العنصرية في عيد المتنبي!
على شهرتها، فإن قصيدة المتنبي العظيم «عيدٌ بأي حالٍ عُدتَ يا عيدُ» كانت تحمل مضامين عنصرية بامتياز! رغم الرقي الجمالي في شعر المتنبي وامتزاجه بالحكمة والتجربة، مع مضامين إنسانية وجمالية، وصياغة سهلة وبليغة... إلا أنه في هذه القصيدة، كما في بعض القصائد في مرحلة الخلاف مع كافور الإخشيدي، خرج المتنبي عن رصانته ورزانته المعتادة.
لا يهم الخلاف السياسي بين المثقف والسلطة. ولا يهم أن يكون طموح المثقف: قفزاً إلى المجهول أو قبضة من هواء. فالسلطة تختار رجالها، مهما استخدمت حناجرهم أو أقلامهم!... والمتنبي الذي تنقل بين بلاط السلطة في الشام ومصر والعراق وخبر نوازعها ورغباتها؛ خانه الوعي وفاتته البصيرة، حين بنى لنفسه قصراً من الوهم؛ كان يريد أن يشارك في السلطة، لا أن يصبح مجرد صوتٍ... ولم يرضَ أن يكون موظفاً أو تابعاً... لا شيء يقتل المثقف أكثر من أحلامه وطموحاته!
هرب المتنبي من السلطة في حلب إلى السلطة في مصر، وارتمى في حضن كافور الإخشيدي، ومدحه أيما مديح، ومنها قصيدته:
كَفى بِكَ داءً أَن تَرى المَوتَ شافِيا/ وَحَسبُ المَنايا أَن يَكُن أَمانِيا
التي يخاطب فيها كافور:
أَبا المِسكِ ذا الوَجهُ الذي كُنتُ تائِقاً/ إِلَيهِ وَذا اليَومُ الذي كُنتُ راجيا
أَبا كُل طيبٍ لا أَبا المِسكِ وَحدَهُ/ وَكُل سَحابٍ لا أَخَص الغَواديا
يَدِل بِمَعنى واحِدٍ كُل فاخِرٍ/ وَقَد جَمَعَ الرَحمَنُ فيكَ المَعانِيا
إِذا كَسَبَ الناسُ المَعالِي بِالنَدى/ فَإِنكَ تُعطي في نَداكَ المَعالِيا
إلى أن يفضح رغباته في هذا البيت:
وَغَيرُ كَثيرٍ أَن يَزورَكَ راجلٌ/ فَيَرجِعَ مَلكاً لِلعِراقَينِ والِيا
لكن المتنبي انقلب على كافور، حين آيس من حصوله على منصب وسلطة... فغادر مصر يهجو حاكمها بأقذع العبارات وأشد الألفاظ، وأكثرها عفونة وعنصرية، لا يهم أن يسلب الشاعر من ولي نعمته السابق كل المكارم التي أسبغها عليه، أو أن يحط من قدره بعبارات الهجاء، لكن المتنبي بالغ في تعيير كافور بلون بشرته الأسود، وأصله كعبد مملوك سابق، هنا تعدى الخطاب حالة الخصومة السياسية، ليتحول إلى خطاب ثقافي عابر للزمان، مشحون بالكراهية العنصرية، وهذه كانت أسوأ ما صدره المتنبي للوعي الثقافي العربي، في قصيدته الشهيرة «عيد بأي حال عدت يا عيد» يقول:
أكُلَمَا اغْتَالَ عَبْدُ السُوءِ سيدهُ/ أو خانه فله في مصر تمهيد
صار الخصي إمام الآبقين بها/ فالحر مستعبد والعبد معبود
نامت نواطير مصر عن ثعالبها/ فقد بشمن وما تفنى العناقيد
العَبْدُ لَيْسَ لِحُر صَالِحٍ بأخٍ/ لَوْ أنهُ في ثِيَابِ الحُر مَوْلُودُ
لا تَشْتَرِ العَبْدَ إلا وَالعَصَا مَعَهُ/ إن العَبيدَ لأنْجَاسٌ مَنَاكيد
ما كُنتُ أحْسَبُني أحْيَا إلى زَمَنٍ/ يُسِيءُ بي فيهِ عَبْدٌ وَهْوَ مَحْمُودُ
ولا تَوَهمْتُ أن الناسَ قَدْ فُقِدوا/ وَأن مِثْلَ أبي البَيْضاءِ مَوْجودُ
وَأن ذا الأسْوَدَ المَثْقُوبَ مَشْفَرُهُ/ تُطيعُهُ ذي العَضَاريطُ الرعاديد
مَنْ عَلمَ الأسْوَدَ المَخصِي مكرُمَة/ أقَوْمُهُ البِيضُ أمْ آبَاؤهُ الصيدُ
أمْ أُذْنُهُ في يَدِ النَخاسِ دامِيَة أمْ/ قَدْرُهُ وَهْوَ بالفِلْسَينِ مَرْدودُ
أوْلى اللئَامِ كُوَيْفِيرٌ بمَعْذِرَة في/ كل لُؤمٍ، وَبَعضُ العُذرِ تَفنيدُ
ويقول في كافور:
وَإنكَ لا تَدْري ألَوْنُكَ أسْوَدٌ من/ الجهلِ أمْ قد صارَ أبيضَ صافِيَا
وَيُذْكِرُني تَخييطُ كَعبِكَ شَقهُ/ وَمَشيَكَ في ثَوْبٍ مِنَ الزيتِ عارِيَا
فإنْ كُنتَ لا خَيراً أفَدْتَ فإنني/ أفَدْتُ بلَحظي مِشفَرَيكَ المَلاهِيَا
وَمِثْلُكَ يُؤتَى مِنْ بِلادٍ بَعيدَة/ ليُضْحِكَ رَباتِ الحِدادِ البَوَاكِيَا
لم يخترع المتنبي العنصرية، هو فقط استخدمها وأعطاها طاقة للاستمرار والتجدد، ومنحها بشعره العبقري عافية وخلوداً... فالعنصرية ليست طارئة في التراث العربي، هي مستحكمة في النفوس وفي الوجدان. فرغم فروسيته وبسالته عانى عنترة بن شداد من التمييز العنصري، وذلك قبل عصر المتنبي بثلاثمائة سنة...
يعيبون لوني بالسواد وإنما/ فِعَالهم بالخبث أسود من جلدي
لئن أكُ أسودا فالمسك لوني/ وما لسواد جلدي من دواء
ولكن تبعد الفحشاء عني/ كبعد الأرض عن جو السماء
ينادونني في السلم يا ابن زبيبة/ وعند صدام الخيل يا ابن الأطايب