جزءٌ من النّص مفقود!
شيءٌ من الرثاء في والدي الحاج أحمد «رحمه الله».. سالم أحمد الأصيل
لا أظنني فهمتُ بعد ماذا يعني أن أفقدك، فضلاً عمّا سيأتي من افتقادك، وتفقُّدك إيّاي، من مكاني في المهد، إلى الفراش الأرضي، إلى عتبة الباب، إلى وقع الأقدام، إلى إيقاع المشية.
يا أبي، لا تغرّنَّك الأربعون التي ناهزتُها، فهي لا تغنيني عن اليتم شيئًا. فأنا ما زلتُ واللهِ صغيرك!
”الأربعون حادثٌ يهيجني“، هكذا رمى الدهر في موعدٍ عاد فيه الرأس الشريف إلى الجسد السّليب، وهكذا ”دهري رماني“ في الأربعين.
ربّما كان خطؤك الوحيد، وما هو بخطأ، أنك دلّلتني إلى هذا الحدّ الذي ما زال يشعرني كم أنا صغير أمام حبّك الكبير، أو ربما أنه خطئي حين ظننتُني كبيرًا.
ألا يبقى الأب الحنون يُشعر أولاده صغارًا مهما كبروا؟ كذلك يُشعر من هم مثلي من الأبناء الضعفاء في حضرة أُبوّةٍ سامقةٍ أنّهم ما زالوا صغارًا. خصوصًا حين يكون الأب مثلك، ولستُ متأكدًا أنّ مثلك أحد، فأنا لم أرَ إلّاك.
وعدتني كلّما سألتُك عن حالك بدعائك: ”يفرّج الله“، و”إذا وعدتم الصغار فأوفوا لهم؛ فإنّهم يرون أنكم أنتم الذين ترزقونهم“ فهلّا وفيت يا صاحب الرزق الوفير من الوفاء الدائم؟
هل ارتحت الآن يا والدي؟ حسنًا. شعور قوي يتملّكني أنك الآن موضع حفاوة وكرم ضيافة. ولعلّهُ الفَرجُ الذي كنت تنتظره فعلاً.
إذا كان كذلك، فأنا سعيدٌ لأجلك، سعيدٌ؛ لأنّ جسدك تَخفّف من الآلام التي امتلأ بها حتى أغرقتْه في بحر من الآلام فأصبح كلّه تحت تراب ذلك المحيط الكبير من الوجع، لتطفوَ روحك حرّة من هذه الأوجاع كلّها في عِلّيين.
عاين الولد غرقه البطيء الطويل وسط لجج الألم الغامرة، ولهيب عجزه عن الدفع والإفادة. كم كان ذلك ألمًا مضاعفًا مزدوجًا. قُل لي الآن، هل حاسبك ربك محاسبة؟ أم أنه - ليت شعري - جازفك مجازفة، أم وضعك - بحساب أكرم الأكرمين - في منزلة الشّهداء؟ لمَ لا؟ وقد سمعت أنّ الغرقى شهداء!
تعب جسدك فانغرس في الأرض التي عُجن بها ومنها حتى عاد إليها، أعدْنا زرعك في التربة الطينية كما تُزرع نخلة قطيفية، تشبه عمّاتك اللّاتي لم تلدهنّ جدّتك، لتطلّ روحك منفردة من ذلك المسرح العلوي تعزف أعذب ألحان سيرتك على ألسن العارفين والمحبين.
شعرتُ بألم فظيع حال وقع فأس الموت على جذعي، أحسستُ أنني سأُقتلعُ من جذوري، لولا فكرة زراعتك من جديد. عرفتُ الآن لماذا هو ضروري أن يُدفن الإنسان في مسقط رأسه، وبين أهله وأحبّته. إنّها الحلقة الأخيرة من دورة/ دائرة الحياة.
أنت نخلة جذرها في الأرض وفروعها في عنان السّماء.
يا الله، كم كنت مباركًا طيّب الثمار. فروع كلّها سلام، سلامٌ سلامٌ سلامٌ، فرُدّوا السلام. سلّم على فلان، وفلان، وفلان، وفلان. سلامًا كثيرًا متواترًا لا ينقطع.
سلامٌ للأولاد، البنين والبنات، للخِلّ والأصحاب والجيران القدامى قبل أن يفرّقهم المرض والأيام عنك! سلامٌ لأهل الدار، وأهل الديار، وأهل لا إله إلا الله.
سلامٌ للأحفاد، ولأحفاد الأحفاد الذين لم يتنفّسوا الحياة بعدُ، حين أوصيت: ”سلّموا على أولادكم وأولاد أولادكم، وأولاد أولاد أولادكم“. يا إلهي، كم كنت رجُلَ سلام، ولكن دون أن تحتاج إلى أوسمة يمنحها أصحاب الجوائز. تلك التلويحة النورانية بالسّلام إلى بعيدين لم يأتوا بعد، كم كانت كريمة وذكية، إدراك عميق لطبيعة النور، فالسّلام للبعيد ليس إلّا الكائن النوري السّماوي الذي يسكن كنجمة مشعّة في السّماء البعيدة، لا تطاله أيادي العابثين في الأرض. السلام كائن مضيء يشبه الملائكة، الكائنات من النور، تحتجب عن العين، ولكن يراها أهل البصيرة النافذة، تعمر قلوبهم بالسّكينة، الطمأنينة، النور، والسّلام الأبدي. تُمدّهم بِطَاقةِ الحياة.
يشهد لك شاي الحسين، المئذنة، وقناديل المسجد وزيتها قبل أن يضاء بالكهرباء، والمسجد الذي أغلق بابه وما زلت تصلّي، والعين التي أغلقت جفنها من نَصَبِ الكِبَرِ وأثر الدواء الذي لم يعُد يجدي وما زلت تصلّي. الصلاة، الصلاة الصلاة، كم دللت عليها، وكم تشتاقها؟!
بمَ أعوّض حديثك عن جمال وجلال عليٍّ، حقّ عليٍّ، قوّة عليٍّ، شجاعة عليٍّ، حنان عليٍّ، آهٍ وعدل عليٍّ عليه وعليك السلام، هذا الذي يتجلّى كلما تحدّثتَ عنه، بمَ أعوّضه لولا سلوتي من الذكريات!
أتساءل الآن، كيف هو إحساس من فقد عليًّا؟ سلامٌ لقلب زينب وكلّ زينب فاقدة. ويح قلب من كان ذاك العليّ فقيده. وأنت واحد الفاقدين، هكذا كنتَ تُلمِسُني جمرة الفقد - لم تُطفئها القرون والسّنون - في كلّ مرّة يُذكَر أو تَذكُرُ في مجلسك. هل ذهبت إلى عليٍّ الآن؟ هل سقاك شربة من الكوثر لن تظمأ بعدها أبدًا؟
هل مُتَّ حقًّا؟ كلّ الأحياء يموتون، هكذا نرى كلّنا، وكأنّها واحدة من الخدع البصرية التي تخترعها نواميس الطبيعة، حساب معادلات المعلوم والمجهول، قوانين الإزاحة والإحلال التي تفرضها قياسات الأرض الضيقة، لعبة الأرقام التي تشترط شهادة الوفاة كما شهادة الميلاد.
أحسستُك خلال الأسبوعين الأخيرين في المشفى قبل ارتحالك، في كلّ أحاديثك، روحًا مجرّدة، بدأت روحك تخلع جسدك، تتحرّر منه شيئًا فشيئًا، هكذا كانت كلّ تلويحاتك وإشارات حديثك الغامض بالنسبة لرَجُلٍ أقدامه مغروسة في عالم الجسد والمادة: اشتهاء النَّبْق؛ كم أرّقني وفزّ قلبي لهذا الاشتهاء في غير مقامه الظاهر، والسّلام لبعيدين لم يأتوا بعد، اطمئنانك على شريكة الحياة، سيّدة الحياة: أمي، ابتسامتك الوادعة المتأمّلة في الأفق البعيد على حين غرّة، وتذكرك تفاصيل الذاكرة البعيدة كأنّها شريط ماثل أمام عينيك وحدك، والزائر التاروتي المجهول الذي زارك في غير وقت الزيارة وقال: ”عافاك الله“ فسألتَه عن زميلك؛ في خدمة المسجد والحسين، زميلك عبدالرسول الذي تقدّمك إلى السّفر بثلاثة أشهر. منذ متى وبصرك حديد؟ كدتُ أسألك.
كلّها، كانت مؤشّرات أنّ جسدك لم يعد يحملك أكثر، وأنّ روحك بدأت التخفّف من حملها، حتى شعرتُها محض روحٍ خالصة، وأنّ الأمانة موشكة أن تُستردّ!
العزاء أنك استرحت، ارتحت من أوجاعك وآلامك التي ظلت رفيقة جسدك النحيل طويلاً، وأنك في جنان الخلد - أيّها الجَنّاويّ، وقد عُدتَ من حيث جئت - مع الطيبين الطاهرين والصالحين والمساكين والمُتعَبين والمنسيين الذين لا ذاكر لهم. كلّ ذلك - واللهِ - يَصلُحُ عزاءً، لكنّ عزائي الكبير الذي تشفى به روحي أن تناديني من جديد غدًا باسمي، فأجيبك: لبّيك ايباه.
ما عزائي إذا وجدتُ باب عيدي موصدًا؟ كيف أعزّي ثاكلة نعتك قبل رحيلك تنبّهت وتنبأت باللاعودة وهي تردّد بإحساس مرهف: ”هالطّلعة فراقيّة!“
ماذا أقول لأطفالي إذا اشتاقوا إليك؟ بمَ أجيبهم لو طلبوك؟ بالله كيف أقنع صغارًا بفكرة الموت التي يذهل منها الكبير ولم يكشف سرّها حتى اليوم؟
بمَ كنتُ أعزّي زهراء التي تندبك كلّما أذَّن المؤذن تذكرُ وتُذكِّرُ أباها المؤذّن ابن المؤذّن؟ لولا ما يجري على الزهراء كلّما أذّن بلال باسم والدها.
بمَ كنتُ أعزّي زهراء الثانية التي ندبت على قبرك ”مات أبي“ إذ تشتهي لك كلّ أكلة تطبخها فترفع لمقامك ”النغصة“، لولا أنّها تطعم أحمدك.
قد يلومني بعض إخوتي؛ لأنّني أندبك الآن، والحجة أنّني رَجُلٌ يجب أن أكون أصبَر على فراقك، يُصبِّر الثواكل من بعده، لكنّني - في الحقيقة المُرّة - ما زلتُ أشعر أنّي صغيره، فهل يلام الصغير إذا ما بكى افتقاد والده؟ فضلاً عن ذلك الثقيل من فقده. ثم اللعنة على رجولة مزعومة تمنع ولدًا من ندب والده. ”أثاري الأبو يا ناس خيمة!“
ها أنت انتقلت من سجنك ”الدنيا سجن المؤمن“ إلى الدار الفسيحة الرحبة المريحة التي لم تكن لك في هذه الدنيا. إنّه الناموس السّماوي في انتقال الروح من حيّزٍ ضيّق ضعيف ”تؤلمه البقّة، وتقتله الشرقة“ إلى فضاء فسيحٍ هو أليق وأجلى لتجسّد المعاني الخالصة، الرحمة والحب والحنان الإلهي المطلق، فضاء لا يحدّه قياسات وحسابات الجسد الهزيل محدود المدة والصلاحية. هناك في مدّيات بعيدة، حيث الذمّة الإلهية صاحب الأمانة الأولى. ألا نقول عن وجهة الراحلين: انتقل إلى رحمة الله؟ وفي ذمّة الله!
أعدك يا أبي، رغم ذلك كلّه، أن أعيش كما أحببت لي أن أعيش، أعدك أن أعيش ما استطعتُ إلى ذلك سبيلاً، مستعينًا بما سمعته من محبوبك الوائلي أنّ الأرواح إذا نظرت أهلها على حالٍ طيبة تمتلئ غبطة، وإذا رأت أهلها على حالة سيئة تمتلئ ألمًا.
لكنّ ثمة حزنًا، رغمًا عنّي، سيبقى مقيمًا - هكذا أراه منذ الآن - متوغلاً فيَّ، حزن السّعفة التي نخرت سوسةُ الموت النخلةَ التي تحملها. نخلة قد تموت، لكنّها تبقى واقفة، ثم من قال إنّ النخلة تموت؟ وهي حيّة منتجة حتى آخر عنصر بقاءٍ منها، تمامًا كالروح الطيبة التي تغادر جسدًا انتهى عمره. ترعى عيالها وتُشرف عليهم من زاوية علوية.
هل قلتُ السّعفة؟ بالمناسبة، كنّا قد غرسنا غصنًا على باب بيتك الجديد، كما غرست أنت على باب بيتك الذي تركت، ولا أدري، هل هذه السّعفة ابن من أبنائك، أم أنّها - صدفة، ورُبّ صدفة خيرٌ من ألف ميعاد - ضمير/ فرع نخلة وفيّة تعهّدتَها بنفسك فجاءت تردُّ الجميل تمدّ ظلّها فوق ظلك المستتر.
أتذكر كم كنتَ تحيّرني حين تسألني الدّعاء! فأحار بمَ أجيبك؟! أنا من يسألك الدّعاء الآن يا أبتِ، أسألك الدّعاء. يا باب الدّعاء أنت، اذكرني عند ربك! أما أنا فلن أنساك!
آه! ما أعزّ على النفس تشتري ثوب أبيك الجديد لبيته الجديد، وفراش مبيته في ذلك النوم الطويل. ثم تأمر بقصّ شاهدته دليلاً على ذلك البيت الجديد. هنا، يرقد أبي.
وإلى لقاء... إلى اللقاء يا والدي. حيث أنت. هناك، في رَوْحِكِ وريحانك، يا خارطة الروح وزارع الريحان.
جزءٌ من النصّ مفقود.. كلُّ صاحب النص الفاقد مفقود.