آخر تحديث: 23 / 11 / 2024م - 12:36 ص

حوار مع أمين الريحاني على مكتبه!

جهات الإخبارية أجراه: محمد رضا نصرالله - مجلة المجلة

محمد رضا نصرالله: المكتب الذي كان يكتب عليه شقيق أبيك عمك أمين الريحاني روائعه الممتعة، حيث مازلنا اليوم، هذا الجيل المخضرم، يتعلَّق بما رسمه من تلاوين وأخيلة وحقائق ووقائع وتحليلات ونقد في العديد من مؤلفاته التاريخية والسياسية والأدبية والتأمُّلية والشعرية، نريد أن نتحدَّث عن رحلة أمين الريحاني إلى جزيرة العرب قبل أن يقابل الملك عبدالعزيز، يبدو أنه ذهب إلى أمريكا وقد عمل في نيويورك في مشغل على ما أتذكر أو مصنع صغير يبدو أن والده قد أشاده هناك، وضِّح لنا هذه الصورة.

أمين ألبرت الريحاني: أولًا، شكرًا على العودة إلى هذه الخلفية الفكرية الضرورية لفهم أمين الريحاني ودوره العربي. الريحاني كمعظم المغتربين العرب في الولايات المتحدة وفي أمريكا الشمالية بشكل عام، ذهب مع والده من أجل التجارة، لكنه على خلاف جميع المغتربين إطلاقًا وجد نفسه غير ميَّال للتجارة، وإنما للفكر، انطلاقًا من هذا المنعطف وعى تدريجيًّا خلفيته العربية ومن خلال مؤلفاتٍ - كما يذكر هو في مقدمة ملوك العرب - لمفكرين غربيين، أمثال كارليل وواشنطن إيرفينغ، الذين عرَّفوا الريحاني عن غير قصد إلى الرسول العربي وإلى معنى البطولة التي تفضَّلت بها، فاكتشف ذاته في ذاته، وإذ به الشاب الأمريكي أو المتأمرك يعود إلى جذوره العربية فكريًّا، من هنا فإن عمله مع والده في التجارة بات عملًا هامشيًّا، وراحت فكرة زيارة البلاد العربية تترسَّخ يومًا بعد آخر في ذهنه كعمل لا يتجزَّأ عن حياته اليومية، فوضع لنفسه سلسلة من الأسئلة تدور حول واقع العرب وحول مستقبلهم، كيف أتيت من هذه الجذور وأنا لا أعرف عنها شيئًا؟ ما هو واقع الإنسان العربي اليوم؟ ما هي طبيعة النظم السياسية العربية؟ إلى أيِّ مدى يمكن للعرب أن يواكبوا التقدُّم الحديث، سياسيًّا وعلميًّا واقتصاديًّا واجتماعيًّا؟ ماذا يمكنني أن أعمل كشاب عربي يهتم بالتأليف في سبيل خدمة الأمة العربية؟ وماذا يمكنني أن أقوم به توطيدًا للصف العربي وتوثيقًا للحمة بين زعماء العرب وحكامهم؟ وضع سلسلة من هذه الأسئلة وكأنه يضع مخططًا لرحلته العربية الشهيرة، والقصة المعروفة التي ذكرها في مقدمة ”ملوك العرب“ عندما صارح أصدقاءه من الأمريكيين والعرب بهذه المهمة، حُذِّرَ مرارًا من أنك قد تواجه الصعوبات التي قد تكون فتَّاكة أو مميتة، فلست مضطرًّا لمثل هذه المغامرة.

محمد رضا نصرالله: إذن لنقف عند هذه المغامرة التي يبدو أنه قد ابتدأها من الهند إلى البصرة.

أمين ألبرت الريحاني: تمامًا.

محمد رضا نصرالله: هنالك نزل على أول بقعة عربية خارج لبنان، فرسم صورة عن الواقع المعيش وقت ذاك عن الناس وحركتهم في الشارع، وأيضًا رسم هذه الصورة في طريق استجلائه للتطورات السياسية التي كانت تهزُّ العراق وقتذاك حينما اصطدمت المقاومات الوطنية في العراق مع المستعمر البريطاني، نريد حديثًا هنا قبل أن نذهب إلى ذلك المكان الذي التقى فيه الملك عبدالعزيز في ميناء العقير.

أمين ألبرت الريحاني: الصعوبات التي واجهها في رحلته العربية نتجت عن مخطط لم يكن أصلًا هو المخطط المرسوم، ولكنه لأسباب قد تكون تاريخية وفكرية خدمت مخطط الريحاني، وتوقف عند المحطة التي تفضَّلت بها فيما يتعلَّق بالبصرة - شط العرب، كمحطة إن لم تكن الأولى فهي محطة أساسية في زيارته للعراق ودور العراق ومعناه في تلك الفترة، كانت تلك الفترة كما نعلم تاريخيًّا هي في طور التأسيس على صعيد الأنظمة العربية وقيام الدول العربية الوطنية المستقلة، فكان الريحاني شاهدًا حيًّا على ما يجري، ليس فقط على مستوى الحكام أو المثقفين والمفكرين، وإنما على مستوى الشعوب، فكان المراقب الذي يُدوِّن أصغر التفاصيل كما يُدوِّن أهم التفاصيل. من هنا فإن مؤلفاته عن العرب - كما ذكرت وأيديني في ذلك بعض الباحثين الغربيين - تُشكِّل مادة مضادَّة للاستشراق كما سمَّيتها، وقصدي كان بذلك ولا يزال أن هذه المؤلفات عن العرب تُشكِّل أول محاولة أساسية لتأسيس أدب حي حول العرب من قِبَل قلم عربي، وليس من قِبَل قلم أجنبي، لأننا نعرف طبعًا أن حركة الاستشراق تُطرح حولها العديد من علامات الاستفهام، يأتي الريحاني ليُعطي صورة حيَّة شعبية وثقافية وسلطوية حول الواقع العربي الذي شاء تصويره بكل سلبياته وإيجابياته تمهيدًا لطروحاته حول المستقبل العربي.

محمد رضا نصرالله: لقد رسم صورة عن أولئك الذين حملوا حقائبه قبل أن يمتطي القطار من البصرة إلى بغداد، وذكر - أيضًا - الهنود الذين أُرسلوا من قبل البريطانيين من الهند، نريد حديثًا هنا عنه وهو يتوجَّه إلى تلك العاصمة العراقية وجولاته فيها، واتصالاته بأدبائها وبرجالات السياسية فيها.

أمين ألبرت الريحاني: في الحقيقة رحلة الريحاني إلى بغداد، أو المحطة البغدادية في رحلة الريحاني العربية، كانت تختلف بعض الشيء عن سائر المحطات العربية، لكون بغداد يقظة تاريخية في ذهن الريحاني، ولكونها واقعًا ثقافيًّا وحضاريًّا إلى جانب الواقع السياسي، من حيث اليقظة الثقافية استعاد في خاطره كل هذه الفكرة التي ترسّخ عودته إلى الجذور عبر الدور التاريخي لبغداد. هذا من جهة، ومن جهة ثانية عزَّزت في خاطره الواقع الثقافي العربي كما تمثّل في بغداد من خلال المجالس الأدبية والمجموعات من الأدباء والمثقفين العراقيين المتجمهرين في العاصمة بغداد، إلى جانب الواقع السياسي والصراع ضد الاستعمار البريطاني، فكأن الصورة العربية التي شاء البحث عنها قد تجسَّدت باختلاف مستوياتها في العاصمة العراقية بغداد بالذات.

محمد رضا نصرالله: هل كانت بغداد المعاصرة تُشكِّل امتدادًا لبغداد العباسية، كميراث حضاري شكَّل وعي أمين الريحاني الأديب والشاعر والمفكِّر؟

أمين ألبرت الريحاني: في الحقيقة، هذا برأيي شكَّل حينئذٍ المحور الفكري في ذهن الريحاني، من أن الدور التاريخي لبغداد الذي كُتِبَ لها في العصر العباسي، كأنه يُستعاد في مطلع القرن العشرين مع محاولة الانتقال من الحركة الاستعمارية البريطانية إلى الاستقلال من جهة، وتجمهر كبار الشعراء والأدباء العراقيين، وهم من كبار الشعراء والأدباء العرب.

محمد رضا نصرالله: لقد كتب عنهم وهم - أيضًا - كتبوا عنه، من ذلك قصيدة الرصافي الشهيرة فيه، وقد عبَّر - أيضًا - عن جملة من الآراء التي طاولت نقد بعض الظواهر الاجتماعية والسياسية في العراق وغيره، نريد هنا وقفة عند هذه القصيدة وتجمّع الأدباء العراقيين حوله.

أمين ألبرت الريحاني: قصيدة الرصافي، وهي من أشهر القصائد التي استقبل بها الريحاني في العراق، وهي من أشهر قصائد الرصافي بالذات، قد شكَّلت منعطفًا أو محطةً في حركة الشعر العمودي الحديث، بمعنى - كما ذكرت في بعض مؤلفاتي - أن الشكل هو شكل عباسي والمضمون هو مستلٌّ من صميم واقع القرن العشرين، وهذا تمامًا ما حاول الريحاني أن يترصَّده، وقد أشار إلى ذلك على المستوى الشعري والفني والأدبي، وكأنه صدى للمستوى السياسي، وهذا ما أشار إليه، وهذا ما أثار فيما بعد بعض الانتقادات كردٍّ على النقد الأدبي والسياسي للريحاني، بأنه مثلًا لم يأتِ على ذكر الجواهري كما هو معروف، وكان أسباب ذلك الموقف أن الجواهري اتَّخذ موقفًا مضادًّا له.

محمد رضا نصرالله: قد انتقد الجواهري الريحاني مُرَّ النقد، وأيضًا غمز من قناته واتَّهمه بأنه يقوم بدورٍ ما لصالح القوى الاستعمارية الجديدة في المنطقة.

أمين ألبرت الريحاني: في الحقيقة، الجواهري لم ينتقد الريحاني سياسيًّا، بقدر ما أشار بصورة ربما مداورة إلى أن دور الريحاني يصعب التصديق بكونه الدور الوطني الذي يتفرَّد به شخص بمفرده، وشعار الريحاني معروف ”قل كلمتك، وامشِ“، فهو يستمر في مخططه. وقد أثيرت حول ذلك العديد من الأسئلة؛ كيف يمكن لإنسان فرد أن يقوم بهذه المهمة الوطنية والقومية الشامخة؟ وكان جوابه بسيط: لقناعتي بأمرين؛ الأول أن أوفّق بين حكام العرب وملوكهم، والثاني أن أعرّف العالم برمَّته إلى الواقع العربي، يكفيني هاتان القناعتان ولينتقد الناقدون قدر ما شاؤوا.

محمد رضا نصرالله: ولكن يبدو أن المراسلات التي درات بين الملك عبدالعزيز وأمين الريحاني قد انطوت على بعض اللبس، وذلك حينما وصل الملك عبدالعزيز إلى الحجاز، ومحاولة توسط قام بها الريحاني دون استجابة من الملك عبدالعزيز.

أمين ألبرت الريحاني: تفسيري هو ما يلي، الصداقة المتينة التي ربطت الريحاني بالملك عبدالعزيز اعتبرها الريحاني كافية لأن يلعب دور الوسيط، وقصده كان المحاولة لإيجاد حل سياسي دون اللجوء إلى الحرب والقتال، والاقتراح الذي تقدَّم به والذي قَبِل به الشريف حسين حينذاك، ولم يقبل به الملك عبدالعزيز، هو أنه طلع بنوع من الفتوى - إن صح التعبير - بأن تكون الخلافة الدينية للشريف حسين، وأن تكون الزعامة السياسية للملك عبدالعزيز، وكان من الطبيعي للملك عبدالعزيز ألَّا يقبل بمثل هذا الحل؛ لأنه على صعيد الواقع فإن الحرم الشريف ومكة المكرمة تكون تحت أمرة الحاكم السياسي، عمليًّا لا تؤدي هذه الصيغة إلى حل مستقبلي.

محمد رضا نصرالله: إذن لنقف هنا عند تلك اللحظة، وقد ركب أمين الريحاني السفينة الشراعية، مارًّا بالبحرين، ومتصلًا كعادته بمجتمع البحرين وبعلمائه وأدبائه وكتاباته عن رواد النهضة فيه، قبل أن يلج الجزيرة العربية من ميناء العقير، ولتلك قصة أخرى.

أمين ألبرت الريحاني: علاقة الريحاني بالبحرين شبيهة بعلاقته بالبصرة، فالمخطط الأساسي لم يشتمل على محطات في البصرة أو البحرين بحد ذاتها، لكن محاولات الإنجليز لعرقلة طريق الريحاني اضطرته لمثل هذه المحطات، وعرف كيفية الإفادة منها. في البحرين - مثلًا - وكما في كل محطة سرعان ما قام باتصالات على كل المستويات، وخاصة الثقافية، حيث كان في طليعتها شيخ أدباء البحرين الشيخ إبراهيم بن محمد آل خليفة، مؤسس المدرسة الخليفية الأولى، وهي - حسب ما يذكر الريحاني - أولى المدارس الخاصة التعليمية في الخليج العربي، ووسَّع تلك الاتصالات حتى وصوله إلى الشيخ عيسى، حاكم البحرين آنذاك، ومن خلال هذه الاتصالات - أيضًا - حاول الربط بين دور الحاكم ودور المثقف في نهضة عربية يتوقَّعها ويريدها لمستقبل العرب، من هنا لؤلؤة الخليج كما أسماها وهي البحرين، انطلق من واقع اقتصادي ليلج ولوج الحياة الثقافية المتطوَّرة، وليدعم الموقف السياسي الذي يمكن أن يكون سندًا للقطبين؛ أي للسعودية وللعراق، وهي ما بين هذين القطبين، وهذا ما سعى إليه الريحاني من خلال كتاباته.

محمد رضا نصرالله: إذن، وقد وصل أمين الريحاني إلى العقير، حيث خيّم الملك عبدالعزيز هناك، وجرى بينهما ذلك الحديث في تلك الليلة الليلاء بنجومها في سماء صافية، لقد وصف جلسته مع الملك عبدالعزيز بأنهما كان على سجادة من رمل، وهنالك تداول مع الملك عبدالعزيز جملة من قضايا الأمة العربية، ونهضة الأمة العربية، وصدامها مع المستعمر البريطاني والفرنسي، نريد حديثًا عن هذا قبل أن يصل بيرسي كوكس مع فريقه لترسيم الحدود بين المملكة والعراق.

أمين ألبرت الريحاني: قبل لقاء الريحاني بالملك عبدالعزيز، كان في ظنه أنه سوف يلتقي أحد الحكام العرب الذين لهم حسناتهم وسيئاتهم، وهو محطة من سائر المحطات، وإذ يفاجأ ومنذ اللقاء الأول، ومنذ الليلة الأولى، أنه أمام شخصية قيادية عربية، يصلح أن تُشكِّل المحور الأساسي لبناء مستقبلٍ عربي، فمنذ الليلة الأولى سُحِرَ الريحاني بشخصية الملك عبدالعزيز، وهذا أمر معروف وليس بجديد، وهو وارد في ”ملوك العرب“ وفي ”تاريخ نجد“ وفي معظم كتابات الريحاني الإنجليزية، مثل ”Around the Coasts of Arabia“، و”Arabian Peak and Desert“، و”Ibn Saud of Arabia، His People and His Land“، معظم هذه المؤلفات تركّز على هذه النقطة المحورية، بمعنى أن هذا الانجذاب بين شخصية الريحاني وشخصية الملك عبدالعزيز أدى إلى ثقة مطلقة بين الاثنين، إلى درجة أنه حين اقترح الريحاني على الملك عبد العزيز، قبيل قدوم السير بيرثي كوكس، بأن يلعب دور المترجم، كان بإمكان عبدالعزيز أن يعتذر أو يرفض لعدم ثقته بالريحاني، وهو الأمر الذي تم على عكس ذلك، سرعان ما قَبِل الملك عبدالعزيز وقال له: أنت لن تكون فقط مترجمي، وإنما مساعدي في هذه المفاوضات. إذن الثقة كانت متبادلة وصريحة منذ اللقاء الأول.

محمد رضا نصرالله: ولكن كيف تم هذا التزامن، وصول أمين الريحاني ووصول بيرثي كوكس إلى العقير ومعه فريقه، كما صوّر هو بحسه الصحفي هذا اللقاء؟

أمين ألبرت الريحاني: يبدو وكأن ذلك مخطط بشكل مسبق، في حين أن سير رحلة الريحاني تشير وتُنبي عن أن هذه الصدفة بالفعل كانت صدفة ولكنها خير من ألف ميعاد كما يُقال، بمعنى أن المراسلات التي سبقت اللقاء بين الريحاني والملك عبدالعزيز، حيث كان الريحاني يراسل الملك عبدالعزيز ويُخبره بتفاصيل رحلته، وأنه محطة أساسية في هذه الرحلة، وأنه يريد لقاءه أيًّا كانت الصعاب، وبطبيعة الحال مع مرافقة هذه التطورات مراسلةً، كان المخطط أن يأتي الملك عبدالعزيز إلى العقير في سبيل المؤتمر مع السير بيرثي كوكس، فكون الريحاني ينتظر في البحرين، وكون العقير هي أقرب نقطة جغرافية إلى البحرين، اقترح الملك عبدالعزيز أن بإمكانه أن يقابله في العقير بما أنه قادم في كل الأحوال، وأنه يمكنه أن يحضر معه هذا المؤتمر، وهكذا كان اللقاء، بالفعل كانت صدفة ولكنها كانت تدخل في صميم الأهداف الوطنية والقومية التي سعى إليها الريحاني.

محمد رضا نصرالله: وبعد ذلك رافق الملك عبدالعزيز، وكأنه قد استراح لذلك الركب سيرًا وئيدًا على الجمال، وتأمُّلًا في صحراء الشرق الساحرة، والتقاطه لصور الراوي الذي كان يتلو الأحاديث أو يقرأ الشعر أو يتحدَّث ببعض الطرائف التاريخية، نريد حديثًا عن هذا قبل الوصول إلى الرياض، حيث خصَّص الملك عبدالعزيز للريحاني بيتًا كان يزوره فيه كل مساء بعد صلاة العشاء.

أمين ألبرت الريحاني: صحيح، هذه محطة مهمَّة أشكرك على لفت انتباه القراء لها، الرحلة بين العقير والرياض، الريحاني يرافق الملك عبدالعزيز، ويتابع تفاصيل هذا الموكب، بشخصياته وبتفاصيله وبمجموعة الناس، كبيرهم وصغيرهم، ويدوِّن بعين المراقب الأديب والمفكر الذي يصوّر، ولا ننسى أنه قد رسم في هذه الرحلة بالذات مجموعة من الوجوه العربية التي سمَّاها تلك الوجوه التي رافقتني من العقير إلى الرياض، يمكن أن نُحمِّل ذلك العديد من المعاني، ولكن تفسيري أنا لذلك هو أن الفكرة الأساسية التي طرحناها من أن الموقف المضاد للاستشراق تأتي هذه اللوحة العربية الحية تعزيزًا لهذا الاستشراق المضاد.

محمد رضا نصرالله: أريد القول بأن الريحاني كأنه قام بنقد ما كتبه عدد من الرحالة الغربيين إلى جزيرة العرب، هذه الرحلات ومنها رحلات شاقة أودت ببعض المستشرقين، شكَّلت - أيضًا - مادة خصبة لعدد من أدباء وشعراء أوروبا الكبار، غوته الشاعر الألماني العظيم اطَّلع على بعض هذه الكتابات، وتابع تفاصيل رحلة نيبور إلى الجزيرة العربية، وعبرها اتصل بأمهات القصائد الجاهلية، بل إنه راح يتعلَّم اللغة العربية القديمة، ليقرأ قصائد امرئ القيس وشعر عنترة إلى غير ذلك مما ألهب خيال وموهبة غوته حتى كتب ديوان الشرق الجميل.

أمين ألبرت الريحاني: ما تقوله صحيح تمامًا، مع الفارق البسيط، وهذا ما أشكرك على إتاحة الفرصة لإثارة هذا الفارق، وهو برأيي مهم جدًّا على الصعيد الفكري، لا يوجد شك في أن غوته في انسحاره بوهج الشرق وهو كبير الأمثلة، حيث يمكن أن أُعطي امثلة أخرى عديدة مثل داوتي وموزلي وغيرهما، هؤلاء جميعًا أخذوا بسحر الشرق، والبعض منهم ذهب إلى حدِّ تعلم العربية ودراسة الشعر العربي، ولكن عندي أن الفارق يبقى صغيرًا ولكنه مهمّ جدًّا، أن تأتيك العين من الخارج لتكتشف ما عندك، أو يأتيك أحدٌ من أبنائك ليشدّه الحنين إلى ما عندك فيكتب بحب لا يمكن أن تصادفه عند الآخرين، تلك هي المفارقة، الريحاني كتب بحب كبير يصعب أن تصادفه حتى في نقده ونقده القاسي، ظل ذاك المحب الكبير لأبسط بسطاء الإنسان العربي، على نقيض ما نصادفه من مستشرقين غربيين، صحيح أنهم كتبوا، وصحيح أنهم أخذوا عن العرب، ونحن نقدّر هذا العمل مع هذا الفارق البسيط الذي يأتي من الداخل وليس من الخارج.

محمد رضا نصرالله: إذن لنبقَ مع الريحاني في تلك الغرفة الطينية، وكان الملك عبدالعزيز يزوره كل مساء بعد صلاة العشاء، هنالك كان الملك عبدالعزيز يسرد قصته التاريخية مع توحيد المملكة العربية السعودية، هل بإمكاننا القول بأن ما سجله الريحاني تحديدًا في ”ملوك العرب“ كان أول مقابلة صحفية ذات طبيعة سردية أدبية سجَّلها أمين الريحاني مع الملك عبدالعزيز؟

أمين ألبرت الريحاني: قد يمكن الاعتبار أن هذا اللقاء التسجيلي الأول هو أقرب ما يكون إلى المقابلة الصحفية، ولكن لا ننسى أن هذه المقابلة التي اتَّخذت شكل الإعلام والصحافة تأتي من خلال شخصية تمرَّست المراس الأدبي والفكري في الولايات المتحدة كتابةً باللغة الإنجليزية وكتابةً باللغة العربية من خلال مؤلفه ”الريحانيات“ مثلًا، وكان ينشر في عدد من الصحف الأمريكية المتخصصة في النقد الأدبي والفني وما إلى ذلك، إذن الشكل الخارجي أنها كانت مقابلة صحفية، والشكل الداخلي أو جوهر المادة هي مادة أدبية فكرية لها طابع اجتماعي وسياسي وإنساني، هذا ما أراه في طبيعة ما دوَّنه الريحاني، ليس فقط في مقابلته للملك عبدالعزيز، وإنما في كل ما كتب من مقابلاتٍ مع حكام العرب وملوكهم في مؤلفاته العربية والإنجليزية على حدٍّ السواء.

محمد رضا نصرالله: لقد أهداه سيفًا، أليس كذلك؟

أمين ألبرت الريحاني: صحيح.

محمد رضا نصرالله: وبعض الملابس العربية، ويبدو أنه قدَّم له وصفة شعبية وهي الكينا، حينما أصيب الريحاني بالحُمَّى، وهنالك سرد بعض التأمُّلات، نريد حديثًا عن هذه النواحي الشخصية في رحلة الريحاني إلى الجزيرة العربية.

أمين ألبرت الريحاني: هذا يردُّنا إلى ملاحظة هامة تعود إلى ثقافة الريحاني الريفية، التي هي - في نظري - لا تختلف عن ثقافة الإنسان البدوي، وأُعطي المثل المحدَّد في ذلك لشخصية المغربي في ريفنا اللبناني، وهو الذي يصف الأدوية من الأعشاب، فحين وصف الملك عبدالعزيز دواءً من الكينا، أي من بعض النباتات والأعشاب وشجر الكينا، كأنها أثارت في نفس الريحاني حنينًا إلى ثقافته الريفية القديمة، فسرعان ما تلقَّفها وكأنه يعود إلى ذاته، تأتيه هذه الوصفة من مليك أعجب به سياسيًّا وإنسانيًّا، وإذا به يعجب به طبيبًا، فكان من الطبيعي أن تفتح له نافذة لتأمُّلات ذاتية داخلية، أنا في صميم هذه الصحراء يهددني داء الحمى، ويأتيني المليك بوصفة قد تنقذني، وإذ بهذه الوصفة تستعيد ثقافتي الفتية من ريفنا القديم الذي يعود بنا إلى الأرض لعودتنا إلى الحياة.

محمد رضا نصرالله: وماذا عن قصة ذلك البدوي، صاحب الكشكول الذي يمتلئ بكل شيء من الإبرة إلى بعض الأشياء التي كان يحتاجها الريحاني، لقد رسم صورة معيَّنة عن هذه الشخصية البدوية، وبهذا - أيضًا - كان الريحاني يعبِّر عن حساسية فنية في التقاط بعض الصور، وبالتحديد وهو في ”ملوك العرب“ كما هو في بعض كتبه الأخرى كما هو في ”قلب العراق ولبنان“، كان يسرد سردًا ذا طبيعة روائية.

أمين ألبرت الريحاني: وثمَّة تأكيد لهذا الكلام، وهذه الملاحظة الهامة أيضًا أن بعض الدراسات الجامعية اليوم قد تناولت - وما تزال - النَّفَس الروائي عند الريحاني، ليس تحديدًا وفقط بالنسبة لكتاب خالد، وهو من أهم أعماله الروائية الإنجليزية العالمية، إنما من خلال الكتب التي أصلًا لا علاقة لها بالرواية، ورغم ذلك تجد فيها هذا النَّفَس الروائي.

وبالعودة إلى هذا البدوي الذي في خرجه كل ما يمكن أن يحتاجه الإنسان، هذه الصورة بالذات عادت بالريحاني إلى ثقافته الريفية، حيث ما نزال نقول حتى اليوم هذا القول الشعبي: ”فلاحٌ مكفي.. سلطانٌ مخفي“، وكأن صورة الفلاح اللبناني استعيدت بصورة البدوي العربي في معنى هذا الاكتفاء، وفي معنى التسلطن الذي لا يحتاج أيَّة حاجة من العالم أجمع، وإذ بالفلاح اللبناني يتَّحد مع البدوي العربي في طبيعة هذا الإنسان المكفي، وهو في حقيقة أمره سلطان مخفي.

محمد رضا نصرالله: وأيضًا لقد صال وجال في الجزيرة العربية، شرّق وغرّب، ذهب إلى اليمن في تلك الرحلة الخطرة، وكان مرافقه واحدًا من الشوام على ما أتذكَّر، وفي طريقه إلى الكويت كان يرافقه السيد هاشم النقيب، نريد حديثًا وهو يخوض تلك الغمار واكتشاف المجهول في اليمن، وأيضًا الكشف عن المسكوت عنه في تلك الديار.

أمين ألبرت الريحاني: رحلة اليمن كانت من المواضيع التي شكَّلت إنذارًا أولًا للريحاني في نيويورك قبل أن يقوم برحلته العربية، بمعنى أن بعض الأصدقاء والمحرِّرين في ”نيويورك تايمز“ الذين يعرفون تفاصيل الواقع السياسي في العالم العربي آنذاك، ولا ننسى أن الريحاني كان مراسل ”نيويورك تايمز“ في أوروبا خلال الحرب العالمية الأولى، ومن ثمَّ انتقلت ”نيويورك تايمز“ إلى أن تنشر للريحاني العديد من مقالاته، المهم أن زملاءه في الجريدة حذَّروه من اليمن، بأنك سوف تُقتل لمجرد كونك غريبًا، وأنت تأتي دون سابق إعدادٍ أو إنذارٍ أو تهيئة، أنت تقتحم المجهول في مثل هذه الأحوال. رغم ذلك أصرّ على اقتحام اليمن، وزار ملك اليمن، الإمام يحيي بن حميد الدين، كما زار العديد من حكام المحميات آنذاك، ورافقه بصورة غير مباشرة المثل على ذلك بعض الأسئلة التي طرحها الإمام يحيي على السيد أمين الريحاني، فظنّه أنه من أحد سادة الحجاز، فكان السؤال الشهير: أحسنيٌّ أنت أم حسيني؟ وكان جواب الريحاني الشهير: يا سيدي، أنا عربي جئت في خدمة الأمة العربية.

محمد رضا نصرالله: هل كانت هذه الزيارة زيارة استكشافية بما أنه صحفي أمريكي من أصل عربي، عمل مراسلًا لجريدة مرموقة وهي ”نيويورك تايمز“، نريد أن نتوقَّف عند هذه الجزئية، وأن نتحدَّث - أيضًا - عن نشاطه الصحفي في الحرب العالمية الأولى.

أمين ألبرت الريحاني: بالنسبة للشق الأول من السؤال؛ إلى أي مدى كانت هذه الرحلة العربية رحلة استكشافية؟ صحيح.. ففي شقٍّ منها كانت رحلة استكشافية، ومن الخطأ القول: إن الاستكشاف لم يكن واردًا، هو جزء طبيعي وأساسي من هذه الرحلة، مع الفارق أن هذه الرحلة لم تقف عند حد الاستكشاف، وإلَّا لكان عمله قد اقتصر على العمل الصحفي، هدفه - وظل يكرِّره تقريبًا كتابةً وقولًا أمام جميع ملوك العرب وحكامهم - أنني جئت لاستكشف الواقع العربي والإنسان العربي، سياسيًّا وثقافيًّا واقتصاديًّا، ولكن في سبيل هدف أبعد.

محمد رضا نصرالله: لمصلحة من كانت هذه الرحلات الاستكشافية؟ إنسان يعيش إلى حد ما حياة مرفَّهة في نيويورك، يؤسِّس مع زملائه هناك الرابطة القلمية، ويعمل صحفيًّا كاتبًا، ويعيش حالة غرامية مع فتاة أمريكية، فما الذي يدفعه إلى أن يترك كل هذه الحياة الرغيدة ويقتحم مجاهل الصحراء إلى المجهول؟

أمين ألبرت الريحاني: هذا السؤال يُطرح باستمرار، ويذهب البعض إلى أبعد مما ذهبتَ، إلى حد طرح بعض الأسئلة أو وضع علامات استفهام حول أهداف الريحاني، ولكن في رأيي استنادًا إلى المستندات التي بين يدي من وثائق ورسائل وغيرها، هذا الرجل الذي عُرِفَ بنزعته الثورية، والذي صادفته الظروف الفكرية والثقافية لأن يتعرَّف على جذوره العربية، ألهبت منه ليس الخيال وحسب، وإنما أشعلت منه الفكر والعقل، بمعنى أنه لم يكن للريحاني من هدف من رحلته العربية إلَّا ما كتبه في صحة الهدف الأسمى، أي العمل في سبيل مستقبل العرب وخيرهم ووحدتهم الناجعة والمزدهرة، وقد أشار إلى أنني أحلم بولايات عربية متحدة تناهض الولايات الأمريكية المتحدة، عندي أن هذا الهدف الأسمى لا يعود بحاجة لمن يدعمه سياسيًّا، سواء من الدول أو من غير الدول.

محمد رضا نصرالله: ولكن هنالك بعض الباحثين ممَّن ذهب إلى أن ثمَّة صلات قد قامت بين أمين الريحاني وبعض الأجهزة البريطانية أو الأمريكية.

أمين ألبرت الريحاني: أشكرك على إثارة هذا الموضوع، وأقول: إنه لو كان هذا الكلام صحيحًا، بمعنى أن الريحاني عمل لأهداف ذات علاقة بدول أخرى كبريطانيا أو أمريكا، لما مات وفي جيبه أو في حسابه المصرفي ما لا يتجاوز الدولارات الخمس، لو صح هذا الكلام ربما لم أتحمَّل أنا مسؤولية تحقيق نشر كل تراث الريحاني والذي يستوجب ربما ملايين الدولارات، هذا موضوع آخر، ولكن أكثر من ذلك تسألني.. ولماذا كل هذا الاهتمام؟ ولماذا راسل البريطانيين والأمريكيين؟ كان بإمكانه ألَّا يراسل أحدًا، طالما أن المشروع شخصي وفردي، وجوابي على ذلك هو عرقلة البريطانيين لمساره في رحلته العربية، وأنت تعلَّم أن البريطانيين حاولوا أكثر من مرة وبأكثر من وسيلة أن يقفلوا الطرق أمامه.

محمد رضا نصرالله: قد يكون باعتباره محسوبًا على الأمريكان.

أمين ألبرت الريحاني: تمامًا، إذن ماذا يمكن لفرد كالريحاني بطموحه الكبير أو بحلمه السياسي الكبير وبقدراته الفردية الصغيرة، أن يواجه الدول، فخطر بباله أن يواجه دولة بدولة، يبدو ذلك كحصان دون كيشوت. وسأشرح هذه الفكرة؛ بريطانيا تحاربه وتسعى لعرقلة تنقلاته العربية، لو اكتفى بجهوده الشخصية لأخفق، خطر بباله أن يطلب بصفته يحمل جواز سفر أمريكي - فقد أصبح أمريكيًّا بعد أن عاش هناك لما يقرب من 30 عامًا - من وزارة الخارجية الأمريكية أن تردَّ وتزوِّده برسائل تُعزِّز أو تُسهِّل رحلته العربية، كي لا يقف الإنجليز في وجهه، وهكذا كان.

محمد رضا نصرالله: لماذا طلب من الخارجية الأمريكية تزويده بهذه الرسائل ما دام طموحه هو أن يخترق هذا العالم العربي الذي يُشكِّل مرجعيته الحضارية، ليرسم لنا صورة رومانسية بأنه أقدم على هذه المغامرة وقد خلّف وراءه تلك الحياة الرغيدة وترك زوجته الأمريكية الجميلة؟

أمين ألبرت الريحاني: في رأيي ربما هذا لأكثر من سبب، السبب الأول هو ما أشرت إليه من أن الريحاني بمفرده قد يصعب عليه في تلك الفترة أن يواجه بريطانيا التي كانت هي الدولة العظمى آنذاك، إذن لا بد من مواجهة متوازية بعض الشيء، ففكَّر في مراسلة الخارجية الأمريكية، وقد وُفِّقَ في ذلك. ويبقى السؤال لماذا؟ ليس فقط لتجاوز الصعوبات البريطانية، ولكن لا يغرب عن بالنا أن الولايات المتحدة في تلك الفترة - أي في عام 1922م، بعيد الحرب العالمية الأولى ومبادئ ويلسن - هي المثال والنموذج والنظام السياسي الأمثل.

محمد رضا نصرالله: أشرنا سابقًا إلى اتصالات أمين الريحاني بوزارة خارجيتها، هل كان الريحاني يحمل الجنسية الأمريكية؟

أمين ألبرت الريحاني: أولًا، صحيح كان الريحاني يحمل الجنسية الأمريكية منذ عام 1902م، ولا ننسى أنه هاجر مع عائلته منذ عام 1888م، فهو نشأ في الولايات المتحدة واكتشف لاحقًا الجذور العربية التي تمسَّك بها، أما سبب مراسلته لوزارة الخارجية الامريكية، وهذا أمر صحيح بما يتعلَّق برحلته العربية، فكما ذكرت سابقًا عندي ذلك لسببين؛ الأول أن يحاول أن يتجاوز العقبات البريطانية لعرقلة طريقه في سبيل رحلته العربية، والثاني أن النظرة إلى الولايات المتحدة آنذاك كانت نظرة أقرب إلى النموذج السياسي الذي يُحتذى، وهذا لا يعني أن الريحاني لا ينتقد أمريكا، وهذا واضح في كتاباته على كل حال، وليس أمرًا غير معروف، فمنذ كتاب ”خالد“ وحتى كتاباته عن العرب وحتى محاضراته في عقر الدار الأمريكية؛ في نيويورك وفي سلسلة من الجامعات الأمريكية، كان الناقد اللاذع للديمقراطية الأمريكية لمحاولات التوسُّع الأمريكية التي قد لا تتواءم مع مبادئ ويلسون الشهيرة في حق الشعوب في تقرير مصيرها وما إلى ذلك، إذن هو من جهة كان ينتقد الولايات المتحدة، ولكنه من جهة ثانية استعان بقواها ليرد على محاولات العرقلات البريطانية، وهو في مطلق الأحوال دعا - وفي غير موضع وفي غير كتاب - إلى ما أسماه الولايات العربية المتحدة، لتخاطب الدول العظمى آنذاك ندًّا لند، وهذا ما نسعى إليه حتى اليوم.

محمد رضا نصرالله: إذن لنستجلي نشاط الريحاني في هذه القارة الأمريكية، قبل أن يأتي إلى الشرق، كان قد أسس مع جبران خليل جبران وميخائيل نعيمة الرابطة القلمية، والتفَّ حولهم عدد من شعراء المهجر اللبناني، لماذا التقى شمل هؤلاء أولًا في الرابطة القلمية؟ هل كان بدافع الحفاظ على الهوية العربية واستدعاء صورها من الشعر العربي، ومحاولة إعادة إنتاجه تحت ظلال الغربة؟ حيث كتب جبران أجمل ما كتب، وكتب الريحاني أجمل ما كتب، وكتب ميخائيل نعيمة تلك المرثية للنهر المتجمد.

أمين ألبرت الريحاني: قصة الرابطة القلمية في تفسيرها الثقافي، بعيدًا عن حيثيات هذا التأسيس، تُشكِّل محورًا أساسيًّا يلتقي مع أهداف الريحاني الثقافية الآن كمؤسس لما يُسمَّى بالأدب العربي الأمريكي، وإذا تعود اليوم إلى المؤتمر الأخير الذي حصل في واشنطن منذ سنتين بعنوان: ”الريحاني جسرٌ بين الشرق والغرب“، ستجده يركّز على هذا المنحى، بمعنى أن الأديب المفكّر الذي أسس لما نسميه بالأدب العربي الأمريكي أو هو الرديف للأدب المهجري جاءت حركة الرابطة القلمية، وليس صحيحًا أنها أسست عام 1920م كما هو شائع، بل كان تأسيسها منذ العام 1916م، مع الريحاني ورفاقه، بمعنى أنها الحركة التي تُؤسِّس لحركة التجذُّر العربي في قلب الولايات المتحدة أو في قلب الغرب. إنَّ كل ما طرحته سابقًا بمعنى التجذُّر العربي سياسيًّا، جاء رديفًا له التجذُّر العربي ثقافيًّا وأدبيًّا عن طريق حركة الرابطة، والتي كان الريحاني في طليعة زعمائها.

محمد رضا نصرالله: جبران غادر بشري، مسقط رأسه إلى أمريكا، وقد حمل في بعض كتبه ذات الطبيعة الفنية الجميلة على مظاهر الإقطاع في لبنان، وأيضًا اشتاق إلى بعض الرموز العربية من التاريخ، مستدعيًا ابن خلدون والمعري وغيرهما، هل كان ذهاب جبران إلى الولايات المتحدة الأمريكية بسبب تواجد أمين الريحاني قبله؟

أمين ألبرت الريحاني: هذه نقطة جوهرية لا بد من توضيحها، هجرة عائلة جبران كانت كهجرة عائلة الريحاني، منفصلتين الواحدة عن الأخرى، ولكن بعد مرحلة، وبالضبط بعد مرحلة باريس الفنية عند جبران والتي التقى فيها الريحاني بعد أن سبق وأن تصادقا، قرَّر جبران أن يعود إلى نيويورك بدلًا من العودة إلى بوسطن، وهو يذكر أن سبب اختياره لنيويورك هو وجود أمين الريحاني فيها، بمعنى أنه ارتاح إلى شخصية كبيرة كالريحاني، موجودة في المدينة العملاقة نيويورك، وهي المدينة التي تحقّق طموحات الكبار أمثال الريحاني وجبران. يُضاف إلى ذلك أن جبران اختار أن يسكن في منزل الريحاني نحوًا من سنتين في نيويورك، وكانت تلك المرحلة بين عامي 1910 و1912 من أغزر وأغنى وأكثر المراحل المراحل للاثنين معًا، حيث صدر للريحاني كتابه العملاق كتاب ”خالد“، والذي رسمه جبران بمجموعة من اللوحات، واطلق الريحاني جبران في الأوساط الفنية الأمريكية التي رسم كبار شخصياتها.

محمد رضا نصرالله: هو الذي قدَّمه أم ماري هاسكيل؟

أمين ألبرت الريحاني: ماري هاسكيل رعت جبران منذ مرحلة بوسطن، والرعاية هنا شملت العديد من النشاطات، وطبعًا لا ننتقص دورها في رعاية جبران وإطلاقه فنيًّا وأدبيًّا، ولكن الدور الذي قام به الريحاني جاء موازيًا ولمرحلة قصيرة وليس طويلة، فقط خلال تلك السنتين، بمعنى أنه بكون جبران يعيش في منزله، وبكون الريحاني قد انتشرت شهرته في الولايات المتحدة فكأنه وضع هذه الشهرة تحت تصرُّف صديقه جبران، وهكذا كان.

محمد رضا نصرالله: لاحظت في كتاب ”رسائل أمين الريحاني“، أنه قد جرت بينه وبين جبران مراسلات، وأن جبران قد طلب منه ذات مرة عباءةً عربيةً بيضاء، حاول أن يحتمي بها من برد أمريكا القارص، ما مدلولية هذه الحماية؟

أمين ألبرت الريحاني: هذه القصة أفسّرها بتفسيرين وهي طبعًا يمكن أن تحمل أكثر من تفسير، التفسير الأول أن حنين الريحاني إلى جذوره العربية رأينا حنينًا موازيًا له عند جبران، ولكن ليس تحديدًا بالمعنى العربي الواضح الذي رأيناه عند الريحاني، ولكن بالمعنى الشرقي العام الذي يمتد إلى حدود الهند وإلى حركة النيرفانا وكل ما يوحي به الشرق من جذور قديمة وتراث قديم، إذن كأن تلك العباءة قد جسَّدت لجبران هذا الحنين إلى شرق مجهول يتوق إلى اكتشافه، ولم يتسنَّ له ذلك. يُضاف إلى هذا التفسير تفسير آخر يرتبط بقصة أخرى، نحن نعلم أن الريحاني حين قرَّر نشر كتاب ”خالد“، راسل عددًا من كبريات دور النشر، وكان يرفق رسائله بنسخة من كتابه ملفوفة بقماشة بيضاء، كأنه شاء أن يوحي للناشر بأن هذا الكتاب يكاد يكون مقدَّسًا إن صح التعبير، وقد أشار الريحاني وجبران إلى هذه الحادثة، من أن دار النشر الكبيرة ”دوت ميد“ التي قرَّرت أن تنشر كتاب ”خالد“، والتي كانت آنذاك تستقبل مئات المخطوطات شهريًّا، وإذ بكتاب ”خالد“ يُختار للنشر، فكان احتفال كبير بين الحلقة الرباعية آنذاك، أي جبران والريحاني وشارلوت تيلر وماري هاسكيل، احتفالًا بهذه الحادثة، فالحنين إلى الشرق كان يطغى، والحنين إلى العرب كان واضحًا.

محمد رضا نصرالله: الحنين إلى الشرق، الريحاني حنَّ إلى الصحراء، وجبران حنَّ إلى تلك الصبية اللبنانية الجميلة المتصدرة صوالين القاهرة الأدبية، مي زيادة، نريد وقفة هنا.

أمين ألبرت الريحاني: قصة مي قصة مميزة، أولًا لا ننسى أن ميًّا هي واحدة من علامات المفارقة في أدبنا العربي الحديث ولا شك، أما العلاقة بين مي زيادة من جهة وكلٍّ من جبران والريحاني، فقد اختلفت، وهنا أحاول الاختصار.

محمد رضا نصرالله: لقد كتب الريحاني قصته معها.

أمين ألبرت الريحاني: نعم، الريحاني كتب قصته مع مي كي يوضِّح كل هذه التفاصيل، لكن فيما يتعلق بعلاقة جبران بمي فهي علاقة حب حقيقية، كما تشير الرسائل، بالرغم من أنه لم يلتقها، فكانت الرسائل كأنها التعويض عن لقاءٍ طالما حلم به ولم يتحقَّق، هو في الولايات المتحدة، تارةً في بوسطن وتارةً في نيويورك، وهي في القاهرة أو في بيروت، ولم يتحقَّق حلم اللقاء بينهما، لكن الرسائل تُثبت قصة رومانسية لا غبار عليها، في حين أن علاقة مي بالريحاني قد بدأت منذ إعجابها بكتابه ”الريحانيات“، أي منذ عام 1910م، قبل أن تعرف جبران أو قبل تكون هذه المراسلة الرومانسية، وإعجابها بالريحاني - كما تشير هي - حملها على ذكره باستمرار، من أنه القيادي العربي في الغرب أو في الولايات المتحدة، إلى أن تعرَّفت إلى جبران وكانت تلك المراسلة الرومانسية، وتمرُّ السنون حتى محنة مي في عام 1938م، يوم كان الريحاني في الولايات المتحدة ومرّت مي بهذه المحنة التي أودت بها إلى مستشفى العصفورية ”مستشفى المجانين“، ومن ثمّ المعالجة في المستشفيات الأخرى، وعند قدوم الريحاني في تلك السنة بالذات تأثَّر جدًّا لهذه القصة، فقرَّر أن يجتمع بمي في المستشفى، وتشير القصة في كتاب الريحاني ”قصتي مع مي“ إلى أن اللقاء الأول كان شبه مسرحي، بمعنى أن غضب مي على الريحاني جعلها تصدُّه ولا تجيب على كل ما طرحه من أحاديث، يسألها فلا تجيب، يعلّق فلا تجيب، يطرح احتمالات أو حلولًا فلا تجيب، فانتهى ذلك اللقاء الأول بتعليق الريحاني ”تصرّين على عدم الإجابة، أفهمكِ، ولكن عليَّ أن أقول لكِ: إنني لم أكن هنا، فأنا وصلت حديثًا من سفرٍ من الخارج، سأزوركِ ثانيةً وأرجو في زيارتي الثانية أن يتحوَّل صمتك إلى كلامٍ قد يفيدنا نحن الاثنين معًا“، خلاصة القصة أنه أقنع مي في المرة الثانية أن تخرج من المستشفى وأن تنسى كل الذي حصل، وأن تُقنع العالم بأنها ما تزال في قواها العقلية السليمة بمحاضرة أدبية اقتنعت بإعدادها وإلقائها في الجامعة العربية ببيروت، وهكذا كان، وعلى الأثر أقنعها بأن تأتي إلى الفريكة وتمضي صيف ذلك العام في منزل مجاور، هو المنزل الذي شاهدتموه منذ لحظات، وهو المنزل الذي لا نزال نذكره حتى اليوم أنه المنزل الذي استقبل مي زيادة في صيف عام 1938م، ضيفةً على الريحاني.

محمد رضا نصرالله: في هذا البيت، حيث نجلس الآن، وهو بيت أمين الريحاني في الفريكة، استقبل هنا عددًا من الشخصيات العربية في ذلك الوقت، رسائله تُنبئ بأن الريحاني كان على صلة وثيقة برجالات الأدب والثقافة والسياسة، بل والمستشرقين مثل كراتشكوفسكي، المستشرق الروسي الشهير الذي ألَّف ”تاريخ الأدب الجغرافي عند العرب“، نريد حديثًا عن هذا البيت، هل هذا البيت بناه الريحاني أم لوالده، وقصة اللقاءات التي جرت هنا في المجلس الخارجي في حديقة هذا المنزل.

أمين ألبرت الريحاني: هذا المنزل أسسه جدي، أي والد الريحاني، والذي يُدعى فارس أنطون الريحاني، بناه عام 1870م، أي عمره الآن نحو 135 عامًا، ولم يخطر بباله آنذاك أن هذا البيت سيتحوَّل إلى محجَّة لدى رجال الفكر والسياسة كما حصل في عهد أمين الريحاني. من الشخصيات العربية التي زارت هذا البيت في زمن الريحاني، على الصعيد السياسي؛ السلطان عبدالكريم الفضل، سلطان لحج وهي اليوم في اليمن، وفارس الخوري، رئيس الوزراء السوري آنذاك، وهاشم الأتاسي، رئيس الجمهورية السورية، وشكري القواتلي، زعيم الكتلة الوطنية ورئيس الجمهورية السورية آنذاك، وشخصيات عربية أخرى مثل وكيل وزارة الخارجية السعودي آنذاك فؤاد حمزة، ويُضاف إلى ذلك بعض الشخصيات الأدبية، منهم بطبيعة الحال جبران خليل جبران، حيث زاره هنا قبيل رحلة باريس، لأن رسائل جبران تشير إلى الصديق الآتي إليَّ للقائه في باريس، ممَّا يشير إلى معرفة سابقة، وقد أخبرني الوالد أنه كان يزوره هنا في الفريكة، وأيضًا أحمد شوقي، والرصافي، ومجموعة من الشعراء والأدباء العرب، وكذلك كل الأدباء المهجريين الذين كانوا يتردَّدون إلى هنا، مثل ميخائيل نعيمة، والشاعر القروي رشيد الخوري، والأخطل الصغير، فكان هذا ملتقى الأدباء والشعراء ورجال السياسة آنذاك، بمعنى أن الحركة الثقافية والحركة السياسية الإصلاحية - إن صح التعبير - كانت تُشكِّل محورًا وملتقىً في هذا البيت بالذات.

محمد رضا نصرالله: على هذا الصعيد وجدنا - أيضًا - في بعض هذه الرسائل مساجلات ارتقت إلى مستوى الكتب، ”النكبات“ مثلًا وهو يرد على ”خطط الشام“ لصديقه محمد كرد علي، نريد حديثًا عن هذا، وأيضًا بعض المشروعات الفكرية والأدبية التي انطلقت من هذا البيت.

أمين ألبرت الريحاني: ثمَّة كتابان أساسيان شكَّلا سجالًا فكريًّا، الواحد سياسي والآخر أدبي، واستمر السجال طوال عامين أو أكثر في الصحافة العربية، وصادف ان الكتاب الأول وهو ”النكبات“ الذي صدر عام 1920م، ونحن ما نزال في عصر النكبات العربية، قرَّر الريحاني بعد اطلاعه على كتاب ”خطط الشام“ لصديقه الحميم الأستاذ محمد كرد علي، اتصل بمحمد وقال له: يا صديقي، سوف أكتب كتابًا هو بمثابة الرد ولكن ليس القصد هو الرد، ولكن سأكتب عن تاريخنا من زاوية أخرى، فقال له: ماذا تعني؟ قال: سأكتب عكس ”خطط الشام“، أنت كتبت عن أمجادنا العربية، وهي في مكانها، لكنني سأكتب عن نكباتنا العربية التي لم نتعلَّم منها بعد، فكان أن وضع ذلك الكتاب، وسرد سلسلة من الأحداث الدموية المأساوية العربية من حكام وقصص شعبي وما إلى ذلك، تُنبئ عن واقع مأساوي عربي، وكانت الانتقادات عديدة على الريحاني، فكان جوابه: أنني كلما أطالع تاريخنا العربي لا أقع إلا على أمجادنا، لو كان هذا فقط هو تاريخنا لكان من المنطقي أن نعيش تلك الأمجاد حتى اليوم، أما وأننا نعيش النكبات اليوم، فهذا يعني أن في تاريخنا من جذور تلك النكبات ما نغض الطرف عنه بدلًا من أن نتعلَّم منه، لذلك وضعت كتابي النكبات.

محمد رضا نصرالله: وقد حدث ذلك قبل حلول عام النكبة سنة 1948م.

أمين ألبرت الريحاني: تمامًا، بالضبط قبل 20 عامًا من وقوع النكبة الفلسطينية، أي في عام 1928م.

محمد رضا نصرالله: وأيضًا المجتمعات العربية اليوم تعيش حالة من التطرُّف الفكري.

أمين ألبرت الريحاني: لو كان الريحاني موجودًا اليوم، لتوقَّعت منه كتاب نكبات آخر، ليكون داميًا أكثر من الكتاب الأول.

محمد رضا نصرالله: وكذلك فقد لمس إشكالية التطرف والإصلاح في واحدٍ من كتبه التي لامست الجرح الثقافي في المجتمع العربي المعاصر.

أمين ألبرت الريحاني: قد يكون من سخريات القدر أنه في العام ذاته، أي في عام 1928م أيضًا، يصدر كتاب آخر للريحاني هو الذي ذكرت، كتاب ”التطرف والإصلاح“، وكأن الأول هو رديف للأول، أو كأن الثاني هو صدى للأول، من جهة هذه هي نكباتنا ومن جهة أخرى هذا هو ما أعنيه بتطرفٍ سياسي عقائدي في سبيل إصلاح الأمة، وهذا تمامًا ما قصده. بهذا المعنى الكتابان يكمل واحدهما الآخر. ويشير هنا إلى سجال طويل حدث في الصحافة العربية، لبنانيًّا وسوريًّا ومصريًّا وخليجيًّا، بين مقالات وبين أخذ ورد حول موقف الريحاني من مناصريه ومن غير مناصريه.

محمد رضا نصرالله: على كثر ما كتبه عن العرب وجغرافيتهم الثقافية والسياسية المعاصرة، كتب عن قلب الجزيرة العربية وقلب العراق وقلب لبنان وقلب المغرب العربي، لكن صلته بمصر رغم مروره بها، كأنها كانت غير مكتملة، لماذا لم يكتب عن قلب مصر؟

أمين ألبرت الريحاني: الريحاني كان في مخطوطاته التي أنجزها ولم تنشر - ولا ننسى أنه توفِّي فجأة خلال حادث على الدراجة الهوائية وهو في عز نشاطه - بعض الكتب التي تُكمل هذه السلسلة التي ذكرت، بعضها بالإنجليزية، مثل كتاب ”The Heart of Iraq“، وهو صدى لكتاب ”العراق خلال زمن فيصل الأول“، وكأنه جمع الكتابين العربيين في كتاب واحدٍ أتبعه بكتاب آخر أسماه ”كردستان“ في محاولة لمواجهة وطرح حلول للمشكلة الكردية، كجزء من مشكلات هذه الأمة العربية. ويأتي - أيضًا - في بعض مدوَّناته أنه في مخططه أن يكمل هذه السلسلة لتشمل كل البلاد العربية بما فيها مصر. ولا ننسى أن للريحاني في مصر جولات بارزة في طليعتها قبيل رحلته العربية أنه توقَّف شهرًا كاملًا في القاهرة، حيث كان هو موضع احتفالات تكريمية، القصائد التي قيلت فيه واحتفال الأهرام الشهير الذي كتبت عنه ”نيويورك تايمز“، وبحسب ”نيويورك تايمز“ فإن أبرز احتفال لأديب عربي حدث آنذاك في العالم العربي، كان عند سفح الأهرامات تكريمًا للريحاني، ومنه قصيدة شوقي الشهيرة في الريحاني، والتي أتبعت بقصائد من قبل سائر الشعراء في مصر، وسائر البلدان العربية كالرصافي وغيره، يُضاف إلى هذا أن الأهرام طوال شهر كامل نشرت إما عن الريحاني أو له، وممَّا نشرته كانت القصيدة الشهيرة التي كتبها آنذاك ”أنا الشرق“، وهي من أشهر قصائد الريحاني.

محمد رضا نصرالله: جبران - أيضًا - من رياداته العديدة أنه أسس لقصيدة النثر قبل ولادتها على يدي الماغوط وأنسي الحاج وغيرهما من أصحاب مجلة ”شعر“ أو الدائرين حول فلك هذه المجلة التي صدرت في نهاية الخمسينات الميلادية، أيهما له الأسبقية التاريخية في كتابة هذا اللون الفني، هو أم جبران؟

أمين ألبرت الريحاني: أجيبك بوقائع تاريخية، محاولًا قدر المستطاع أن أبقى موضوعيًّا في هذه النقطة بالذات، في عام 1905م تنشر مجلة ”الهلال“ في مصر لصاحبها جورج زيدان، نصًّا للريحاني، وأقول ”نص“ كي لا أُتَّهم بتصنيفه، لكن ”الهلال“ تُصنِّف هذا النص بالعبارة التي أطلقها الريحاني ”أول نص من الشعر المنثور“، قد يُصادف للوهلة الأولى ان هذا النص صدفةً صنَّفه الريحاني وتبنته ”الهلال“، وإذ في مقدمة ”هتاف الأودية“ يشير الريحاني إلى أنه تأثَّر بوالت ويتمان في ”أوراق العشب“، منذ نهاية القرن التاسع عشر حينما كان في الولايات المتحدة، وقرَّر منذ ذلك الحين أن يدخل هذا النمط من الشعر إلى الأدب العربي، وكانت أولى تلك المحاولات في عام 1905م قبل أن يكتب جبران ما صُنِّفَ في هذا الإطار بعامين أو ثلاثة، ونحن نعلم أن الكتاب الأول لجبران كان هو كتاب ”الموسيقى“ الذي كان في عام 1905م، وهو كتاب له موضوع يختلف تمامًا، وبداية كتابات جبران المتعلقة بهذا التصنيف جاءت بعد عامين أو ثلاثة، الأهم من ذلك هي العودة إلى الشعر الحديث مع أدونيس والسياب وأنسي الحاج ومحمد الماغوط.

محمد رضا نصرالله: لكن السياب كتب قصيدة تفعيلية.

أمين ألبرت الريحاني: تمامًا، من هنا فإن قصيدة النثر بالمفهوم الذي أطلقه الريحاني تختلف جوهريًّا عن قصيدة التفعيلة التي أطلقها بعض المعاصرين من شعراء الحداثة، حتى جاء أدونيس في مؤتمر الريحاني منذ عامين وليس هنا، ليُقرَّ بأن الريحاني هو رائد الشعر المنثور، فالقصة باتت واضحة تمامًا تاريخيًّا وحداثيًّا إن صح التعبير، بتتويج اعتراف أدونيس بهذا الواقع.

محمد رضا نصرالله: أيضًا تأثر بفكر الثورة الفرنسية حاله حال معظم رُوَّاد الفكر النهضوي، وقبله قد تأثَّر بها الكواكبي ورفاعة رافع الطهطاوي وجمال الدين الأفغاني، نريد وقفة هنا حول أثر فكر هذه الثورة الفرنسية على آرائه التجديدية في قضايا الاجتماع السياسي والحضاري.

أمين ألبرت الريحاني: في الحقيقة تأثُّر الريحاني بالثورة الفرنسية جاء نتيجة تثقُّف فلسفي سياسي، ربما غير مقصود أصلًا، فنتيجة مطالعاته وتدرُّج تلك المطالعات أدَّت به للتأثُّر بالثورة الفرنسية دون أن تكون مقصودة منه أنه أراد تتبُّع كبار المفكرين الفرنسيين من فولتير إلى روسو إلى هوغو وحركة الثورية الفرنسية التي تأثر بها. لا ننسى أن الريحاني بطبيعته الثورية جمع في مطالعاته من أقصى الفلسفة المادية إلى أقصى الثورية السياسية الإصلاحية، من بوخنر إلى هيغل إلى كانط وصولًا إلى كبار مفكري الثورة الفرنسية وفي طليعتهم روسو، من هنا فإن تأثره كان في جوهر المعتقد الإصلاحي السياسي، وإذ به يطالع كتاب توماس كارليل عن الثورة الفرنسية، فيفاجأ بسخرية توماس كارليل من الثورة الفرنسية، وكأنه يهبُّ للدفاع عن معتقده، كيف يمكنك يا كارليل أن تسخر من ثورة باعتقادي هي من أهم الثورات التاريخية على الصعيد الإنساني والسياسي؟ فيقرِّر أن يضع كتابًا وهو أول كتاب له، بعنوان: ”نبذة في الثورة الفرنسية“، في مقدمة هذا الكتاب يشرح لماذا قرَّر وضع هذا الكتاب للرد على كارليل، ولرفض نزعته الساخرة من رجال فكرٍ مهَّدوا لحرية الإنسان ولحرية الشعوب.

محمد رضا نصرالله: ولكنه قد تأثَّر بكارليل في احترامه وتبجيله للبطولة والأبطال، لقد أعجب بشخصية النبي محمد، نبي الإسلام، من خلال هذا الكتاب الذي دبَّج فيه كارليل ما يشبه قصيدة إطراء فاخرة الأداء لغويًّا ومشاعريًّا.

أمين ألبرت الريحاني: لا يجب أن ننسى أن نتحدَّث عن كتابين، كلاهما لكارليل، كتابه عن الثورة الفرنسية الذي رفض الريحاني نزعته الساخرة، وكتابه عن معنى البطولة، وتحديدًا بطولة الرسول الذي أطراه الريحاني وأُعجب به، ممَّا يشير إلى أن الريحاني من خلال شخصيته الناقدة كان يعجب بكتاب فيشير إلى هذا الإعجاب، وينتقد كتابًا آخر حتى ولو كان للكاتب ذاته، فينتقد هذا الكتاب، وهذا ما حدث مع كارليل بالنسبة للريحاني، أُعجب بكتابه عن بطولة محمد، وانتقد كتابه عن الثورة الفرنسية.

محمد رضا نصرالله: يبدو أنه قد قرأ الكتاب وهو في نيويورك، ويبدو أن كارليل قد بعث في الريحاني هذا الخيال الملتهب بسحر الشرق، وقد درج على رماله كما وصفنا ذلك سابقًا، ولكن يبدو - أيضًا - أن ثمَّة مواقف طريفة حصلت للريحاني هنا، حديثه عن الأكل ومفاضلته بين الموائد في الرياض والكويت وبغداد، وأيضًا قضمه لرُمَّان بعقوبة، لازالت هذه الصورة ماثلة في ذهني وأنا أستمتع بقراءته عن قلب العراق خلال زمن فيصل الأول.

أمين ألبرت الريحاني: تفسيري لذلك هو تفسير إنساني بسيط جدًّا، وواقعي جدًّا، وهو برأيي ما يلتئم مع شخصية الريحاني. صحيح أنه أُخِذَ برمان بعقوبة أو برمان الطائف حتى، ولكن معنى ذلك عندي أنه ذكَّره برمان حديقته وما نزال حتى اليوم، ثمَّة هنالك بعد الجلول نسميها جل الرمان، إذن هذه أمثلة حية تمامًا كالتي تُشير إليها، تردُّه إلى واقعه الإنساني الأصيل، ومن هنا تأتي قيمتها في كتاباته، وبالضبط في كتاباته عن العرب، وتحديدًا في ”ملوك العرب“. ولكن ثمَّة ملاحظة أخرى، البعض يظن - وربما هذا رأي شعبي - أن الريحاني عاد إلى جذوره العربية من خلال رحلته العربية، ولكن واقع الأمر أنه عاد إلى جذوره العربية منذ كتابه ”كتاب خالد“، أي منذ العام 1911م.

محمد رضا نصرالله: أراك دائمًا تترنَّم بهذا الكتاب، وقد أسميت ابنك أنت خالدًا، حدِّثنا عن هذا الكتاب.

أمين ألبرت الريحاني: برأيي فإن كتاب ”خالد“ هو محور أساسي من محاور الكشف الفكري الفلسفي عند الريحاني، برأيي - وهذا ما ذكرته في بعض مؤلفاتي - أنه يُشكِّل المخطط الفلسفي للريحاني، كتاب ”خالد“ وضعه ليجمع بين ثنائيات متعدِّدة واجهها الريحاني طوال حياته، ثنائية الموت والحياة، ثنائية الشرق والغرب، ثنائية المادة والروح، ثنائية العرب والغرب، ثنائية الاستشراق والاستشراق المضاد، ثنائية الإنسان المتفوِّق والإنسان المتقهقر المنهزم، ثنائية إنسان نيتشه وإنسان الريحاني، أو الإنسان المتفوِّق بمفهوم نيتشه المادي والإنسان المتفوِّق بمفهوم الريحاني، الذي يجمع - كما قال هو - روحانية الشرق إلى علم أمريكا وفنون أوروبا، من هنا فإن كتاب ”خالد“ أعتبره المحور الأساسي لكل مؤلفات الريحاني فيما بعد، بما فيها السياسية والأدبية وبما فيها من مؤلفات عن العرب لأن فيها فصلًا كاملًا في كتاب ”خالد“ يتحدث ويدعو إلى تأسيس ما أسماه الإمبراطورية العربية.

محمد رضا نصرالله: ”في قلب المغرب العربي“، هنالك توغَّل أمين الريحاني وأطلَّ على ذلك الأفق الأندلسي الجميل الغصن الرطيب، هل بسبب قراءته لواشنطن إيرفينغ، وما كتبه عن الأندلسيات في جملة من كتبه عن غرناطة.

أمين ألبرت الريحاني: كتابه بعنوان: ”المغرب الأقصى“ يُشكِّل نتيجة عندي لمخطط فكري عام شاءه الريحاني، والذي بموجب هذا المخطط اجتمع بعددٍ من زعماء العالم، محاولةً منه لتحقيق بعض هذا المخطط، بمعنى أن ”المغرب الأقصى“ صحيح أنه تأثَّر بواشنطن إيرفينغ وأُعجب بإيقاظه للتراث المعماري العربي المتجسِّد في الحمراء، ولكنه تجاوز ذلك فاجتمع مع الجنرال فرانكو، حاكم إسبانيا آنذاك، قبيل الحرب العالمية الثانية في عام 1939م، ليطرح مشكلة تصحيح العلاقات بين العرب وإسبانيا، التصحيح التاريخي والتصحيح السياسي المعاصر، واجتمع - أيضًا - مع الرئيس ثيودور روزفلت في مطلع العشرينات ليطرح المشكلة الفلسطينية، قبيل طرح القضية منذ الثلاثينات، ثم اجتمع مع الرئيس الأمريكي هوفر، للقضية ذاتها، وتزعَّم وفدًا فلسطينيًّا للاجتماع مع الزعماء الأمريكيين من رئيس الولايات المتحدة آنذاك ووزير الخارجية لبحث القضية الفلسطينية وذلك في الثلاثينات، إذن يصعب جدًّا أن نُجزِّئ أمين الريحاني، لا يمكن تجزئة هذا الرجل وادِّعاء الفهم المتكامل له، هو صعب لأنه متشابك سياسيًّا وأدبيًّا وفلسفيًّا، ومن هنا تصغر كثيرًا الانتقادات التي تُرمى جزافًا هنا وهناك، لا بد من استكمال الصورة، وهي على تعقيدها تدخل في عمق واقع الإنسان العربي.

محمد رضا نصرالله: و”يسقط العمر عن دراجة“، هذا هو سؤالنا الأخير، مسرحية كتبتها عن عمك أمين الريحاني، وقد سقط هنا في أحد طرقات الفريكة حيث كان يقود دراجة على ما يبدو، نريد ختامًا بهذا، وكيف نستطيع أن نختزل هذه الرحلة الواسعة لأمين الريحاني النهضوي؟

أمين ألبرت الريحاني: برأيي أن حياة الريحاني كما كانت حياة دون كيشوتية، كذلك كان موته دون كيشوتيًّا، دون أي سابق تصميم، خطر بباله أن يركب دراجة وهو يعاني من ألم عصبي في يده اليمنى، وحين سأله والدي ألبرت: لماذا اخترت الآن أن تركب الدراجة؟ كان الجواب: لأتذكَّر عهد الصبا في نيويورك.

محمد رضا نصرالله: وله - أيضًا - كتاب ”شذرات من عهد الصبا“.

أمين ألبرت الريحاني: تمامًا، فكأن القدر يترصَّده، وكأن تلك الدون كيشوتية أو محاربة المستحيل كما في حياته كذلك في موته، ليسقط عن الدراجة هنا في إحدى منعطفات الطرقات المؤدِّية إلى الفريكة، أدَّى هذا الوقوع إلى ذهابه إلى المستشفى وبعد 10 أيام حدث التهاب في ظهره، يوم ذاك كان التسمُّم فالموت، اليوم هذا لا يعني كثيرًا نظرًا لوجود البنسلين أو الأدوية المعاصرة، لكن آنذاك كان ذلك يعني الموت، فاجتمع الأطباء وقرَّروا أن يعودوا به إلى البيت، فالحادثة كانت أواسط شهر آب من عام 1940م، عاد إلى البيت في العاشر من أيلول 1940م، وكانت وفاته في الثالث عشر من أيلول 1940م، في الساعة الواحدة بعد الظهر.

محمد رضا نصرالله: وولدت بعد ذلك بسنتين.

أمين ألبرت الريحاني: صحيح، ولدت بعد ذلك بسنتين.

محمد رضا نصرالله: وهذا المكتب الذي وراءك هو مكتبه الذي كتب عليه جملة ما ذكرنا من مؤلفات.

أمين ألبرت الريحاني: هذا المكتب هو الشاهد لمعظم مؤلفات الريحاني، وهذه الآلة الكاتبة بالإنجليزية هي الشاهد لمعظم مؤلفاته الإنجليزية، وبالعربية كان يكتب بخط يده، ولدينا العديد من المخطوطات، وهذه بقايا مكتبته، أقول البقايا لا بمعنى أن ما تبقَّى هو ضائع، وإنما ما تبقَّى نحتفظ به كذكرى في المنزل، وما تراه حولنا هو جزء من متحف الريحاني في الفريكة الذي يجمع في مراحله المختلفة المحطات الأساسية في سيرة الريحاني، سواء في لبنان أو في الولايات المتحدة أو في رحلاته العربية واتّصاله بملوك العرب، أو في الشقِّ الفني والثقافي في المقلب الآخر من المتحف.

 

* حوار أجراه محمد رضا نصرالله في منزل أمين الريحاني بالفريكة ببيروت مع ابن شقيقه د. أمين ألبرت الريحاني أستاذ الأدب العربي والأمريكي بالجامعة الأمريكية ببيروت وجامعة نوتردام قبل رحيله.