علي الدميني: «واستوينا على بياض الجراحِ»
«غسل الدهر حزننا بالأقاحي
واستوينا على بياض الجراح
ومهيض الجناح ما زال يقضان
حتى أتاه القطى بجناح
لا النهيرات جفت بكاء
ولا البحر أرخى الهوى للرياح».
محفوفاً بقلوب محبيه، الذين زرعهم في سماء مشعة بالنجوم، أو في حقولٍ مزهرةٍ بالوفاء، يرقد الشاعر السعودي علي الدميني، على السرير الأبيض، يخوض واحدة من معاركه للانتصار على الألم والحزن والانكسار...
منذ خمسين عاماً وعلي الدميني، يستل من شقاء الدهور «بياض الأزمنة»، يحمل نعش القصيدة؛ أرِقاً قلقاً، باحثاً عن مسارات جمالية شعرية جديدة، تروي ظمأه في الطريق الطويلة نحو غدٍ أجملَ: «وحدي بلا أرقٍ يؤانسني، بدون يدٍ تدل فمي على الذكرى وتسأل عن مكاني».
مثّل الدميني «حالة استثنائية» في المشهد الثقافي السعودي. فهو ليس مجرد حالة أدبية ساهمت بفاعلية في تأسيس الحركة الشعرية الحديثة في المملكة، وإنما عنوان بارز في مشروع الحداثة الثقافية والفكرية والاجتماعية الذي وجد رواداً ينافحون من أجله ويحملون شعلته. منذ هل الدميني من قرية المحضرة في ريف الباحة الجنوبي المفعم بالتلوينات المُلْهِمة، إلى الظهران على ساحل الخليج العربي في عام 1968، وهو يمثل حالة إبداعية فريدة من نوعها، حول القصيدة، والكلمة المكتوبة، إلى مدماك ثقافي يرسم مسارات نحو المستقبل.
وبدت القصيدة وقتها - كما يقول: «كفاعلية ممكنة لاختراق السائد وإعلان التساؤل حول كمال المنجز، وفتح الأبواب العلنية لتأسيس ذائقة جديدة تؤدي دور المفاعيل الثقافية والاجتماعية الأخرى الغائبة».
امتزجت شعرية الدميني بالوعي: وعي اللحظة الشعورية، ووعي الزمان الذي يتشكل سريعاً، ووعي المكان الذي تسري فيه عجلة التحديث والتطوير والنمو مع اتساع دائرة التعليم والمعرفة.
لم تكن المعركة بين الحداثيين وخصومهم محصورة باجتراحهم لقصيدة النثر أو التفعيلة، كانت قوالب الشعر الحديثة مجرد واجهة للانفتاح على العالم والانعتاق من الثقافة السائدة. وكان الدميني ينحاز للشعر المنتمي للحداثة «بقدر انحياز رؤيته إلى العقلانية، والحرية، وقيم العدالة الاجتماعية، والمساواة، والانتصار للتقدم والرفع من مكانة المرأة».
خاض معارك الحداثة، في وجه دولاب التشدد، ويقول لي ذات حوار: «أؤكد أن مشروع الحداثة الأدبية والفنية في بلادنا قد تغلب على كل العنف المضاد له من كافة الجهات»، ورغم أن تلك المعارك أدمت أصحابها، إلا أنه ينظر بوعي ثاقب إلى أن المعركة لم تنجز بعد، يحدثني قائلاً: «مشوار الحداثة في الأدب والشعر في بلادنا تحديداً لا يمكن له أن ينجز مشروعه الحداثي الحلمي إلا حين تتكامل للمجتمع كل مقومات تبني قيم وآليات تحقيق زمن الحداثة، في أبعادها الحياتية المختلفة».
يتحدث عن تجربته قائلاً: «إذا أتينا إلى حقل الشعر تحديداً، فإنني أعد نفسي غصناً في شجرة التجديد والرنو إلى الحرية والحداثة في العالم كله، مثلما أراني في بلادنا واحداً ممن مضوا في هذا الدرب الطويل، الذي امتد من العواد إلى حسن القرشي وغازي القصيبي إلى محمد العلي، وجيلي الذي أنتمي له».
«ما تبقى من العمر إلا الكثيرْ.
فماذا أسمي البياض الذي يتعقبني
غازياً أم أسيرا؟
قم من الليل، يا لابس الخيل كيما ترى
أفقاً
ناسكاً ونهاراً طهورا
إن قلبي ينوس وحيداً وقد فارقته البواكير
واستخلفته الأساطير
ينزف ماء الزمان على الساعة الجامدة
واحدة:
كانت السنوات تعب العشيات حتى شربنا
على ظمأٍ جمر ذاك الضباب العفيف.
واحدة:
صارت السنوات تغرد في متن غربتها
وتبيح لنا من يباس سفينتها بيرقاً،
وتدندن ساعاتها
في الفناء الرهيف،
ما تبقى من العمر إلا يسير يقود يسيرا
قد خبرت المدينة. … أبراجها واحداً واحدا.
افترشت حصاني على بابها حينما لم أزل
نطفة في الأزل
وتخيرت أجمل أسمائها
من هديل الحروف
ومس القبل».
* من قصيدة «الهوادج» لعلي الدميني