آخر تحديث: 31 / 10 / 2024م - 8:43 ص

من حوارات حمد الجاسر وعبدالقدوس الأنصاري ومحمد حسين زيدان ومحمد حسن عواد وحسين سرحان وعزيز ضياء مع محمد رضا نصرالله..

معارك رواد الأدب السعودي

محمد رضا نصرالله مع الشيخ حمد الجاسر
محمد رضا نصرالله مع الشيخ حمد الجاسر
جهات الإخبارية مجلة اليمامة

مع بداية تشكل الدولة السعودية الثالثة لمس المتابع للشأن الثقافي - وقتذاك - أنطلاق حركة ادبية لافتة، حين كان العالم العربي يشهد بوادر نهضة فكرية وادبية - شعرية على وجه الخصوص - هبت على المجتمع الثقافي الشاب، في الإقليم الغربي والشرقي بدرجة اقل، آتية من القاهرة ودمشق وبيروت وبغداد والمهجر الادبي في الامريكتين.

إن هذا هو الذي جعل شداة الأدب في المملكة، ينقسمون بين محافظين وعصريين.. انعكس ذلك في ما ينظمون من شعر، أو يحاولون من تجريب فن جديد هو القصة، أو يكتبون من نقد.. وذلك على صفحات جريدة «صوت الحجاز» في مكة المكرمة، ومن ثم في ما صدر من صحف في بقية مناطق المملكة، بعدما توحدت المملكة، واشتد عود الرأي العام فيها.

مجلة اليمامة تنشر حلقة سجالية تاريخية، ادارها زميلنا الأعلامي الكبير والاديب المعروف محمد رضا نصرالله، توثق لحالة المعارك الادبية، بأراء من اصبحوا رواد الثقافة والشعر والنقد في المملكه.. كحمزة شحاتة ومحمد حسن عواد وعزيز ضياء وحمد الجاسر وعبدالقدوس الأنصاري وعبدالله بن خميس ومحمد حسين زيدان.

محمد رضا نصرالله: كباحث جاد ودارسٍ متخصص يتحدث اليوم عن المعارك الأدبية، ولعل من قرأ كتابه الهام «النثر الأدبي في المملكة العربية السعودية» رغم عدم ذيوعه الإعلامي، سوف يجد استيعابًا كاملًا للمعارك الأدبية كتلك التي دارت مثلًا بين حمزة شحاتة والعواد، وما تلا هذه المعركة من معارك فرعية، وفي تصوري أن المعارك الأدبية ليست سوى صراع للوضع الاجتماعي وصراع للأفكار التي كانت تأتينا من كل صوب، خصوصًا في منطقة الحجاز، نحن الآن مع الدكتور محمد الشامخ الذي سوف يتحدث من وجهة نظره عن المعارك الأدبية.

محمد الشامخ: قد لا أوافقك على هذه التسمية، فكلمة المعارك أكبر مما حدث، فلم يكن سوى نقاشًا أدبيًا ونقديًا، أما قضية المعارك فهي كما يحلو لبعض الدارسين إذا أرادوا أن يضخموا بعض الأمور أن يطلقوها، ولكن ما دار في صحافتنا منذ حوالي 40 عامًا هو عبارة عن نقاش أدبي تغلب عليه في بعض الأحيان الحدة الأدبية والنقدية والروح الهجومية إلى حدٍ ما، ولا شك أنه عندما بدأ الأدب الحديث في هذه البلاد منذ حوالي نصف قرن، كان الأدباء متأثرين بالأجواء الأدبية التي كانت موجودة في البلاد العربية، ولا سيّما ذلك الفكر المهجري الذي دار في أمريكا الشمالية من قبل المهجريين، وذلك النقاش الأدبي الذي كان يدور في مصر بين جماعة الديوان حيث العقاد وشكري والمازني والرافعي والمنفلوطي وغيرهم، فربما يكون أدباؤنا عندما تفتحوا على الصحافة العربية، سواء في مصر أو في المهجر، قد تأثروا بتلك الروح الهجومية التي كان يشنّها العقاد وميخائيل نعيمة وجبران والمازني على من أسموهم بأدباء التقليد، فأحبوا أن يقلّدوا هذه الروح فكان لنا في تلك الفترة شيءٌ من النقاش.

وقد بدأ الأدباء وكان يؤمهم في ذلك محمد حسن عواد في الهجوم على المقلدين للأدب القديم، ولكن في الحقيقة لم يكن هناك الكثير من الأدباء الذين يتبعون التقاليد الأدبية القديمة. ثم بعد ذلك، عندما وجدوا أنه لم يكن هناك أدباء تقليديون لأن الأدباء عموماً كانوا قلة، بدأوا يتراشقون السهام فيما بينهم، وراحوا ينقدون كتابات بعضهم البعض، ويتبادلون النقاش والهجوم أيضاً، وكان الهجوم يتراوح ما بين الهجاء والنقد الشخصي، مثلما دار بين العواد وعبدالقدوس الأنصاري، وأحيانا يتبادلون الدعابة مثلما دار بين العواد وحمزة شحاتة، فلا أسمي ما حدث معارك، وإنما كانت عبارة عن مناوشات أو نقاش أدبي.

عزيز ضياء: أذكر بهذه المناسبة الأخ عبدالسلام الساسي، صديقنا العزيز والذي كتب موسوعات عن الأدب في المملكة، هذا رجل عجيب جداً في قدرته على الحفظ، فإذا كتب حمزة شحاتة قصيدة يهجو بها العواد، تجد في نفس اليوم أو في اليوم التالي أن عبدالسلام الساسي قد حفظها، فإذا كتب العواد قصيدة يهجو بها حمزة يكون عبدالسلام قد حفظها، وعندما نجتمع سويًا كان عبدالسلام يقف ويلقي على مسامعنا ما حفظ من شعر حمزة أو شعر العواد، فتبدأ المناقشة حول جماليات هذا البيت أو ذاك، وبهذه المناسبة أيضاً أتذكر أنني كنت في القاهرة ذات مرة فوجدت أحد إخواننا الأزهريين بجواري وكانت فكرته عن شعرنا أشبه بفكرة الدكتور طه حسين عندما جاء إلى هنا ولم يتحدث عن الشعر إلا من تراث عمر بن أبي ربيعة، ولم يخطر بباله أن لدينا من يكتب شعرًا، فصاحبنا الأزهري كانت لديه نفس الفكرة، فقلت له إن لدينا شعراء لا يقلون مستوى عن عمر بن أبي ربيعة أو غيره، فقال: مستحيل، فقلت له: سأقرأ لك، ومع الأسف ما قرأته كان هجاءً، فنهض الأزهري ووقف يصفق، وقال: لا أصدق أن هذا الشاعر عندكم، ويا حبذا لو كان عندنا من هو في وزنه. عموماً فإن هذه الأهاجي لو قرأتها ستجد فيها أدبًا رفيعًا، صحيح فيها هجاء مُقذِع ومؤلم جداً، لكنه كأسلوب وأداء ولعب بالألفاظ والمعاني وتصوير ومداخل ومخارج تجده رائعًا جداً.

محمد رضا نصرالله: لا شك أن الأستاذ حمزة شحاتة كان على مستوى كبير في الواقع من التطور الفني.

عزيز ضياء: أعجب شيء في حمزة شحاتة أنك لا تدري كيف استطاع في سن «25 سنة تقريباً» أن يستوعب كل ما استوعبه من ثقافة وآراء وأفكار، وهذا يكاد يكون شيئاً نادراً وغريباً، فإذا قرأت بعض مقالاته التي نشرها في «صوت الحجاز» أو غيرها، ستشعر أن النبض الفكري عنده يختلف كليًا عن النبض الفكري الذي كان موجودًا على الساحة في ذلك الوقت، سواءً في المملكة أو حتى في مصر أو سوريا أو في لبنان، ولم يُتهم حمزة بأنه كان يقلّد الرافعي أو طه حسين، أما أنا فقد اتُهِمت بأنني أقلّد طه حسين ولا أنكر أننا في بداياتنا كان لا بد أن نقلّد.

محمد رضا نصرالله: إن «خواطر مصرحة» أثارت شهية بعض النقاد والأدباء في ذلك الوقت، فانهالوا عليها ضربًا ورجمًا، فهل يمكن أن نتحدث هنا عن بداية المعارك الأدبية التي شهدها جيلكم، وأن نتعرف إلى موقف محدد ربما تذكرونه من خلال بعض الشخصيات المعروفة حينذاك؟

محمد حسن عواد: في الحقيقة هم قبل أن يضربوها، هي التي ضربتهم، ف» خواطر مصرحة» كانت قذائف نارية، ضربت قبل أن تُضرَب، وقد وُجِهَت إليها الضربات كما وُجِهَت إليّ أنا، باعتباري صاحبها ومبدعها، ولكن لم تؤثر ولم يفت هذا في عزيمتي وعزيمة أصدقائي من الشبان والطلبة الذين كانوا يؤمنون معي بمثل هذه الأفكار.

محمد رضا نصرالله: لكن لماذا تنكر الأستاذ الراحل حمزة شحاتة ل» خواطر مصرحة»، رغم أنه كان مطلعًا على العلوم الحديثة ومتصلًا بالأفكار الجديدة؟

محمد حسن عواد: كان كل أصدقائي معي على هذه الفكرة، ولكن الأستاذ حمزة شحاتة «رحمه الله» كان له موقف غير طبيعي، وكان هذا الموقف مع مؤسس المدرسة، الحاج محمد علي زينل، حيث كانوا مسافرين على سبيل المصادفة على باخرة واحدة، وكان الرجل مملوءاً بالغضب ضدي بتأثير من الكتاب، فوجد حمزة شحاتة أمامه في الباخرة، فكان صيدًا ثمينًا ومخرجًا كي يؤيد موقف مدير المدرسة ضد موقفي، وكان حمزة شحاتة حتى لحظة حديثه مع الحاج محمد زينل بريئًا من مهاجمة الكتاب.

محمد رضا نصرالله: هل كانت هناك صلة أو كتابات متبادلة بينك وبين حمزة شحاتة قبل أن يلتقيه الحاج محمد علي زينل؟

محمد حسن عواد: نعم، كانت هناك قصائد متبادلة بيننا، كنت أكتب قصيدة وأعرضها عليه، وكان هو أيضا يفعل الأمر ذاته، وكانت هناك بعض الرسائل الودية المتبادلة بيننا، وبعضها موجود في ديواني «آماس وأطلاس»، ولكنه بعد مقابلته بالحاج محمد علي زينل، تغيّر رأيه.

محمد رضا نصرالله: ماذا كانت طبيعة النقد الذي كتبه الأستاذ حمزة شحاتة؟

محمد حسن عواد: نقده كان فنيًا، وكان يضرب المثل بأحمد شوقي، حيث يعتبره هو المثل الأعلى وأنه يجب أن أكون على منهج شوقي فنيًا، والمقصد من ذلك هو أن ينال من الكتاب فنيًا وليس فكريًا، ونشر هذا النقد، فقرأته وقمت بالرد عليه، ومن يومها صارت هناك حركة أشبه بالعدائية بيننا، وحدثت مواقف سلبية بيني وبينه، ولاحقًا كنت في مكة فكتبت قصيدة بعنوان «هجو الليل»، وكنت أقصد الليل الحقيقي بدليل أنني جئت بصفات الليل، وهذه القصيدة منشورة في «صوت الحجاز»، فدخل بعض الدساسين بيني وبين حمزة، وقالوا له: إنه يقصدك أنت، لأنك يا حمزة تكتب مقالات وتوقعها ب» هول الليل»، فلماذا تسكت على ذلك؟!، فتأثر حمزة بهذا الموقف وكتب قصيدة يهجوني بها بعنوان «إلى أبولون»، حيث كنت أكتب باسم «أبولون»، فرددت عليه بقصيدة، ثم توالت الردود والقصائد بيني وبينه، وكلها موجودة ومنشورة، هذه هي قصتي مع حمزة شحاتة.

محمد رضا نصرالله: هل من الممكن أن نتوقف هنا عند مضمون هذه المعارك التي دارت بينك وبين الأستاذ العواد؟

عبدالقدوس الأنصاري: أكثر المعارك التي دارت بيننا تعود إلى شيء من سوء التفاهم، أو سوء فهمنا لبعضنا البعض، أو عدم التمعن والتوسع في أفكار الآخرين، كلٌ منّا كان يرى أن الطريقة التي يسلكها هي الطريقة المثلى، وأن ما عارضها هو شر الطرق.

محمد رضا نصرالله: مثل ماذا؟

عبدالقدوس الأنصاري: في المباحث الفكرية والأدبية، وفي الأفكار العامة، سأشرح لك مثالًا؛ الأدب في نشأته بدأ من طريقين، طريق المهجريين وطريق المصريين، الطريقة المصرية كانت تجمع بين العلم والأدب مثل ما أنتجه أحمد أمين وطه حسين وهيكل والمازني والعقاد والرافعي، كانوا يجمعون بين الأدب العصري الحديث والأدب الإسلامي القديم، أما المهجريون فكان دأبهم دائما أنهم يأخذون بالشيء الأحدث، ولا يلتفتون إلى شيء من الأدب الإسلامي أو العربي القديم، يريدون أن يقلبوا الدنيا رأسًا على عقب، فمن يقرأ كتب ميخائيل نعيمة أو جبران أو غيرهم، سيرى أنهم يريدون أن يقلبوا الدنيا العربية، ولا يعترفون بشيء مطلقًا من الأدب الإسلامي أو الأدب الحضاري العربي، كأنه يريد أن يقلب الأدب العربي كله إلى أدبٍ أمريكي، خالٍ من جميع التقاليد والمبادئ العربية القديمة.

محمد رضا نصرالله: لكن ربما اهتم الأستاذ العواد بالشكل الذي أضافه جبران والمهجريون للطريقة الأدبية المعاصرة.

عبدالقدوس الأنصاري: هذا الاختلاف في وجهات النظر هو الأساس، فمثلًا الإخوة في جدة ومكة أخذوا الطريقة المهجرية في أول نشأتهم الأدبية.

محمد رضا نصرالله: مثل من؟

عبدالقدوس الأنصاري: كلهم، لا أستثني أحدًا، وإذا نظرنا إلى كتاب «خواطر مصرحة» وكتاب «أدب الحجاز» وكتاب «المعرض» سنجد أن العبارات التي في هذه الكتب هي نفس العبارات الموجودة لدى ميخائيل نعيمة وجبران وإيليا أبو ماضي وغيرهم من المهجريين، أما الأدب الذي كان يسود في المدينة فقد كان مستقى من الأدب المصري الذي يجمع بين الأدب القديم في معانيه ومغازيه، وبين الأدب الحديث في مبادئه وتعاليمه.

محمد رضا نصرالله: ما هي مآخذكم على الأستاذ العواد في طرحه للقضايا التي نشرها في كتابه المعروف «خواطر مصرحة»؟

عبدالقدوس الأنصاري: لم تكن هناك مآخذ، فالأمر متعلق بالمنهج، المنهجان يختلفان، ولما اختلف المنهجان اختلفت الأفكار.

محمد رضا نصرالله: نقف عند تلك المحطة التي رأينا فيها الأستاذ العواد والأستاذ الانصاري يتعاركان في مسألة المنهج الذي طرح عبره الأستاذ العواد بعض القضايا الهامة والحساسة، في كتابه «خواطر مصرحة».

محمد حسن عواد: أعتقد أن الأستاذ الأنصاري لم يبدأ بشيء من هذا القبيل، ولكن أنا الذي بدأت، فهو لم يتعرض للقضايا التي طُرِحَت في «خواطر مصرحة»، ولكن أنا الذي بدأت بالهجوم، والسبب وراء ذلك هو أنه قد كتب قصة أسماها «التوأمان»، وقصة أخرى أسماها «مرهم التناسي»، وأنا قرأتهما ووجدت بهما أشياء فنية وفلسفية وفكرية ولغوية، وكنت أرى أنها يجب أن تكون أرقى من ذلك، فكتبت نقدًا وتم نشره، وقد أعيدت طباعته في كتاب «تأملات في الأدب والحياة»، فقامت قيامة الأستاذ عبدالقدوس الأنصاري، وما كان منه إلا أن بدأ حملة شعواء، واستعان ببعض تلاميذي في المدينة المنورة، وجاء بأسماء لم أكن أعرفها، فكانوا يكتبون أشياء ضدي، فجمعتهم جميعاً وكتبت ردًا عليهم في مقال واحد.

محمد رضا نصرالله: وبعد أن اقتربت المناهج يا أستاذ عبدالقدوس، لماذا اندلعت مرةً ثانية لتدخل مع الأستاذ حسين سرحان في معركة أخرى؟

عبدالقدوس الأنصاري: لم يكن هناك اندلاع، وإنما كانت خلافات بسيطة جداً انتهت بكل سلام.

محمد رضا نصرالله: حول ماذا كانت هذه الخلافات؟

عبدالقدوس الأنصاري: حول مسائل بسيطة متعلقة بفن اللغويات والأدبيات، ولم تكن بالأشياء المهمة أو تلك التي تنشر أو تذكر، هي خلافات خفيفة وانتهت بالتفاهم كما هو مدون في الجرائد عنها.

محمد رضا نصرالله: وما رأيك في الأستاذ حسين سرحان كناثر وشاعر أيضاً؟

عبدالقدوس الأنصاري: رجل جيد، لا يختلف عليه أحد.

محمد رضا نصرالله: ولكن يمكن أن نقف هنا فنقول إن الأستاذ حسين سرحان قد تأثر بالمازني مثلًا في أسلوبه الساخر.

عبدالقدوس الأنصاري: هذا يُسأل عنه الأستاذ حسين نفسه.

محمد رضا نصرالله: هل يمكننا هنا أن نقف ونقول إن الأستاذ حسين سرحان قد تأثر بالمازني كأديب ساخر؟

حسين سرحان: أنا كتبت عدة مقالات عن تأثري بالمازني، فهناك بيتان للمازني وهما: «أرى رونق الحسناء في ميعة الصبا.. فيوضع بي شؤم الخيال ويعنق / ويشهدنيها في التراب مرمة.. وقد غالها غول الحِمام الموفق!»، ستجد في هذين البيتين أبلغ السخرية الأدبية.

محمد رضا نصرالله: هل نقول إن السخرية هي موقف فكري أم موقف عاطفي؟

حسين سرحان: السخرية أنواع، هناك سخرية العطف والرحمة، وهناك سخرية استعلاء، والأولى هي الأقرب إلى قلبي.

محمد رضا نصرالله: هل هناك كتّاب آخرون تأثر بهم الأستاذ حسين سرحان؟

حسين سرحان: الكتّاب المعاصرون، ولكن المازني هو الأحب إلى قلبي، وقد قرأت أيضا للعقاد، وهو أعمق من الناحية الفكرية والتحليل، وكذلك أحمد زكي والرافعي والزيات ومحمد حسين هيكل.

محمد رضا نصرالله: مم تسخر في أدبك؟

حسين سرحان: من كل شيء يستحق السخرية.

محمد رضا نصرالله: هل هناك ظواهر اجتماعية معينة تسخر منها أو ترفضها؟

حسين سرحان: عندما تنظر إلى المسألة الاجتماعية على العموم، ستجد أنها بالكامل تستحق السخرية.

محمد رضا نصرالله: هل من الممكن أن نتحدث عن ظاهرة المعارك الأدبية؟ وما هو دورك فيها؟ ولماذا وُجِدَت أساسًا؟

حسين سرحان: نشأت عندما كان الأنصاري يكتب مثلاً كلمة، فأعترض عليها وأرد عليه، ومن ثمَّ يرد هو عليّ، وهكذا يستمر الأمر بين الأخذ والرد، وأصارحك بأن معظم معاركنا الأدبية إلا فيما ندر تكاد تكون بسيطة وشخصية، عندك مثلًا معارك الأنصاري والجاسر حول حرف «جيم جدة».

محمد رضا نصرالله: وماذا عن المعارك التي دارت بين الأستاذ العواد وخصومه الآخرين؟

حسين سرحان: أقوى معركة دارت كانت بين العواد وحمزة شحاتة، كان الرسول بينهما هو عبدالسلام الساسي، يأخذ من هذا ويؤدي إلى ذاك، ويأخذ من ذاك ويؤدي إلى هذا، وكانت المعارك بينهما تشبه ما بين الفرزدق والأخطل وجرير، كانت قصائدهما في نفس مستوى قصائد الفرزدق والأخطل وجرير.

محمد رضا نصرالله: لماذا لم تكن تمتاز هذه المعارك بطابع فكري، بحيث تكون هناك فئتان تتصارعان بين منهجين مختلفين؟

حسين سرحان: لأن أغلبها كانت معارك شخصية كما قلت لك، معارك نشأت بسبب استياء من هذا على ذاك أو لأن هذا يريد التفوق على ذاك، فلم يكن هناك هدف فكري محدد للتعارك حوله، وأشهر معركة أدبية كما قلت هي التي حدثت بين العواد وشحاتة.

محمد رضا نصرالله: لو وقفنا حول المعركة الشهيرة التي دارت بين الأستاذ عبدالقدوس الأنصاري والأستاذ حمد الجاسر، حول معركة «جيم جدة»، ما هو المبرر العلمي الذي يمكن أن يضاف على مثل هذه المعركة؟

محمد الشامخ: مما لا شك فيه أن لكلا الأستاذين فضله، وكلاهما أسهم إسهامًا جادًا وموضوعيًا في كتابة تاريخنا، وفي رعاية حياتنا الأدبية، وإسهامهما في هذا بلا شك سيظل خالدًا، كون أنه دار نقاش حول هذه القضية، فهذا قد يكون من الأشياء التي تعدّ امتدادًا لتلك الفترة، وامتدادًا لشيء مما كان يدور في الصحافة العربية من قبل، ولا أعتقد أن موضوعاً كهذا كان يستحق أن يُطال النقاش فيه، فالقضية قضية علمية، كل باحث يطرح رأيه ويدلي بأدلته ثم يترك الحكم للآخرين، كون أن النقاش تطور إلى ميدان آخر، رغم ما يُعرف عن الأستاذين الفاضلين من سعة في الصدر ورحابة في الأفق، إلا أنه دار مثل هذا النقاش الذي تعلمه، وأنا لا أتصور كيف طال هذا النقاش رغم سيطرة الناحية العلمية عليهما، وأنا أتصور أن مثل هذه المعارك والمناوشات التي تنشأ لا تزال صحافتنا مع الأسف تعمر بها، ويخيّل لي أن هذا ناتج إلى حدٍ ما عن رأي قد يكون غير متبلور عن فكرة الصحافة أو النواحي الفكرية، فنحن لا نزال نرى في صحافتنا كل يوم نقاشاً يدور بين كاتبين وتدخل الناحية الشخصية بالدرجة الأولى فيه، ويتقهقر عمل الفكر والجانب الموضوعي، وهذه ليست بعلامة صحة، وإنما دليل على أننا لا نزال في مكاننا ولا نتقدم. وأنا أتمنى الآن وقد عبرنا حوالي نصف قرن في مسيرتنا الأدبية الحديثة أن نتخلى إلى حد ما عن عملية النقد الهجومي الشخصي، صحيح أن هذا قد يعجب بعض القراء لأن فيه شيئاً من المنازلة وعودة إلى منازلة جرير والفرزدق، لكن هذه المعارك تحتاج إلى الموضوعية وإعمال العقل بتمكن وتفكر.

محمد رضا نصرالله: وعن المعركة الشهيرة التي دارت بينك وبين علامة الجزيرة، الأستاذ حمد الجاسر، على «جيم جدة»، هل من الممكن أن نتحدث طويلًا عن هذا الموضوع؟

عبدالقدوس الأنصاري: الكلام انتهى فيه بما تم نشره.

محمد رضا نصرالله: هل كان الرأي الأخير لك أم للأستاذ الجاسر؟

عبدالقدوس الأنصاري: القارئ يعرف الرأيين، رأيي ورأي الأستاذ الجاسر، ولا فائدة من تكرار الحديث، فمن المعروف أنني أرى أنها «جُدة»، وهذا رأي كل علماء العالم من القرن الأول الهجري إلى الآن، فكلمهم يكتبونها بضم الجيم.

محمد رضا نصرالله: إذن لماذا طالت المناقشة حول موضوع كهذا؟

عبدالقدوس الأنصاري: تُسأل الصحف عن هذا، فهي التي خلقت من الحَبة قُبّة.

محمد رضا نصرالله: وماذا عن حجج الأستاذ الجاسر حول هذا الموضوع؟، ولمَ لم تقتنع برأيه؟

عبدالقدوس الأنصاري: فأما حججه؛ فيُسأل عنها، وأما مدى اقتناعي بها فإن لدي رأيي الخاص، وهو مختلف عن رأيه.

محمد رضا نصرالله: وما رأيك في الأستاذ حمد الجاسر كمؤرخ وباحث؟

عبدالقدوس الأنصاري: هذا رأي خاص، وهو بعيد عن حديثنا الفكري الدائر حاليًا، ولا يمكن نشره أو إذاعته في التلفاز، وأنا ليس لدي تقييم لأحد.

محمد رضا نصرالله: لعل مجتمعنا الأدبي لا ينسى أن معركةً حادةً قد دارت بين علمين من أعلامنا، فإن موضوع هذه المعركة كان موضع استلفات لنظر الكثيرين، وذلك لأن الحوار الذي استمر حول «جيم جدة» كان طويلًا إلى درجة أن ملّ النقاش كثيرٌ من الجمهور، هل من الممكن أن نسترجع الماضي قليلًا، فنتحدث عن هذه المعركة؟، وتروي لنا دوافعها العلمية؟

حمد الجاسر: فيما يخص موضوع النقاش الذي دار بيني وبين أخي الجليل الدكتور عبدالقدوس الأنصاري، فإن كثيرًا من القراء في بلادنا لا يدركون الغاية المقصودة الصحيحة من النقد، فالنقد أولًا هو الوسيلة العظمى لإصلاح إنتاجنا الادبي، ولتحريك ركوده، ولإيجاد روافد جديدة وإيجاد وسائل تدفع الناقد والمنقود لكي يتعمقا فيما يريدان نقده أو ما ألّفاه، ومع الأسف الشديد فإن القراء في بلادنا وأقولها صريحة لم يبلغ بهم النضج الفكري حتى يتقبلوا النقد تقبلًا صحيحًا.. حقًا هناك نوعان من النقد، نوعٌ يصح أن نسميه تجنيًا أو إظهارًا لمقدرة من حاول تضعيف رأي منقوده، وهذا رأيٌ لا أعتقد أن واحدًا يعتبره من النقد الصحيح الذي يجب أن يكون رائجًا في أدبنا، ولكن هناك نقدٌ صحيح، وهو ألا أجهّل رأي الغير أو أن أحاول الاستعلاء أو أن أظهر للناس مقدرتي في هذا الأمر، فالنقد الحقيقي هو ما قُصِدَ منه الحفاظ التام على ما بين الناقد والمنقود من أواصر المحبة والإخوة، الغربيون في الحقيقة سبقونا إلى أشياء كثيرة وهذا أمر مدرك بالبداهة، ومن ذلك فهمه للنقد فهمًا صحيحًا، لا أريد أن أتحدث فأطيل في هذا المجال، ولكن سأذكر مثالين اثنين، منذ نحو 12 سنة نقدت عملًا قام به عالم ألماني مستشرق يدعى زلهايم، فقد نشر كتابًا في التراجم لابن اليغموري نشرةً علميةً دقيقةً صحيحة، ولكن العالم الغربي مهما بذل من الجهد فإنه ليس كالرجل المتعلم العربي، لما نشر زلهايم كتاب «نور القبس» لابن اليغموري، رأيت في عمله ما يستحق التوجيه والنقد، فكان أن كتبت مقالًا عن ذلك في إحدى مجلاتنا، كان هذا المقال سببًا لإيجاد صلة قوية بيني وبين هذا العالم الألماني، بمجرد ما طالع النقد كتب لي كتاب شكر، ثم استمر في كل مناسبة يكتب إليّ، وعندما يفد إلى بلدٍ وأنا فيها كان يحرص على أن يجتمع بي، مثالٌ آخر؛ كنت قبل 20 عامًا قد نشرت مقالًا في مجلة المجمع العلمي العربي بدمشق، هذا المقال في وصف مخطوط يدعى كتاب الجوهرتين في تعدين الذهب والفضة، ولعله الكتاب الوحيد الذي وصل إلينا من تراثنا في منظوره، ثم بعد مدة تلقيت من المجمع العلمي العربي بدمشق، الذي نشرت الوصف في مجلته، تلقيت الكتاب مطبوعًا ومعه كتاب من المجمع يقول فيه إنني سبق وأن تحدثت عن هذا الكتاب وقد قام بنشره عالم سويدي ونحن نرغب بأن نقرأ رأيك في عمله، طالعت الكتاب ورأيت الرجل قد درس الكتاب دراسة عميقة، وقد درسه لينال درجة الدكتوراة، ولذلك ترجمه إلى اللغة التي يتكلم بها، ثم نسخه بخط يده وطبع الكتاب مترجمًا باللغة العربية في صفحة وفي الصفحة الأخرى اللغة التي يسحنها ذلك المستشرق، والمستشرق هذا يدعى كريستوفر تول، من جامعة أوبسالا في السويد، ولما قرأت الكتاب رأيت فيه أشياء استرعت انتباهي، فكتبت عنها ونشرت ما كتبت في مجلة المجمع، وبعد نشر ذلك المقال بشهور وأنا في بيروت وجدت شابًا وسيمًا حسن الطلعة، طويل القامة، يدخل عليّ ومعه رجل آخر، ويسلّم عليّ سلام الحفاوة، ولما رأى استغرابي وإظهاري الجهل به، فقال: ألا تعرفني؟، فأجبته بالنفي، فقال: أنا كريستوفر تول، فقلت: هذا الاسم ليس غريبًا عني، ولكن زدني إيضاحًا، فقال: أنا الذي أحسنت إليّ فوجهتني بما كتبت من نقدٍ عن عملي، وأنا أتيتك شاكرًا.

محمد رضا نصرالله: لماذا نرى مستوى المعارك الأدبية يصل مؤخرًا إلى مستوى لا يخدم الحركة الأدبية وتحريك الفكر، كما رأينا ذلك في المعركة التي دارت بين الأستاذ الجاسر والأستاذ الانصاري، حول جيم جدة.

محمد حسن عواد: هل تعتبر أن الحوار بين الأنصاري والجاسر حول جيم جدة هي قضية فكرية؟!

محمد رضا نصرالله: أنا أسألك حول ذلك في الواقع، فأنا شخصيًا لا أستسيغ هذا الأمر ولا أعتقد أنه خدم الفكر في بلادنا.

محمد حسن عواد: وأنا معك في رأيك، وأستغرب أن الأستاذين الكبيرين الجاسر والأنصاري يصرفان الوقت الثمين والورق الثمين في كتابة أشياء تتعلق بحرف واحد من اللغة العربية، هل هي جِدة أم جُدة أم جَدة؟، ويضيعون زمنًا، ونحن في حاجة إلى أن نصرف هذا الزمن في أشياء أخرى أساسية وعميقة ومهمة، وأنا أرى أن مثل هذه الأشياء لا تملأ العين وأن الشخصيات التي تقوم بمثل هذه النقاشات لا تصنع لها مكانًا في النفوس.

محمد رضا نصرالله: ومع الأستاذ زيدان أيضا، كان لك معه موقف أخر.

محمد حسن عواد: نعم، ولكن الموضوع كان خفيفًا، هو أيضا كان يقحم نفسه في أشياء موجهة ضدي في الصحافة، فكتبت للرد عليه بما يتناسب مع الموقف.

محمد رضا نصرالله: وما رأيك في الأستاذ زيدان ككاتب له أسلوبه المميز؟

محمد حسن عواد: الأستاذ زيدان خطيب أكثر مما هو كاتب، ولست وحدي من يقول هذا الكلام، فهو رجل منابر ومحاضرات، ولكنه ككاتب فنان فإنه لا يصل إلى المستوى الخطابي الذي بلغه على المنابر، فهو متحدث لبق، خطيب منبر، محاضر، يرتجل المحاضرات والكلام، وهذه محمدة، ومنقبة من مناقبه، ولكن الكتابة بالقلم شيء أخر غير الخطابة والارتجال والتحدث.

محمد رضا نصرالله: نعرف أن هناك شبه صراع فكري بينك وبين الأستاذ محمد حسن عواد، وفي مرة قال بعض الكلام الذي ربما يزعجك، انطلاقاً من هذا الصراع.. هل من الممكن أن تتحدث لنا عن محمد حسن عواد؟

محمد حسين زيدان: ليس بيني وبين محمد حسن عواد صراع فكري، وإنما هو بدأ بصراع شخصي لم أحفل به، وتركت الأمر للزمن، فإذا بي الآن آخذ العفو، يقول تعالى «خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ»، لعل صلتي بحمزة شحاتة أنكرت منه بعضًا مما ينكره عليّ، ولكني أنا لم أكتب عنه بسوء ولم أتلفظ عنه بسوء، بل أنا أعيب على حمزة شحاتة قسوته على محمد حسن عواد.

محمد رضا نصرالله: هل يمكننا أن نتحدث هنا عن الصراعات الفكرية التي كانت متواترة بين فريقين؟

محمد حسين زيدان: أنا لا أريد أن أرتفع بهم إلى أن هناك صراعاً فكرياً، إنما هو صراع شخصي، فمحمد حسن عواد أنكر على حمزة أن يبرز في جدة هذا البروز، وأن يكون كأحد شبابها البارزين، لأن كثيرًا من الناس لا يعرفون أن حمزة مكيّ المولد والمنشأ، ولم يأت إلى جدة إلا في الأخير، ولكنه كبر في جدة وانتشر فيها فاستحوذ على الشباب، هذا من الحوافز التي جعلت عواد ينكر على حمزة ذلك، وحمزة سريع التحدي ومصارع، لأن حمزة ذو فكر يتمتع بعضل فكري كبير جداً، ولهذا كان الصراع شخصيًا وليس فكريًا، فتبادلا الشتائم والسباب، لذا فإنني لا أريد أن أرتفع بهما إلى أن هناك صراع فكري أبدًا.

محمد رضا نصرالله: ولكننا نرى أن في هذه التجربة التي كانت حجازية فيما قبل، نفس الصراعات الفكرية التي كانت موجودة مثلًا في القاهرة نرى آثارها هنا، فهناك من يكون عقادي وهناك من يكون طه حسيني مثلًا.

محمد حسين زيدان: هذه تبعية، هل اتبعوا فكر العقاد أم شخص العقاد؟!، اتبعوا شخصية العقاد وأعجبوا بأسلوبه، ولكن ما هو الخلاف الفكري بين طه حسين والعقاد؟، أنكر طه حسين الشعر الجاهلي فلم يتحرك العقاد أي حركة ضد طه حسين في هذا الميدان، فالصراع الفكري بينهما لم يكن موجودًا، وإنما هو صراع شخصي، حتى عندما كان طه حسين من ألسنة الأحرار الدستوريين، والعقاد من ألسنة الوفد، لم تكن هناك خصومة حادة بينهما.

* عنوان الحلقة على يوتيوب:

مقابلة الأنصاري والجاسر وزيدان وسرحان وضياء مع محمد رضا نصرالله عام 1979م معارك رواد الأدب السعودي

* مدة الحلقة: 58:24 دقيقة

* رابط الحلقة على يوتيوب: