آخر تحديث: 21 / 11 / 2024م - 9:35 م

تلقاء مكة.. تجليات مكة المكرمة في شعر محمد الثبيتي

ياسر آل غريب *

تؤثر عناصر المكان المتنوعة على وجدان الشاعر، فهو يضم داخله تكوينا هندسيا مؤثثا بألوان وأضواء وأصوات، مما يساهم في صيرورة الكتابة لديه وانتقالها إلى مديات أرحب. يرى غاستون باشلار في كتابه «جماليات المكان» أن ”الشاعرية المكانية  تتوجه من الألفة العميقة إلى المدى اللانهائي“ هكذا يتحول المكان إلى مكانة تترسخ عند الشاعر، وبقدر ما اكتسبه من الانتماء تفيض أعماقه تعبيرا عن وجوده.

مثلما اختزن الشاعر محمد الثبيتي الصحراء باتساع مضامينها الثقافية، حتى لقب ب «سيد البيد» كذلك نجده محتشدا برمزية «مكة» التي قدم إليها من قرية جنوب الطائف بعد طفولته المبكرة، وعاش ودرس فيها، حتى اضطرته الظروف الاقتصادية إلى أن يعمل في مقتبل شبابه مطوِّفا في الحرم يساعد ويرشد الحجاج والمعتمرين.

أسلوب الحياة الذي عاشه الثبيتي جعله يستحضر الرمز المكي كثيرا في نصوصه انطلاقا من الأجواء الروحانية التي اكتسبها، وإيمانا بأهمية الجذور التاريخية في تجربة الحداثة التي خاض غمارها في الثمانينات، حتى أصبح أحد أعمدة الشعر السعودي المعاصر، رغم كل الظروف التي أحاطت به.

تتجلى مكة شعريا عند الثبيتي، لا لتكون أوصافا خارجية مألوفة، بل تكون على شكل أيقونة مشحونة بدلالات الحياة المختلفة، وكأنها النقطة التي ينطلق منها:

1 - الانبعاث الجديد:

تعتبر قصيدة «بوابة الريح» أشهر قصائد الثبيتي، وعلى رغم قصرها، فهي تتكون من 12 بيتا إلا أنها صورت رحلته الإنسانية التي تؤمن بالفتوحات الجديدة حيث الذات التي تنتفض على الظلام والسكون، لتقدم مشروعها المتمثل في «آية الروح» بما تحويه من قداسة الوجود:

مَضَى شراعي بما لا تشتهي ريحي
وفاتني الفجرُ؛ إذ طالتْ تراويحي

أَبْحَرْتُ تَهوِي إلى الأعماقِ قَافِيَتِي
ويَرْتقِي في حِبالِ الرِّيحِ تَسْبِيحِي

مُزمَّلٌ فِي ثِيَابِ النُّورِ مُنْتَبِذٌ
تِلْقَاءَ مَكَّةَ أَتْلُو آيَةَ الرُّوحِ

2 - الطقس:

في قصيدة «الرقية المكية» تتم كتابة الطقس ضمن الاشتغال على استدعاء الموروث الديني، فالثبيتي يتقمص دور الراقي الشرعي، وكأنه بهذه التعويذة يطرد الشرور والأذى، وهو بهذا العمل يقوم بنفض الغبار عن صورته الأولى، حيث يتوحد الزمان مع المكان في حالة شعرية لتنهل الروح من المعين المقدس:

صَبَّحْتُها
والخيرُ في أسمائها
مسَّيتُهَا
والنورُ ملءُ سمائهَا
حَيَّيتُهَا
بجلالِهَا
وكمالِهَا
وبِمِيمِهَا وبِكَافِهَا وبِهَائِهَا

3 - الوجود:

حالة القلق المعرفي التي يعيشها الثبيتي جعلته يكتب قصيدة «الأسئلة» طارحا فيها استفسارته الكونية عن موقعه في خارطة الحياة. إنها حيرة الشاعر الواقع بين نارين، وبرغم المنعطفات الفكرية التي عبرها بجسارة نجده مشدودا إلى جهة التأصيل حيث يستحضر سورة «البلد» مولدا طاقة الإيحاء عبر هذا الاقتباس القرآني الذي يكشف العلاقة الوجودية بين الإنسان والمكان:

قُلْ لِلَيلى تَجِيءُ صباح الأحدْ
إنَّها تقِفَ الآنَ بين الزُّلالِ وبينَ الزَّبدْ
قُلْ لَهَا: ظاهرُ الماءِ ملحٌ وباطنهُ من زبدْ
قل لهَا: أنتَ حِلٌّ بِهذا البلدْ

إن فروسية الإبداع جعلت الثبيتي يكتب نافرة الحروف ببطن مكة - كما عبر ذات قصيدة - كما أخذ كبرياءه من الجبل الحجازي واستعار أورداه من غار حراء. كل ذلك كان بمثابة الإكسير المتوهج الذي يهب الحب والحياة. وبهذا التوجه الفطري / المكاني استطاع شاعر «التضاريس» أن يأخذ موقعه بين الأصالة والحداثة.