغازي إلى السويس المصرية، فقال المصريون أنه لا بد لنا من أن ندخل الكارنتينا أو العزل الصحي، فبعد جدال طويل معهم بأننا لسنا مرضى أو كذا، ركبونا على ظهر الباخرة وأتينا إلى هنا في ميناء جدة، وكانت البواخر تقف في البحر والسنابيك تتولى إيصال الحجاج إلى البر، وكان خالي ينتظرنا في الميناء وحملنا إلى بيته، كان على نفس الباخرة معنا كان معنا صهر خالي، وهو سوري، طبعا لم نعرف بعضنا البعض إلا في جدة، فطلب خالي مني ومن صهره أن نذهب لنحج مع مطوّف اسمه جعفر عبدالغني، وأنه سيحج مع والدتي، وعندما ذهبنا إلى المطوّف وجدناه قد رحل إلى عرفات، فكان لنا جار لديه حمارين، فأخذناهما وقضينا ليلة كاملة حتى وصلنا إلى عرفات، وظللنا نبحث عن المطوّف حتى الصباح ولم نجده، فنصحنا الناس بأن نكمل حجنا ونتوقف عن البحث عن المطوّف.

أي أنك حججت على الطريقة البدائية في تلك الفترة.

نعم، بالضبط.

يبدو أيضا أن خالك قد كاتب السيد حبيب في المدينة، لكي يضمك إلى المدرسة الابتدائية، فقُبِلت بعد ممانعة.

نعم، خالي كان يريد أن يفتح لي دكانًا كي أبيع فيه وأشتري، وأعيش من ورائه، لأن والدتي بعد شهر من وصولنا إلى المملكة توفاها الله في هذه الأرض المباركة، ولكن في تلك السنة نفسها، أي في سنة 1945م «1365 ه»، جاء الملك فاروق إلى المملكة لزيارتها وجاء إلى المدينة، ورأيت الشباب والأطفال يقولون أناشيدًا وكلامًا لا أفقهه ولا أعلم عنه شيئًا، فكتبت إلى خالي في ورقة بخط لا يُقرأ أنني لا أريد دكانًا ولا اريد عملًا، بل أريد أن أتعلم، فبدأ خالي في مكاتبة السيد حبيب، ولكن سنيّ كانت متقدمة بالنسبة للتلاميذ، فوضعوني في السنة الرابعة، وكان هناك مشايخ كبار مثل الشيخ محمد الحافظ وعبدالرحمن عثمان، وبالرغم من كوني جديد على هذه الصفة من التعليم إلا أنني درست ونجحت، ونصحني الشيخ الحافظ بأن أدرس السنة الخامسة في الحرم كي أوفر سنة من عمري، وبالفعل قرأت على يد الأستاذ عبدالوهاب بخاري منهج السنة الخامسة، وجئت في آخر العام ووضعوني في سنة سادسة، وباعتبار أن مدرسة العلوم الشرعية هي مدرسة أهلية، فإن الاختبارات النهائية لا بد من أن تكون في مدرسة حكومية.

أي انك بدأت في المملكة تعليمك بطريقة حديثة، ألم تتعلم عبر نظام الحلقات الذي كان معمولًا به في مجتمع المدينة وقتذاك، ولم تتصل بما كان يُدار في المسجد النبوي؟

الشيخ عبدالرحمن العقيقي «رحمه الله» كان مديرًا لدار الحديث، وكانت له حلقة عند باب الرحمة، فكنت أحضرها، وطبعا كانت أنا فقيرًا مدقعًا، وهو كريم معطاء، فكان يعطيني ومن مثلي من المهاجرين الفقراء الذي يطوقون إلى العلم، بضعة ريالات كي نواصل حياتنا وتعليمنا.

في جدة بعد ذلك، كأنك بدأت تعبث بالأدب أو أن الأدب بدأ يعبث بك، أصبحت تحاول أن تسد نقصًا في تعليمك أو ثقافتك، فصرت تتوسل المجلة والكتاب، تقرا وتنفتح لك أفاق، نريد هنا وقفة قبل أن تحصل على الجنسية السعودية بعد برقيتك الشهيرة إلى الملك عبدالعزيز.

يقولون الحاجة أم الاختراع، فأنا فتشت عن نفسي في تلك الأيام، وجدتني محتاجًا إلى أشياء كثيرة مما حولي، في الصحافة كانت هناك: البلاد، واليمامة، والمدينة، أنا لم أجد نفسي بين هذه كلها، بدأت أفك الحرف وبدأت ملامح المعرفة أمامي، لكنني لا أملك السبل التي توصلني.

كان هذا في الخمسينات الميلادية/ السبعينات الهجرية.

نعم، وقد وجدت الشاعر الأستاذ محمود عارف «رحمه الله»، كنت أقرأ له قصائد في جريدة المدينة، فقلت له ما أحتاج إليه، فقال لي: عليك بالنظرات للمنفلوطي، وأن نقرأ سويًا كل يوم بعض العصر حيث كنا نسكن معا في منطقة واحدة بحارة المظلوم، وبالفعل بدأنا نقرأ كل يوم فصلًا من النظرات، وحاول أن يطلب مني ان أخلّص من الكتاب، ولكني لم أكن أنجح في ذلك، فكان أغلب ما أكتبه هو نقل من نفس النص، لكن كان لدي طموح لا يُقاس عليه، فالمحتاج يفعل المستحيل.

أنت ألم تبدأ من الكتب التراثية، ألم تقرأ على يدي محمود عارف مثلًا دواوين المتنبي أو أبي العلاء أو أبي تمام، هذه الطبقة البارزة والرفيعة من الشعراء العرب الأقدمين، أو تقرأ مثلًا البخلاء للجاحظ، أو الإمتاع والمؤانسة لأبي حيان التوحيدي، لم تبدأ هذه البداية؟

كان مستواي المعرفي ضعيف، فأنا خريج ابتدائية في 13 شهرًا، كنت أفك الحرف بالكاد، ففك الحرف يحتاج تدرج، والأستاذ محمود عارف كان ذكيًا، كان يعرف أن إمكانياتي محدودة، لذلك بدأ معي بالمنفلوطي الذي كان يكتب مقالات جيدة في ذلك الوقت، وكانت هي المفتاح التي منها استطعت أن أكتب، فبعد هذه الفترة بخمس سنوات بدأت أقرأ لشعراء الحجاز، فالعملية تدرج، لم يكن باستطاعتي في مرحلة البدايات أن أقرأ المتنبي أو أفهمه.

ولكن حدثني عزيز ضياء «رحمه الله» بأنه قد قرا واستعار واحدًا من كتب أرسطو من حمزة شحاتة، وأيضا كذلك جمهورية أفلاطون، وأخضعوها للنقاش.

لأنهما كانا أمامهما الوقت، فالموظف الحكومي يشتغل حتى الساعة الثانية، وبالتالي كان لديهم وقت فراغ طويل، كان خير جليس لهم هو الكتاب، يقرأون الكتب ويلتقون في قهوة ماجد في مكة أو في جدة، وكان يتناقشون ويتبادلون الكتب.

هل لهذا نبع الإحساس لديك بقيمة الصحافة أو دورها في تنوير المجتمع، فذهبت تصدر جريدة الأضواء ثم مجلة الرائد التي تحلّق حولها جيل من الكتّاب والصحفيين، ممن أصبح بعد ذلك بارزًا ويدير المناشط الصحفية والأدبية والاجتماعية في المملكة؟

الطموح يدفع صاحبه لكي يعمل ما يسمى مستحيلًا، كنت أقرأ وأنا أعمل في الجمارك، في عام 67 أو 68 هجري، للشاعر يحيي توفيق وهو يكتب في البلاد السعودية قصصًا، أنا لم أصل لهذه الصحافة، لكن هذا كان ما حولي وأنا على الهامش بجانبه، وكان لدي طموح لا يُقاس عليه، وكان صديقي الأستاذ محمد سعيد باعشن «رحمه الله»، كان خاله هو الأستاذ العواد، وكان يأتي لزيارتي في الجمرك، ونحن خلال حديثنا جاء إلينا الأستاذ محمد كامل خوجة من المدينة، وأخبرني أن الساسي قدم كتابه «الشعراء الثلاثة»، وكتابه «شعراء الحجاز»، واقترح أن نجمع قصائدنا ومقالاتنا ونطبعها في كتاب، كنا شبابًا يريد الشهرة ويريد أن يلحق بركب المثقفين الذين سبقوه، وخلال هذه الجلسة التي كانت في الجمارك على فنجان شاي انتهينا إلى أننا يجب أن نصدر جريدة، وأسميناها «الأضواء» في تلك الجلسة، وبدأنا في ذلك اليوم نكتب الرسالة للمدير العام للصحافة والنشر، وانضم إلينا محمد أمين يحيي، وعبدالله بلخير، الذي كان مديرًا عامًا للإذاعة والصحافة والنشر ومستشارًا للملك سعود.

حدثنا عن قصة المشاكسة مع شركة أرامكو.

أصدرنا «الأضواء»، وكنت موظفًا براتب 370 ريالًا، ومحمد سعيد كان يعمل في وزارة التجارة، لا أدري كم كان راتبه، جاءت الموافقة على الجريدة بعد 6 أسابيع، فأرسل لنا الأخ غالب أبو الفرج «رحمه الله»، الذي كان مديرًا عامًا للصحافة، وأبلغنا بأنه تمت الموافقة على طلبنا بإصدار جريدة أسبوعية باسم «الأضواء»، لكن الترخيص لم يكن كافيًا لإصدار الجريدة بقدر ما كنا في حاجة إلى الأموال، فسعينا في أكثر من اتجاه فلم يستجب لنا أحد، فذهبنا في النهاية إلى وزير التجارة، الشيخ محمد عبدالله رضا، وأبلغناه بما كنا نسعى له، وأننا نريد أن نصدر جريدة اسمها الأضواء في جدة، وهذه الأضواء هي أول جريدة في العهد السعودي، فأمر إدارته بان يعطونا ألفين ريال كي نستطيع أن نحصل على هاتف ونقوم بعمل دعاية، وذهبنا إلى البنك الأهلي فأعطونا شقة لكي تكون مقرًا للإعلانات، وبدأنا نكتب، وأصدرنا العدد الأول من الأضواء في شهر ذي القعدة 1376 هـ، دعتنا أرامكو لنزورها، فذهبت أنا ومحمد سعيد باعشن، دخلنا في موقع لم يكن من السعودية قياسًا على المجتمع الذي نعيش فيه، كان فيه جزءًا من الحياة الأمريكية؛ سيارات وسيدات في الأسواق وإلى أخره، ورأينا في أرامكو حوالي 11 ألف سعودي يعملون فيها، شباب يدخلون للعمل في أرامكو، ويقعدون في خيام أو عشش وبلا علاج ولا سكن جيد، فبدأنا نكتب وننتقد ذلك، ونطالب بأن هؤلاء لا بد أن يحصلوا على حقوقهم، فقالوا إن هذه اتفاقية مع الدولة، فسألناهم عن معاملة الأمريكيين، فقالوا إنهم يعاملونه بنظام بلاده، فاستمرت حملتنا على أرامكو، وهددتنا بقطع الإعلانات، لكن واصلنا معركتنا إلى أخر شوط في الأضواء.

ماذا كان عن الشوط الأخير في هذه المعركة؟، كيف انتهت؟

انتهت بمأساة، كان هناك شخص اسمه زغلول بوزارة الزراعة، كتب لنا قصة بعنوان «سالم اشترى نفسه»، عن شاب تم اختطافه وتم بيعه في اليمن، ثم بيع في البحرين، وكتب إلى الملك سعود، فالملك سعود فاداه، فكانت هذه القصة هي القشة الأخيرة التي قصمت ظهر البعير، وطبعا كانت لدينا معارك أخرى مع بن لادن، لأن صديقي باعشن «رحمه الله» كان لديه اندفاع، وعندما أردنا إصدار الجريدة طلب أن يكون هو رئيس التحرير، المهم.. كانت لديه طلعات عنيفة وسبقت وقتها، مثلما حدث مع مجلة الرياض التي أصدرها السيد أحمد عبيد، ولم تستمر لأنها كانت تسبق وقتها.

بينما استمرت اليمامة التي أصدرها الشيخ حمد الجاسر.

نعم، لأن اليمامة كانت بها توازن، رغم أن الشيخ الجاسر لاقى أيضا كثيرًا من الصعوبات.

أنت متعلق بالأدب، ومن يقرأ ما كتبته يجد ملامح طه حسين في أسلوبك الجميل، ومعالجاتك التنويرية، أريد هنا أن نتوقف عند طه حسين وقصة مجيئه إلى المملكة، حينما كان الملك فهد وزيرًا للمعارف، في منتصف الخمسينات الميلادية، وكان طه حسين رئيسًا للجنة الثقافية التابعة للجامعة العربية، صفْ لي هذا اللقاء الذي أحدث هزة ثقافية وأدبية في جدة.

أنا كنت أسمع طه حسين في إذاعة صوت السودان، حيث كان يقدم برنامجًا عنوانه «مادة وروح»، كنت أستمع إليه في راديو بالبطارية الجافة، ولذلك عندما سمعت أن طه حسين قادم إلى المملكة، كانت فرحتي لا يُقاس عليها، ومن حسن حظي أن إدارة التعليم في جدة أرسلت لي دعوة، وذهبت إلى فندق قصر الكندرة الذي أقيم فيه الملتقى، حيث كانت القاعة تتسع لـ 600 كرسي، ورأيت طه حسين، وهذه كانت من أمنياتي، أن أرى طه حسين وأم كلثوم والعقاد والزيات، وقد رأيتهم كلهم، وكان الملك فهد وزيرًا للمعارف حينها، فقال كلمته بالترحيب بطه حسين، ثم بدأ طه حسين يتحدث واقفًا لمدة 40 دقيقة، وكأنه نهر يتدفق، وقف وقال: «سيداتي وسادتي؛ كان بعض الفرنسيين يقولون في بعض أوقات فراغهم، إن لكل فرنسي وطنين، أحدهما الذي وُلِدَ فيه ونشا، والثاني هي فرنسا، وأنا أقول إن لكل مسلم وطنين، أحدهما الذي وُلِدَ فيه ونشأ، والآخر هو هذا البلد، الذي ربى عقله وروحه....»، وهكذا ظل يتحدث، ولكن كان أيضا كان لطه حسين فلتات، إذ قال: «ولا أنسى تلك المرأة التي بكت حينما انتقل محمد ﷺ إلى الرفيق الأعلى، لأن خبر السماء قد انقطع عن الأرض»، كان يتحدث بعمق، ثم ذهب إلى مكة حيث اعتمر، ثم ذهب إلى المدينة.

أريد هنا وقفة مع الشيخ محمد متولي الشعراوي، الذي شُهِرَ بقصيدة مادحة قالها في عميد الأدب العربي، وكان وقتذاك مدرسًا في كلية الشريعة.

نعم، وأنا بالمناسبة كتبت وألقيت محاضرة في مهرجان طه حسين بالمنيا، كان عنوانها «العميد في الحجاز»، ونشرتها في مقال بأحد أعداد «علامات»، وذكرت فيه قصيدة الشيخ الشعراوي، فكانت أيام جميلة.

أيضا يبدو أنه كانت له بعض المناكفات في هذه الزبارة، وكأنه استشهد ببيت من الشعر وقال «أبني حنيفة....».

وزير المالية كان الشيخ محمد سرور، وهو أبو الأدباء والمثقفين، فأقام حفلًا لهذه الوفود، لأنه كانت هناك وفود من المغرب ومن الشام واليمن وغيرها، وكان هناك حضور من السلك الدبلوماسي الذي كان لا يزال في ذلك الوقت في جدة، فقام أحد الأدباء، وقال لطه حسين: يا دكتور طه، أنت قلت إنه بعد الثورة، قد انتقل الأدب من مصر إلى لبنان، ولكن لبنان ليس بها أدب!

وطبعا كان هو متحمسًا للعقاد.

نعم، وكان السفير اللبناني حاضرًا في ذلك الحفل، فطه حسين قال بأدبه: أرجو ألا يصدق على صاحبنا قول الشاعر القديم:

أَبَني حَنيفَةَ أَحكِموا سُفَهاءَكُم

إِنّي أَخافُ عَلَيكُمُ أَن أَغضَبا

أَبَني حَنيفَةَ إِنَّني إِن أَهجُكُم

أَدَعِ اليَمامَةَ لا تُواري أَرنَبا

بعد ذلك دارت الأيام، فأصبحت رئيسًا لنادي جدة الثقافي، وعبر هذه المؤسسة استضفت العديد من المثقفين والأدباء والأكاديميين، وعكفت على إصدار العديد من الدوريات والكتب، نريد وقفة مع هذه التجربة، ما الذي أعطيت لهذا النادي وماذا أخذ منك؟

بدايةً، إنني لم أكن أفضل من اختير لرئاسة هذا النادي.

كان أول رئيس للنادي هو الأستاذ محمد حسن عواد، وكان يساعده عزيز ضياء.

نعم، وبعدما توفي العواد «رحمه الله» في عام 1401، اختير الأستاذ حسن قرشي، لكن في نفس الأيام التي تم اختياره فيها رئيسًا للنادي تم تعيينه سفيرًا في السودان، فجاءتني برقية من الأمير فيصل بن فهد «رحمه الله»، الرئيس العام لرعاية الشباب، باختياري رئيسًا للنادي بترشيح من الأخ عبدالله الزيد، طبعا في حدود الإمكانيات المتاحة والطموح الباقي من التعليم والحياة، إنني لا أن أكون أو لا أكون، فبدأت أسعى، وطبعا كان حولي ومعي الغدامي وسعيد السريحي والعديد من الشباب الذين لهم الكثير من التطلعات، وأنا لست مركزيًا في إدارتي.

ولكن هناك من قال إن هؤلاء الشباب قد أداروا دفة النادي عبر عبدالفتاح أبو مدين، فحدثوا النادي ومطبوعاته.

فليكن، والسؤال المهم: هل تم توجيه هذه الضفة لصالح البلد والنادي أم العكس؟!، إذا كان لصالحه فنحن الفائزون، وإذا كانت لغير ذلك فنحن على استعداد للتحاور مع الذين يقولون هذا الكلام، لقد استطعنا أن نعمل في ظل الإمكانيات المتاحة، ونحن كنا نأخذ دعمًا من الدولة كما يأخذ أي نادٍ آخر في المملكة، فعندما نأتي ب 21 أديبًا من الدار البيضاء إلى جدة، ونقوم بعمل قراءة جديدة لسيرتنا وأدبنا النقدي، عبر مجلدين في 1000 صفحة، فهذا نشاط غير عادي، وحتى أنه من المفارقات أن أحد من اخترناهم كان من اليمن وهو مسيحي، رفضت السفارة أن تعطيه التأشيرة!، الشاهد أننا أنتجنا وأصدرنا دوريات وأرسلناها إلى العالم العربي، كل هذا بإمكانياتنا المحدودة.

الشخص الذي تقصده هو الناقد الفلسطيني كمال أبو ديب.

نعم، صحيح، وتوسطنا إلى السفير لكي يعطيه التأشيرة، فقال إنه لا يستطيع طالما هناك أمر سامي بهذا الخصوص، رغم أنه كان سيأتي إلى جدة، وعلى عكس ما أشيع بأنه ضد اللغة العربية أو غيره مما قيل.

فهو له دراسة شهيرة في الشعر الجاهلي.

نعم، في الحقيقة فإن هذا الذي قدمناه كان بتوفيق من الله قبل كل شيء، وبدأنا بتلك الإمكانيات المحدودة والضيقة أن نقدم إنتاجنا، وأعتقد أننا قدمنا شيئًا، وأرجو أن يكون الناس في الأندية الأخرى أن يقدموا خيرًا مما قدمنا إذا أتاحت الفرصة لهم، وأنا سبق وأن قلت لوزير الثقافة والإعلام، الأستاذ إياد مدني، إننا نريد شيئين؛ نريد صلاحيات ودعم مادي، ثم حاسبنا، ولكن بغير هذا فلا يمكن أن نفعل شيئًا، افتح لنا الضوء الأخضر ثم اسألنا في آخر السنة عما قدمناه.

كيف ترى حال الأدب والثقافة اليوم في المملكة وأنت مجايل لحركة الأجيال في المملكة، لقد اتصلت في الصميم من النشاط الثقافي والاجتماعي بالمملكة، وما كتبته شاهد على ذلك، فأنت كتبت في أدب الخدمات إن جاز التعبير، وكتبت أيضا في قضايا الشعر والأدب، قديمه وحديثه.

أنا قلت وأقول وأردد إن للعمل بالثقافة مغارم، ولن يكون في الوطن العربي مغانم في أي يوم من الأيام، إلا إذا أعطيت الثقافة حقها، الأدب يتأثر بما حوله، يتأثر بالحروب وبظروف الناس، هو انعكاس لحياة أي شعب، فأنت تستطيع أن تقيس الأدب على حياة أي مجتمع أو بلد، بظروفها السياسية والاجتماعية ومساحتها من الحرية، وهذا أهم مقياس الآن.

أنت عاصرت الأسماء الكبيرة التي حفرت الصخر بالأظافر، وهذا واحد من عناوين كتبك، كالعواد وحسين سرحان ومحمد سرور صبان وحمزة شحاتة وعزيز ضياء، لو أردنا منك إعطاء مقارنة ما بين ما تراه اليوم من أسماء أصبحت تتعاطى في كتابة الفنون التعبيرية الجديدة، كالقصة القصيرة والرواية والمسرح والشعر، والتركيز أحيانا على الكتابات النقدية والنظرية، كيف تقارن الصورتين؟

طبعا كل جيل كان يمثل عصره، جيل الماضي بظروفه وحياته الضيقة وإمكانيات تعليمه، خريج الفلاح أو السلوطية أو الثانوية وما إلى إليها، ولكن كان رصيد الجيل الماضي هي القراءة، كانوا أغزر في القراءة، لأنهم كانوا يقرأون من أمهات الكتب.

بالنسبة لحمزة شحاتة، لماذا ظلمه عصره كما تقول؟

لأن الرجل استطاع أن يترك البلد، لم يجد وظيفة يعيش من ورائها، طبعا هو أديب كبير، ولديه إباء ويحترم نفسه، وقد ظُلِمَ حيًا وميتًا، ونحن عملنا ندوة عنه قبل شهور، وستخرج في عدد كامل من علامات، أكثر من ألف صفحة، وهذا ما استطعنا أن نقدمه له كتقدير كنادي.

ولكن الدكتور عبدالله الغذامي مثلًا خصص أطروحة كاملة في كتاب اشتهر به وهو «الخطيئة والتكفير»، وكذلك قبل ذلك الأستاذ عزيز ضياء «رحمه الله» قدمك دراسة عنه، وهي «قمةٌ عُرِفَت ولم تُكتشف».

أنا رأيته مرة واحدة عند السفير في مصر، في أيام عبدالناصر، وكان نظره ضعيفًا، في مصر كتبت عنه جريدة الأهرام كتابةً بما يستحقه الرجل، فجاءته إحدى جاراته تتأسف له بأنه موجود بينهم وأنهم لا يعرفونه، فنفى علاقته بما هو منشور، وقال إن هناك مجرد تشابه في الاسم، وأنه الآن يربي 5 بنات، فالكتابة عنه لا تكفي، ولكن في رسائله بينه وبين محمد عمر توفيق يقول إنه كان يتمنى وظيفة وأن يعيش في بلده وفي وطنه، فطبعا ظلمه عصره.

إذن، نعود في ختام هذا الحديث لنتحدث عن واقع الأدب والثقافة اليوم، من خلال هذه التجربة الشخصية لك، وهي تجربة معرّقة.

الآن، تغيرت الأمور بعد تطور وسائل الاتصالات، وأصبحت الأجيال التي تتناول الأدب تتجاذبها ظروف مختلفة، وأصبح الأدب في كثير من الأحيان مجرد أكل عيش، فالحياة صارت ملّحة على أصحابها من الأدباء، فلم يعد الأدب كما قديمًا، أصبحت متطلبات الحياة أكبر من قدرة الإنسان، فالأدب الآن أدب عصري، أدب زماني، أنت تكتب بمتطلبات الزمان لكي تعيش.

أي انه أدب يخضع لظروف الشروط الاستهلاكية؟

نعم، بالطبع، هذا صحيح، تكاليف الحياة وتطورها وارتقاء المدن الكبرى ومتطلباتها، كل منزل يحتاج إلى عدد كذا سيارة، والأولاد، وفي الماضي كانت أسر كثيرة تُجمَع في بيت واحد، الآن كل أسرة واحدة فقط تريد أن تعيش في بيت مستقل.

لنختم حديثنا، بالتحدث عن الشاعر أحمد قنديل، هذا الشاعر أيضا يبدو أنه قد ظلمه أهله، ومجتمعه، فلم يعد أحد يذكره، رغم أن له ريادة.

هذا غير ممكن الآن، لأنه صارت هناك أندية أدبية وإدارات جديدة، فيمكنك أن تأتي إلى كتب قنديل وتطبعها وتدير حولها حوارات، في مكة أو في جدة أو في أي مكان، المهم أن يكون هناك أناس يوقفون جهودهم وعطائهم للأدب، ومن الأدب، لتكون هذه الأندية رمزًا للبلد.


عنوان الحلقة على يوتيوب: مقابلة عبدالفتاح أبو مدين مع محمد رضا نصرالله في برنامج «هكذا تكلموا» عام 2007م

مدة الحلقة: 44:39 دقيقة