الكحلاوي بين التمرد والعشق
منذ فترةٍ ليست بالقصيرة التقيتهُ صديقًا يقرضُ الشعرَ، ويضيفُ اسمه إلى قائمة الشعراء الطويلة الممتدة إليه؛ يضيفُه عن اقتناعٍ منه بأنه آخر شعراء العصر وآخر الحاملين لراية الضاد ولُعبة الأشباه والأضداد..
يرى نفسه متميزًا عن الكثير من أبناء عصره..صنع لنفسه هالةً من الشاعرية واصطنع له تاريخًا فصّله تفصيلًا.. وحقيقة الأمر أنك إن أنصفته في هذا الشأن وجدته قد اجتاز طريقًا غير ممهد.. وتحمّل في سبيل كلماتِه مرارات كثيرة..وداس عقباتٍ وإحباطات وواجه انتقاداتٍ واستل كلماتِه من بين أشواكِ الغارزين لها فاستلّها ناصعةً لامعة دونَ خدش..
هل تتخيل شابًا يقفُ وسط أبناء بلدته الخلابةِ حقولُها بين جدران بيوتها العتيقة قائلًا لهم بكل جرأة وثقة: أنا آخر الشعراء في زمانكم؟!!
شوقي لا يستحق أن يكون أميرًا للشعراء؟!
نشأ على ضفاف شقٍ لنيل مصر العظيم، ارتوى بمائه واستظل بظل شجره الوارف..وصاغ من زهرات شجيراته أولى أبياته، وخرج حاملًا لها وخرج بها إلى قاهرة المعز ليصطدم بأولى عقباته الوئيدة، فيتخطاها عقبة عقبة ويتحمل تبعاتها في قوة وصبر وثقة في شاعريته وتفردها..
كان أن سبق هذه المرحلة مرحلة المراهقة وتعنت شباب الشعراء من أبناء محافظته القليوبية ضده..ومحاولاتهم ثنيه عن طريقهم؛ رأوه بطموحه وجَرأته قادرًا أن ينال منهم بسهولة وأن يحوز سَبقًا عنهم طالما لهثوا هم وراءه بكل قوة وما نالوا معشاره..فرق كبير بين أن تكون ذا موهبة غير محظوظ..وأن تكون محظوظ بلا موهبة.. والأقدمون قالوا ”قيراط حظ ولا فدان شطارة“ اعترافًا منهم بأن الحظ وما يستتبعه من أمارات كالواسطة والمحسوبية والنفوذ وفتنة الجمال وفعل نون النسوة في الرجال أشدُ قدرةً على عتق رقاب الفتى من براثن واقعه المرير من موهبةٍ بلا حظ.
سيظل أشد ما لفت انتباهي في شخصيته هذا الدَأبُ المستمر للحذو حذوَ الشعراء من قبله واكتساب صفاتهم تلك الصفات التي التقطها ممن عاشرهم وعرفهم من شعراء أو مبدعين في حياته أو ممن قرأ عنهم.
منذ البدايات حرص أن يبدأ في تسطير سيرته الذاتية، فحين أراد أبوه أن يُلحقه بكلية التربية ليتخرج فيها مدرسًا يكفي أباه عناء مستقبله ويضمن لنفسه وظيفةً وراتبًا شهريًا شأنه في ذلك شأن ثلة من أبناء مصر في تلك الفترة، أمّا هو وكما أخبرني فقد وجد أن أقرب كلية تتناسب مع ما سيكتبه في سيرته الذاتية يومًا ما هي كلية الآداب..وهكذا ألحق أوراقة بكلية الآداب..
ثمّ شَرب القهوة، كل المثقفين يشربون القهوة، لكنّه شربها بحب وصنع بينه وبينها صداقة وعِشرة، تراه وهو يحتسي قطراتها كأنها محبوبته لا قهوته؛ لا يحتسيها بل يتذوقها يتشربها لا يشربها.
فهي عنده الخمر الحلال والنبيذ الذي لا يُسكِر.
أحلامه مرتبة.. لكن أفكاره غير مرتبة تتصارع في ذهنه أكثر من فكرة في ذات الوقت.
حرصه على التقاط الصور وهو ينظر إلى عين الكاميرا لا إلى من معه في الصورة يراه دليل تميزه، انشغاله عنك أوقات كثيرة وحبه للمشي وأن يطوف الطرقات كدرويش عاشق يستجمع أبياته من الأوجه والحكايات والأزقة..
فإذا ما عاتبت عليه غيابه عنك؛ تأسف منك بسبب سطوة عفرية الشعر عليه بجنونها وضعف سيطرته عليها..
دائمًا ما يردد على مسامعي بأنّ خوفه من الله هو ما يمنعه من قول أبيات وقصائد كثيرة يتحرج فيها من ذكر مفاتن المرأة أو أن يعرجَ إلى الحديث عن الأحضانِ أو القبلات أو ذكر حتى كلمة كالشفاةِ مثلًا..
فلن تجدَ في شِعْره أبدًا لفظةَ «شفتاكِ».. فضلًا عن ذِكر كلماتٍ أخرى يخشى أن تُسجل عليه ولا يرضاها أن تُقرأ في ديونه حرجًا منها وصونًا لكرامة الكلمة والتاريخ.
للقارئ العزيز أن يعلم الآن عمن نتحدث هو الشاعر مصطفى الكحلاوي..ولقب الشاعر استحقه حقًا لا جدال في ذلك..لكن من حقنا كقارئين لشِعره مهتمين بمستقبل لغتنا العربية أن نقول ما يلي:
الكحلاوي حريص على الكتابة باللغة الفصحى البسيطة السلسة بلا تعاقيد في إسلوبها أو كلماتها..أراد النفاذ مباشرة إلى أوسع طبقة من طبقات المجتمع..وهي الطبقة التي زهدت القراءة منذ وقت، آخر من قرأت له كان دواوين نزار قباني وبعض أبيات عبد الرحمن الأبنودي وكتابات أحمد خالد توفيق، وهو كموهبة لا يقل عن أحدٍ منهم تتجسد عنده العاطفة بشموخ أحيانًا وانكسار للأنثى أحيانًا أخرى، متقلب المزاج في عشقه للمرأة يراها غريمه في الحياة تحاول دائمًا أن تكسر شموخه وكرامته فينهال عليها لعنًا وطردًا من عالمه فخاطبها في ذلك قائلًا: «ليس سهلًا أن تكوني.. في حياتي أو سطوري..فكثيرًا قد أحبوني..وماتوا في سجوني..» ويقول لها: «لا تنتظريني فلن أرجع..قد عشت حياتي ولن أخضع» المرأة عنده صراع بين رغبته في امتلاكها..وخشيته من ألاعيبها ونكرانها.. وقد يحملها أيضًا آثام وطنه فتشعر حين يحادثها بذلك أن خطابه ليس لامرأة أحبها بل لوطن أحبه وعاني منه الكثير، كما يقول: أحببتك حقًا لكني لن أقبل يومًا أن أركع» كأني أراه رافضًا في هذا البيت وطنه لا مجرد إمرأة تحاول أن تستدرجه لأحضانها من جديد..بعد أن خرج من تحت إبطيها محترقًا متعرقا، وحين خاطبها قائلًا: كانت عيونك الوطن وكنت مُرغمًا على السفر» لخص في هذا البيت مأساته مع بلده ومأساة جيل كامل ربما منهم من أُرغم حتى أن يلقي بنفسه داخل أحضان بحر بارد متلاطم الأمواج بعدما خانه دفءُ الوطن «قد خانني دفءُ الوطن..» وهي من أجمل جمله وتعبيراته حقيقةً في ديوانه.. وإنني كلما قرأت قصيدة له ورأيته يخاطب فيها وطنه في صورة محبوبته رأيتُ العاطفة تبلغ الذروة وقوة اللفظ يلتحف بحرقة الغربة فينتج أبياتًا عذبة قوية كهدر شلال مثلما يقول في قصيدته بعنوان”غربة وحنين“
«فيا أحلى من الذهب
ويا أغلى من الماس
إليك القلب يستبقُ
فمن لي حين ألقاكِ وأرتحلُ؟
يشيبُ القلب من حزني ويختنقُ»
وأما قصائده البحتة عن المرأة فتتضعف العاطفة كثيرًا مقارنةً بقصائده الأخرى في الديوان ذاته فهو حين يخلط بين وطنه ومحبوبته تشتعل عاطفته، وإذا ما تحدّث عن وطنه حديثًا مباشرًا انفجرت عاطفته كبركان ولك أن تراجع قصائده ”السباق“ فترى فيها كل ما يجب أن يقال في الشعر من عاطفة قوية موسيقى جزلة جمل سريعة قوية قصيرة قافية ساكنة مؤلمة مختنقة متماشية مع حالته الشعورية، المعاني الصريحة الواضحة المليئة بالحزن على ما فاته من حظ عثر في وطنه القاسي عليه، وما لاقاه من ترحاب في أرض بعيدة في غير أُنس الأهل والأبناء فجاءت قصيدته تلك تحفة وعمود خيمة ديوانه وبديعة من بدائعه وكذلك قصيدته ”أنتِ الوطن“ ففيها يُعرضُ بتجربته الجديدة في الأرض البعيدة عن محبوبته والتي لن تغنيه عن وطنه أبدًا «أبحثُ في عينيكِ عن وطن عن أمنيات لم تكن عن ملجأ عن سكن»
وهذا دور الصدق عند الشاعر والمعاناة الحقة اللتان تنتجان أعمالًا فنية مميزه، والصدق يظهر ليس للقارئ العابر الغير عارف بشاعره بل يظهر حين تقرأ القصيدة وتفهم دوافع الشاعر في كتابتها أو ما يمكن أن نسميه مناسبة القصيدة. ولك أيضًا أن تراجع معي قصيدته العظيمة بحق ”ما تبقى من العرب" وكذلك قصيدته ”مرثية للبطولة العربية“ فهو في هاتين القصيدتين يتحدث بلا مواربة ويبث فيهما حِنقه على ما تعرض له من احباطات في عالمه وما يشاهده من انكسارات تدمي كرامتنا العربية والشاعر ابن بيئته فجاءت تعبيراته في هاتين القصيدتين تحملان إبداعًا وروعة من روائع شعره فانظر له حين يصرخ «قديما كنت مختالًا بتاريخي وهيجائي..
«أردد من شذا لغتي من الألف إلى الباءِ
وأفخر أنني عربي وأعشق رمل صحرائي
إلى أن يصل إلى..”نسينا ثوبنا العربي لبسنا ثوب حرباء»
وليست كل قصائده عن المرأة تشعر فيها قلة العاطفة فهو حين يحرر ذهنه من سطوة الشموخ ضد المرأة ويترك شراع كلماته يهيم في بحرها كيف شاء، ويتخلى قليلا عن كذبه في الاستغناء عنها ينتج لنا روائع مثل قصيدته «أنتِ جميع النساء» خاطب فيها المحبوبة المخلصة تلك الصورة التي تمناها قلبه فغاص في حلمه ورآها شاخصة أمامه كما تمناها فأنتج لها قصيدته تلك بكل ما فيها من جمال وروعة الألفاظ حين يقول مثلًا ”أجيءُ إليكِ كطفلٍ يعانقُ وجه السماء..“
والزهو عنده واضح جَلي في معظم أبياته وحتى في تقييمه للإبداعات من حوله فالزهو دفَعَه إلى أن يلغي إبداعات كثير من شعراء العامية ويعطيهم درجة أقل في تقدير أبياتهم..وحقيقة أنا لا أؤيده في هذا الأمر فالشعر كلام موزون حسنه حسن وقبيحه قبيح..فإذا ما صغتَ أبياته بالفصحى أو العامية ولم تخرجْ من أُطر الوزن والموسيقى فهو شعر.
استهجنَ بشدة ولع الناس بهشام الجخ وعاب شعر الأبنودي واستحقر بعض كتابات لكُتاب آخرين..حقه بلا شك..لكنّ معياره في ذلك غير منصف..المعيار الحقيقي لابد أن ينبع من قياس الأدبية والموهبة فيما يكتب الكاتب لا أن نقيس الكاتب لمجرد اختلاف وجهة نظر أو أسلوب.
شعر الكحلاوي رغم ذلك لم يدوخنا في بطون الكلمات العربية العتيقة الصلبة وأنا معه في ذلك فلابد أن تحترم استيعاب مستمعيك وقارئيك.. لكن الكحلاوي ينأىٰ عن استعمال كلمة غير مألوفة ليس عن ضعف بالتأكيد ولكن عن خوف أو استهجان لهذه الفكرة.. فاللغة الجديدة تعني كلمات غير مُجرّبة في الشعر ولربما جرت عليه نقدًا لازعًا أو استهجانًا.
يقول الكحلاوي في ديوانه الأخير «بعد عينيكِ لن أعشق» والصادر من مؤسسة الانتشار العربي بمنطقة الباحة، يقول فيه:
«لماذا أحِنُّ إليكِ؟!
وقلبي أسيرُ لديكِ
فكيف أهاجرُ منكِ
وكل الدروب إليكِ»
ويقول أيضًا:
«غضّ طرفًا عن هواها
وابتعد واهوَ سواها
لا تكن يومًا أسيرًا
إنّ في الأسر مناها»
فكرة الأسر في هوى المحبوبة وألفاظ مثل «غض طرفًا..وابتعد واهوَ سواها..وقلبي أسير لديكِ»..أو كما يقول في مواضع أخرى من ديوانه: لا تأسريني في المساء وترحلي عند الصباح..تأتين مثل فراشة وترحلين مع الرياح» أراها فكرة متكررة وشاع استخدامها كثيرًا..
أهنا تجديد مثلًا حين قلتَ: حسبتُ العمر قد يكفي لأحلامي..رأيتُ العمر لا يكفي لأحزاني؟!!
أو حين قلتَ: «الوقت يمر كما الأزمان؟!!» «في الغربة تقتلنا الأحزان».
ونحن لا نجحف الشاعر حقه هنا في هذه النقطة بل نحاول أن ندفعه للوصول لأعلى منها.. أما عن رؤيته لذاته في قصائده فلا يخفى على قارئ دواوينه منذ ديوانه الأول الذي طُبع في هيئة الثقافة المصرية وهو ديوان «الليل والقضبان وعيناكِ» فترى واضحًا اعتداد الشاعر بنفسه ولمحات الفخر والاعتزاز في أبياته منثورة في معظم قصائده نثرًا منتظما ملحوظا كما يقول «هذا أنا متمردٌ بطبيعتي..كالموج لا أخشىٰ الرياح» ولربما كان هذا الاسلوب شيءٌ ما يميز كل الشعراء من حيث ميلهم إلى الافتخار.