آخر تحديث: 23 / 4 / 2024م - 12:08 م

قراءة سوسيولوجية لرواية علي أبو السعود

رواية «شيخة» تسلط الضوء على أحداث وشخصيات شرق العربية السعودية

جعفر العيد

اكتشفت أن شعر الشاعر لا يعبر إلا عن 10% من فكره أما 90% الباقية فلا تقال الا نثرا.

نزار قباني ص 14 «الكتابة عمل انقلابي 1978م»

تذكرتكم والجسم ملقى بلبنان

وقلبي في شوق إليكم وتحنان

علي أبو السعود 4/ 1373 هـ ج

الرواية التي بين أيدينا المعنونة باسم «شيخة» كتبها الأديب المرحوم علي حسن أبو السعود في العام 1373 هج، وهو طريح السرير الأبيض في مستشفى ظهر الباشق في جبل لبنان، غير أن الرواية لم تر النور إلا في العام 1435 هـ ج «2014م».

وقعت الرواية في حدود 250 صفحة من القطع الوسط، وجاءت محتوية على تسعة فصول، ومقدمتين أحدهما للكاتب، والأخرى للمراجع السيد عدنان العوامي، إضافة إلى ملحق هو عبارة عن دليل إرشادي باللغة والنصوص والأماكن الواردة في الرواية.

مدخل:

«شيخة» رواية غرامية تاريخية على ضفاف الخليج؛ هكذا كتب في عنوان غلاف الرواية، لتشير لنا إلى خط مسيرة موضوعها، وقد تضمنت إضافة إلى بطلي الرواية سليمان بن مانع وعشيقته شيخة «هناك مسيرة أحداث تشترك في رسمها» مجموعة من الشخصيات الحقيقية والخيالية.

يتجاذب سليمان خطان من العشق لا ينفصل أحدهما عن الآخر، بل أن كل عشق يتقاطع مع العشق الآخر، ويتداخل معه، فعشق لشيخة ينمو ويتلاطم داخل صدره، وعشق آخر للقطيف وسيهات وأهليهما.

موضوع الرواية.

أستميح القارئ عذرا «وقبل الغوص في معطيات الرواية» في أن أنوه بالمقدمة التاريخية الجميلة، التي كتبها الباحث والأديب السيد عدنان العوامي في المقدمة، والتي جاءت متناسبة مع موضوع الرواية،

السيد عدنان العوامي سبق وأن قدم لنا كتاباً جميلاً عن حياة الوجيه والزعيم علي حسن أبو السعود بعنوان «زعيم في ذاكرة الوطن 2010م»، وها هو اليوم يخرج لنا هذا العمل الأدبي الجميل وهو رواية شيخة.

في نهاية الفترة الثانية من عهد الأمير تركي بن عبد الله ابن محمد بن سعود «1249 هـ » بداية عهد ابنه الأمير فيصل الذي تولى الحكم بعده.

في هذه الفترة عاشت القطيف مرارة صراع دام نشب بين زعماء القطيف وأعيانها، فالرواية تتناول تلك الأحداث بصورة تختلف جوهرياً عما ترويه كتب التاريخ التقليدية.

وهنا يورد لنا السيد عدنان ثلاث روايات عما حدث، وأذكى حدة الصراع ابتداءً من مهاجمة آل خليفة «حكام البحرين» القطيف في سنة 1249 هـ ، واحتلالهم بلدة دارين، وتوغلهم في جزيرة تاروت، وانتهاءً بمقتل عبد الله بن غانم حاكم القطيف في ذلك الوقت.

1/ فأورد أولاً ما كتبه الأستاذ محمد سعيد المسلم صاحب كتاب «ساحل الذهب الأسود» عن هذه الحادثة.

2/ ثانياً ما كتبه الأستاذ الشاعر محمد سعيد الشيخ علي الخنيزي، صاحب كتاب «خيوط من الشمس» عن الحادثة.

3/ ثالثاً ما كتبه المؤرخ الشيخ عثمان بن بشر المعاصر للأحداث، وصاحب كتاب «عنوان المجد في تاريخ نجد» عن هذه الحادثة.

والرواية «شيخه» تأتي بتفاصيل أكثرّ دقةً وتفصيلاً لهذا الحدث، ويعتقد السيد عدنان العوامي أن الروائي علي أبو السعود كان مضطلعاً على الكثير من المصادر المعاصرة «في وقته» وغيرها الأمر الذي مكّنهُ من الإلمام بأحداث غابرة لم يدونها أحدٌ من معاصريها على هذه الصورة.

مقدمة السيد عدنان العوامي ص 10 - 11 الرواية.

من هنا تبدأ القصة:

سليمان بن مانع كما ترسمه الرواية، رجلُ من وجهاءَ منطقة القطيف، كان رعديداً لكن الحب بنوعيه أعطاهُ قوةً وحولهُ إلى رجل شجاع.

وحبيبة قلبه شيخة سيدةُ من سيدات المجتمع القطيفي، تزوجت وانفصلت عن زوجها، أو إنها ترملت... المهم أنها أصبحتْ وحيدة، ويشاءُ القدرْ أن تلتقي بسليمان بن مانع في مدخل حمام أبو لوزه التراثي الشهير، وتشتعل شرارة الحب بين قلبيهما.

ولأن شيخة - كما يبدو - من مسيرة الأحداث أنها جميلةُ وغنيةُ، خصوصاً وأن أباها كان من أغنياء البلد ووجهائها، الأمر الذي أبرز منافسين لسليمان بن مانع، لنيل يد وحب شيخة، وإن كانوا من أقاربهِ المقربين.

ففي الوقت الذّي يهيم فيه سليمان بن مانع بشيخةٍ، وينتظر من ابن عمه ناصراً أن يساعدهُ في خطبتها، يسير ناصر إلى شيخة ليعرض عليها شخصية حسين أبو حيان قريب سليمان بن مانع، ومنافسه في الزعامة، وتحيط الشكوك بحسين هذا في التجسس، ونقل أخبار التحركات في منطقة القطيف إلى المنافسين في خارجها.

ويجّن جنون سليمان، ويصعق ويقطع عطلته الاستجمامية في جزيرة تاروت، ويقفل راجعاً لمواجهة التحديات التي تنتظره.

تتالى الأحداث وتتشابك وتتعقد، فمن طلاق أخت شيخة، ومرضها، إلى احتدام الوضع بين قبيلة العماير ومن خلفها آل خليفة الذين كانوا يسيطرون على قلعة الدمام، فقد هاجمت قبيلة العماير بعض الحاميات في الجيش السعودي، ولجأت إلى سيهات الأمر الذي جعل فيصل بن تركي يضرب حصاراً قوياً على سيهات.

وهنا حسبت سيهات بأن ذلك إنما تم بتحريض من أبناء عمومتهم في القطيف، لكن الأحداث سارت باتجاه آخر، حيث أن فيصل بن تركي سمع عن مقتل أبيه وهو يحاصر سيهات، فترك حصارها، وأقفل راجعاً إلى الرياض ومعه عبد الله بن غانم، وعندما رجع ابن غانم سراً، وجد مجموعة من مقاتلي علي عبد الرحيم النصر في انتظاره، اقتادوه إلى سيهات.. وبالقرب من سيهات وقعت واقعة غريبة، ومواجهة غير متوقعة، قتل على إثرها عبد الله بن غانم، على يد مجموعة من الملثمين «لم يعرف وقتها لمن يتبع هؤلاء الملثمين». زاد ذلك من شقة البعد، والصراع بين قيادات المنطقتين، الرواية تناقش كل ذلك بالتفاصيل.

وهنا يحق لنا التساؤل عن الدلالة الاجتماعية الرابطة بين الكاتب وكتابته، ولماذا هذا الإصرار على نسج هذه الرواية في ذلك الوقت وهو يعاني ما يعانيه من آثار المرض الذي أبعده عن بلاده، وتركه طريح الفراش في مستشفى ظهر الباشق بجبل لبنان.

قد يكون الكاتب شعر في داخله بضرورة إيصال رسالة مهمة للأجيال عما احتدم من صراع الأشقاء بين سيهات والقطيف. «وفعلا لم تطبع الرواية إلا بعد رحيله كما ذكرنا سابقاً»

فالفرق بين إنجاز الرواية 3/ 7/ 1373 هـ ج، ووفاته التي كانت في تاريخ 18/3/ 1374 هـ ج، لا تتخطى ثمانية أشهر.. ثمة دلالة أخرى يمكن استنتاجها هنا، وهي أن المرحوم أبو السعود ذهب إلى لبنان، وهموم البلاد لا تبارحه، وقد عبر عن هذه المشاعر شعراّ عندما قال:

تذكرتكم والجسم ملقى بلبنان

وقلبي في شوق إليكم وتحنان

ص 152 - «زعيم في ذاكرة الوطن - 2010م»

وطنيون.... وانتهازيون:

زعيم في ذاكرة الوطنالناس أمام الأحداث منقسمون «هكذا خلقهم الله» فمنهم خائف رعديد، ومنهم شجاع ووفي لا تزحزحه الأحداث، من جهة أخرى قد تقسم الإغراءات المادية إلى ضعيف وقوي، فبينما يتلون بعض الناس ويبلعون مواعيدهم ومواقفهم، ويقف أناس آخرون أقوياء أشداء في مقاومة الإغراءات المادية.

الرواية تطرح نوعين أو أكثر من هذه النماذج كأمر طبيعي في المجتمعات، فشخصية حسين أبوحيان يرسم لها في الرواية، أنها شخصية انتهازية، تستخدم الخدع والمكر والإغراء المالي، ليس بالضرورة من أجل الوطن أو الجماعة، إنما قد يستخدم كل هذا الدهاء من أجل الوصول إلى منصب، أو الاستفراد بصفقة تجارية، أو الحصول على زوجة.... كل الأهداف يمكن تحقيقها بالإغراءات المادية.

من أجل ذلك عندما بعث بناصرٍ للتأثير على شيخة للقبول به مكان ابن عمه سليمان بن مانع، وحمله مجموعة من الهدايا، وعندما وجده مدهوشاً ومستغرباً من هذه الهدايا قال له:

«أنت معذور، لأنك لم يسبق لك أن جربت المال في أغراضك ومآربك، سلني أنا، فأنا الذي أعرف كم سخرت به نفوس يصعب تسخيرها، وابتيعت به ضمائر يعز ابتياعها، فهل تذكر قضية أهل سيهات؟ لولا ما بذلت فيها للأمير ولخدامه لكنت سمعت بالشيخ يوسف».

ص 39-40 الرواية.

وتتالى الأحداث التي ترسمها الرواية، لتوضح لنا كيف أن أصحاب «المال، السلطة، النفوذ»، يؤثرون في مسيرة الأحداث إلى درجة قلبها رأساً على عقب، وهو الأمر الذي حصل لحاكم القطيف في ذلك الوقت «عبد الله الغانم»، عندما عرف أمره في الليلة التي دخل فيها القطيف متخفيا.

حضر بعدها رجالات علي عبد الرحيم «حاكم سيهات» يطلبونه، من الذي أخبرهم بوجوده؟

هم الناس الذين نصبوا أنفسهم مخبرين.. أو أنهم راهنوا وعولوا على زيادة تفاقم الأوضاع في القطيف، وانهيارها إلى الأسوأ.

ويلعب هنا الشيخ علي أبو السعود دوراً مميزاً، فلقد قصد الشيخ علي أبو السعود في الأساس لمحاولة عقد الصلح بين عبد الله بن غانم، وبين علي عبد الرحيم.

تقول الرواية أن الشيخ علي أبو السعود حضر إلى الجنود الذين قبضوا على عبد الله الغانم، وأخذ منهم مواثيقاً مغلظةً بعدم مس الرجل بسوء حتى يصل إلى سيهات سالما.

ويبدو أن هؤلاء الجنود وفوا بكلامهم، وامتثلوا كلام الشيخ أبو السعود لهم.

لكن المؤامرات التي كانت تعصف بسيهات والقطيف «في ذلك الوقت» أكبر من أن يحوطها الرجلان، وتسرد الرواية تفاصيل كثيرة حول مقتل ابن غانم لا مجال هنا لسردها.

السؤال الأهم.. يبدو أن مثل شخصية حسين أبو حيان لا تقتصر على ذلك الزمان، بل يمكنها أن تتكرر في كل زمان، وفي كل مجتمع، ومثل هذه الشخصيات المتخاذلة، الخائرة تسبب جروحاً كبيرةً في العمل الوطني والاجتماعي..وكأن الزمان يعيد ويكرر نفسه ببلادة.

وهو الأمر الذي حدث مع شخصية الكاتب «علي حسن أبو السعود» في حياته، وفي زمن يختلف عن زمن الرواية.

ففي قصة مفصلة جاء «حسب المرحوم السيد حسن باقر العوامي» «تعرضت في فترة من الفترات الصكوك الصادرة من قضاة الشيعة «في القطيف» إلى عدم النفاذ، وعدم الاعتبار فكتب واحدُ من أهل العلم برقيةً إلى الملك مضمونها: الفوضى سائدة بسبب كسر الأحكام، فكانت باعث إزعاج شديدٍ، ما هي هذه الفوضى في الأمن أم غيره؟

وأمرت الدولة بتشكيل لجنة من مسؤولين أشداء للتحقيق في ذلك، وما أن علم الموقعون فيها حتى انهزم بعضهم، فمنهم من ادعى المرض، ومنهم من ذهب إلى الظهران، ومنهم من ادعى أن علياً غرر به، بينما الحقيقة أن علياً ما هو إلا أحد الموقعين، لكنه تحمل كل المسؤولية، وواجه، هو ومن بقي معه من الموقعين، الهيئة بكل قوةٍ وبسالة»

سيد حسن العوامي «علي وزمانه ووطنه» ص 21 «زعيم في ذاكرة الوطن - 2010م»

عندما يتذكر علي أبو السعود هذه الحادثة يؤرخها شعراً حزيناً فيقول:

«خدعوني، ولم يكن ذاك جهلاً

بعهود ومواثيق ضمنوها

أقسموا لي سيثبتون كراماً

ثم قالوا مقالة زخرفوها

لا نبالي نفدي حياتك بالرو

ح «عليا» وليتنا نفديها

حادثات مريعة فعلوها

حينما ضحضح الضّيا أنكروها»

ص 155-156 «زعيم في ذاكرة الوطن -2010م»

وهكذا تتكرر تقسيمة الله للبشر المختلفين في المزاج والأطباع.

القيم.. الأعراف..

من المفيد حقا أن تنقلك الرواية إلى الأجواء الاجتماعية التي كان يعيشها المجتمع في القطيف، وسيهات وبقية المناطق القطيفية،وما هيي مدى قوة وتحكم القيم والأعراف والتقاليد بالمجتمع.

أدخلتنا الرواية في دهاليز المجتمع القطيفي وبعض القيم والأعراف المتمسك بها، إضافة إلى العادات التي كانت سائدة في تلك الفترة من الزمن، فالقارئ يلاحظ أن هناك علاقة، وكلام يدور ويجري بين المرأة والرجل في ذلك الوقت مع مراعاة واحترام أعراف المجتمع، وهذا يعطينا صورة عن الحرية النسبية في مجتمع الواحات، أو المجتمع القريب من السواحل.

نلاحظ أن الفرح والخطوبة بين سليمان بن مانع وشيخة يتأجل، مرة بسبب مرض أختها، ومرة بسبب مرور الأشهر الحرم «محرم وصفر»، ومرة أخرى مراعاة للأوضاع السياسية المعاشة بالقطيف.

في مكان آخر تكشف لنا الرواية التصرف مع من يموتون فيغسلون ويتلى عليهم القرآن ليلاً إلى الصباح، وفي الصباح تفرش الحصر «جمع حصير وهو فراش محلي يصنع من سعف النخيل» ليتجمع الناس لتشييع الميت.

وتكشف الرواية عن بعض العادات القديمة في تقديم رأس قند في مجلس عقد النكاح، والذي هو عبارة عن سكر مجمد على شكل مخروط.

والكثير من الأشياء التي وردت في سرد أحداث الرواية، ومنها بعض المصطلحات القديمة المستخدمة في اللهجة القطيفية إلى درجة أن المراجع السيد عدنان العوامي، احتاج أن يدرج ملحقاً ودليلاً إرشاديا باللغة والشخوص والأماكن التي وردت في الرواية.

الرواية تنتصر للمرأة

رواية شيخة مع ما لها من أهداف تاريخية، إلا أنها كما أراها تقدم نماذجاً للمرأة، فالمرأة هنا ليست تلك المرأة الخائفة الرعديدة، أو تلك الفارغة التي ليس لها دور يذكر في المجتمع، فالمرأة هنا ومن باب العيش الطبيعي تلعب أدواراً مهمة في الحياة الاجتماعية، فالروائي لا يؤلف أدواراً لهذه المرأة شيخة بطلة الرواية، فعلى الرغم من الظلم الذي وقع عليها في زواجها الأول وهذه التفاتة مهمة وهو أن المجتمع في ذلك الوقت كان يظلم المرأة.. وأتوقع أن هذه ضمن سلبيات المجتمع السابق في القطيف، الذي كان الخيرون من المجتمع يحاولون التخلص منه.

شيخة «المرأة» محبة كبيرة، وفية لحبها، عارفة بأحداث البلد، متفاعلة معها، صاحبة شيمة عندما وقفت مع أختها في مرضها، ووصل الأمر بها أن تسافر إلى البحرين لطلب العلاج لأختها. هذا من الجانب القطيفي.

في الطرف المقابل.. فقد ورد في الرواية اسم لامرأة في سيهات، وهي أخت علي عبد الرحيم واسمها حكيمة، كان لها دور كبير في أثناء حاكم سيهات من قتل عبد الله بن غانم، أو اعتبار كل المشكلات والحصار والهجوم، والتخريب من رأس عبد الله بن غانم، بل إنها السياسة.

بحنكتها أبصرت أن ثمة من يقف خلف الأحداث، ويحاول توسيع الهوة بين المنطقة الواحدة، والمجتمع الواحد سيهات والقطيف.

ناهيك عن شخصيات نسوية أخرى، مثل الخطابة أم صالح، وهذه كانت تلعب دورا كبيرا في تقريب وجهات النظر بين الرجل والمرأة الذين يقصدون الزواج.

لقد رحل الكاتب علي حسن أبو السعود، وترك لنا عملا جميلاً، أسماه شيخة.