في النقد البيئي.. القطيف أنموذجا
يهتم النقد البيئي بدراسة العلاقة الحيوية بين الإنسان ومحيطه، ويعتني بتمثلات الطبيعة في الأدب. وإن ظهر هذا المصطلح في أواخر سبعينات القرن العشرين على يد «ويليام روكيرت» إلا أن الذائقة العربية اكتشفت تجلياته في مطالع المعلقات الجاهلية عند امرئ القيس وعنترة وطرفة بن العبد في وقفاتهم الوجودية عند الأطلال التي تمثل لهم بقية الحياة.
لا يقف النقد البيئي عند الأوصاف الخارجية للأمكنة، بل يتعداها إلى البواطن والمكامن؛ ليكشف الأنساق المضمرة في تعبير العمل الأدبي عن الأرض وما تعنيه في الشعر والرواية والمسرحية وغيرها من الفنون، وتمتد التفاصيل إلى سبر أعماق العلاقات التي تربط بين الإنسان والحيوانات والمزروعات، إضافة إلى رصده لتسرب عناصر الطبيعة: الأرض، الماء، الهواء، النار في الكتابة نفسها، وما تفجره من دلالات مختلفة.
ربما يعبّر الشاعر عن الكون بأكمله مخترقا كل الهويات، وربما يعبّر عن قارته كما فعل محمد الفيتوري الذي لم تخلُ أسماء دواوينه من كلمة «أفريقيا»، وفي بعض الحالات تجد الشاعر مشدودا لدولته كالجواهري في العراق وعبدالله البردوني في اليمن وأمل دنقل في مصر،... وقد نجد شغفا بمنطقة معينة كالحضور اللافت للقطيف عند شعرائها والمتفاعلين معها قديما وحديثا.
في هذه المساحة القرائية أقف مع نماذج الارتباط بهذه الواحة المطلة على ساحل الخليج التي جمعت البحر والريف والبر في لوحة تشكيلية واحدة:
الشاعر عبدالله ابن الشيخ علي الجشي «1926 - 2008 م» في ديوانه «الحب للأرض والإنسان» اشتغل على تقديم صورة ثقافية للقطيف وكأنها مشروعه الشعري الخاص، في قصيدته «الضفاف الخضراء» ينتقل من وصف الطبيعة: البحر، الينابيع، الخمائل، القرى إلى الوجه الحضاري للمنطقة في الإسلام ومبادرتها إليه وتمثلها لقيمه ومبادئه، وبعد تتبع لأدوراها التاريخية يصل إلى لحظة تكون فيه القطيف سجلا حافلا بالامجاد:
يا ضفاف «الخط» يا وهج السنا
يا منار الفكر إمّا كلحا
لغةُ العُرْب الحضارية كم
وجدتْ فيكِ الملاذَ الافصحا
نضحت بالفكر حتى ازدهرت
زمنا كانت به قطب الرحى
يا ضفافَ «الخط» كم من زمن
في خليج العُرْبِ كنتِ الأرجحا
كنتِ بالأمس له جامعةً
زخرت بالعلم حتى طفحا
إن هذا التذكر للماضي العريق وإن كان عنوانه الفخر إلا أنه يخفي في ثناياه لحظات الأسف على ضياع هذه الثروة الإنسانية الكبرى التي تبددت بفعل التحولات المختلفة، إلى أن يقول بنبرة حزينة:
هكذا يكتئب العقل إذا
لم يجد دون الأسى منتدحا
البدايات التي تفرحنا
لم نجد فيها ختاما مفرحا
السيد عدنان العوامي «1938 م» هو الأخر مشغوف بالقطيف، وديواناه «شاطئ اليباب» و«ينابيع الظمأ» شاهدان على ذلك بتنوعهما الثري في حب الأرض. وهاهو يقدم لنا صورة شخصية لذاته الشعرية المكونة من عناصرها:
هذا أنا من نجيل السِّيف أنسجتي
وفي ضروع الدوالي موثق بدني
ومن ينابيع أرضي عنفوان دمي
ومن سنا شمسها مستحلب لبني
ومن رفيف شذا ليمونها نفسي
ومن يماماتها الفصحى صدى لسني
بيتي المخبأ في أزهى خمائله
مازال - رغم ضنى أيامه - سكني
إن هذه الصورة المركبة تدل على بناء الذات، فكل جزء من الأرض ساهم في صياغة الشاعر إلى أن يصل إلى الكينونة الخاصة به، فلم تغره مدن القصدير ولا غابات الأسمنت، وليس غريبا عليه فهو يؤمن بالاكتفاء الذاتي عندما قال سابقا متوحدا مع طبيعة بلده:
مدِّى أناملك الخضراءَ واقتربي
فما عليَّ أضاق الدرب ام رحبا
إذا حظيتُ بطيف من سنا وطني
فلياخذ الدهرُ ما أعطى وما وهبا
كما عبَّر الشاعر جاسم الصحيح «1964م» عن مسقط رأسه الأحساء كثيرا، لم ينس توأمها القطيف، فقد نظر إليها نظرة شاملة شغوفا بالتنوع الحيوي فيها منذ التقاء البحر بالشاطئ في لحظة التشكل الأولى..
منذ التقى هذا البحر والسيفُ
والموجُ يهتف للرمال: قطيفُ
وقطيفُ من بوحِ المياهِ قصيدةٌ
لا النظمُ يبلغها ولا التأليفُ
إننا أمام بانوراما شعرية في وصف البيئة التي تمتد حدودها من سيهات إلى صفوى، وتذهب إلى أعماق التاريخ حيث أرض القلعة التي شبهها بالاميرة وحضارة تاروت وعبق دارين، هذه القصيدة كما تناولت الجانب البيئي المادي فهي لم تغفل عن الجانب المعنوي المتمثل في علاقة القطيف بالإمام الحسين الذي يغذيها من صوته التاريخي المتمدد حتى اللحظة المعاصرة.
إن النقد البيئي يكشف كاريزما المكان، وكيف يتشكل وعي الإنسان بمحيطه، وكيف يؤثر العرق والطبقة والجنس في تكوين هوياتنا. ولا يقف عند هذا الحد فهو يتتبع الآثار النفسية عند الإنسان بعد سقوط نخلة أو ردم بحر مثلا.
إن البيئة حاضنة المواهب ومستودع الطاقات؛ فلهذا قال محمود درويش: على هذه الأرض ما يستحق الحياة.