«كيف ترى قصيدتي..؟»
ضحك صديقي «عليٌّ» كثيراً حين وقعت عيناه على سؤال «كيف ترى قصيدتي» الذي وضعتُه بين قوسين ليكون عنواناً لمقالي الجديد، لكنه بعد أن استقر وهدأ من سكرات الضحك، أقبل علي سائلاً ومبرراً ضحكه الشديد، فقد كان كما يقول في الخارج وعند إشارة المرور وقفَتْ أمامه حافلة كتبت على زجاجتها الخلفية عبارة «كيف ترى قيادتي»، وقال: إن عنوانك جعلني أربط بينه وبين العبارة التي يكتبها قائدو الحافلات ولهذا انفجرت من الضحك، فكيف قلَّدتهم وأنت الشاعر المبدع وأخذت طريقة السؤال لتجعلها عنواناً لمقالتك؟!
- ما تبادر إلى ذهنك من ربط حقيقي ولم يكن من باب الصدف أو وقع الحافر على الحافر كما يقولون، فاقتراض العنوان مقصود وله مغزى.
- وما المغزى في ذلك؟
- إن الحافلة التي تقف أمامك وأمام آلاف المارة من سائقي السيارات وركَّابها لم تتخير فئة نخبوية من الناس لتطرح عليهم السؤال المذكور، بل إن عيون سائقي السيارات ومن يرافقونهم تلمح السؤال باختلاف مشارب أصحابها وبتنوع ثقافاتهم ووعيهم ومن هنا تكمن أهمية السؤال التي تتمحور حول التنوع الثقافي وتفاوت الوعي لدى من طُلب منهم الإجابة.
- هذا واضح ومحسوس فالذين يرون عبارة السؤال متنوعو الثقافة باعتبار عدم قصدية أو تعيين المتلقي لِيُجيبَ مِن قِبَل السائل، ولكن ما الرابط بين ما بينتَ وبين عنوان مقالتك؟
- الرابط هو استعارة السؤال مع الاحتفاظ بحيثية التوجيه، فأنا كشاعر حينما أتخلص من علة التيار الشعري الجاثم على قلوب الشعراء، لِما له من رؤى نقدية مهيمنة، وأنزل من برج كبريائي الشاهق واستفتي الناس جميعهم على اختلاف وعيهم وتفاوت استيعابهم وعلى تنوّع مستوياتهم الثقافية، وأسألهم عن رأيهم في قصيدتي، فإني - لو فعلت - لكنت بذلك قد قست بصورة تبعث على الاطمئنان منسوب النجاح فيها.
- وما هو المعيار الذي تعتبر من خلاله أن قصيدتك ناجحة؟
- تكون القصيدة ناجحة عندما يكون منسوب الرضا والإعجاب فيها عالياً من قِبَل الإنسان العادي والمثقف المختص والمثقف العام والموسوعي على حد سواء.
- أهذا ممكن؟
- كيف لا يكون ممكناً وله شواهد كثيرة في شعرنا ونثرنا وعموم أدبنا؟!
- هل لك أن تورد بعض الأمثلة؟
- حين تتحول نصوص مجموعة من الشعراء إلى أمثال سائرة يستحضرها الناس بمختلف مستوياتهم المعرفية ويستشهدون بها في المناسبات التي تستدعي ذلك، ثم تجد القراءات النقدية تتوالى وتتناسل في قراءة قصائد ودواوين هؤلاء الشعراء، فهذا يدل على حيازة إبداعاتهم على مقبولية من مختلف المستويات من ذوي الثقافة العالية ومن الناس العاديين ومن المتخصصين..
وإذا أردنا أن نشخص على سبيل المثال، فأنا وأنت وكثير من الناس مازلنا نحفظ الأبيات الكثيرة من شعر أبي الطيب ونتمثل بها فيما تمر علينا من أمور الحياة وتقلباتها، وهذه الشعبية التي يتمتع بها شعر المتنبي يقابلها ثقل اعتباري عند النخبة وذوي الاختصاص، فابن جني لم يكتف بشرح واحد بل شَرَح ديوان أبي محَسَّد شرحين وأبو القاسم الإفليلي الأندلسي له شرحان كذلك وأبو العلاء المعري الذي لا يعجبه العجب ولا الصيام في شهر رجب له شرح ولشدة إعجابه وإكباره لشعرية المتنبي سمَّى شرحه ب «معجز أحمد» لأن المتنبي اسمه أحمد وشعره بمثابة الإعجاز في عالم الشعر والأدب كما يرى أبو العلاء..
وأما في النثر فدونك كتاب كليلة ودمنة الذي ترجمه عبدالله بن المقفع، فكان وما يزال - لسلاسة عباراته ولتمتعه بالإمتاع الفوري في أسلوب القص والسرد ولتدفق مغازيه - يمثل شاهداً من الشواهد النثرية الإبداعية على ما نقول، فهو محل إعجاب الناس العاديين إذ يأخذ أسلوبه في القص بألبابهم من أطفال وناشئين وحتى الكبار، وهو محل إكبار لدى المتخصصين الذين يحللون العلائق السردية فيه ويستوحون الرؤى والقيم الضمنية المتدفقة من خلالها...
وعليه فما دامت هناك أعمال إبداعية نثرية وشعرية قد حققت القبول الكاسح لدى مختلف الطبقات، فإن هذا يعني أن القضية واقعية وبعيدة كل البعد عن الخيال والافتراضات، وإذا كانت كذلك، فمن الممكن استيلاد نصوص جديدة تتمتع بالحضور والهيمنة نفسيهما
- وكيف يتم استيلاد نصوص تحمل الصفة تلك؟
- يتم ذلك متى ما سأل الأديب شاعراً أو ناثراً نفسه كيف أحقق المطلوب وكيف أتخلص من عوائقه
- وكيف تجيب عن الكيفين..؟!
- أما الكيف الأول فعلى الأديب أن يتمثَّل النصوص الإبداعية التي هي على الوصف الذي ذكرناه فيحاول أن يجعل نصه زاخراً بما يأخذ بألباب الناس عامتهم ومغرياً المتخصصين منهم وفاتحاً شهيتهم على تناوله وقراءته..
وأما الكيف الثاني - وهو ما يرتبط بعنوان مقالتنا - فعلى الأديب أيضاً أن يلف مقولة «وما عليَّ إذا لم تفهم البقرُ» بحبال حمالة الحطب ويرميها في وادي برهوت، وعليه أن يقوم بوخز أنفوخته الداخلية المنتفخة ذلك الانتفاخ بشوكة يستعيرها من فلاح تشققت قدماه في صعود نخلته الباسقة، وعليه بعد ذلك أن يسأل جميع الناس على اختلاف مشاربهم ويقرأ جواب «كيف ترى قصيدتي» في عيونهم ودقات قلوبهم وفي تعليقاتهم الواعية والأخرى الموغلة في الشعبية، فإذا حصل عنده الاطمئنان بأن قصيدته حازت على القبولين الجماهيري والنخبوي، فإن المطلوب - حينئذ - قد تم وسفينة إبداعه راحت تبحر في اليم..
- جميل، لكن ما الذي تقصده من «علة التيار الشعري ورؤاه المهيمنة» وكيف يشكو هو أو رؤاه النقدية من علة؟ أ هو أو هي جسم حتى يصيبهما المرض؟!
- يا عزيزي عليك أن تذهب إلى متاجر بيع الكتب وحوانيتها وترى المطبوعات الشعرية والدواوين التي تدفعها دور النشر إليها وتثقل رفوفها المتقوسة بها.. إنك ستتحسس حين تتصفح المجاميع الشعرية تلك وتطلع على النصوص التي تضمها فتشعر كأنها حظيرة مكتظٌّة بالدجاج، لكن الدجاج القابع في قنِّه هذا كله مصاب بمرض البري بري ويشكو من صعوبة الحركة، فهل ستتشجع لو كنت من محبي الدجاج أكلاً وتربية على شراء دجاجة واحدة فيها العيب المذكور؟
- بالتأكيد لا
- وهذا النفور والعزوف عن اقتناء المجاميع الشعرية التي صنعتها قريحة المشغوفين بمقولة «وما عليَّ إذا لم تفهم البقرُ» سيخبرك به صاحب المكتبة نفسها وصاحب دار النشر وستسمع الأحاديث العجيبة والحكايات الطريفة في هذا المضمار..
- كيف؟!
- سيهمس في أذنك ناشر ويقول لك:
نحن نطبع هذه المجاميع التي تراها، لأننا نشترط على أصحابها بأن يدفعوا لنا تكاليف طباعتها كلها، ثم توزع على المكتبات بالأمانات فتسترد الأموال منهم بعد البيع ولا أحد يدفع قبله.
وسيقول لك صاحب مكتبة أُمِّنت عنده مجاميع من لم يُخلقوا لزمانهم:
ألا يدل تقوس ذلك الرف الذي يحملها على طول المكوث؟ إنني إلى حد الآن - إذا تركنا الحديث عن الناس العاديين - لم أجد شاعراً اقتنى من متجري مجموعة شعرية لشاعر آخر، فكل واحد منهم كأن لسان حاله يقول: ”أنا الذي نظر الأعمى إلى أدبي“ وهو في الوقت نفسه أعمى فلا يستطيع أن ينظر لحظة واحدة إلى ذلك الرف المستغيث المتقوس، ولا يقوى أن يتقدم ليقتني نسخة واحدة ولو من باب التشجيع للإنسان الآخر الذي يشاركه في التلبس بصفة الشعر...!
وسيقول لك صاحب دار نشر:
رحم الله الأيام التي كنا نركض فيها وراء الشعراء فنغريهم بالحديث عن جودة مطبوعاتنا ودقتنا في الإخراج حتى يعطفوا علينا ونطبع دواوينهم بلا مقابل منهم بل لهم منها حقوق ونحن الرابحون.
كنا نطبع ثلاثة آلاف نسخة فتتبخر ولا يكون لها محل من الإعراب في مخازننا...
لا أطيل عليك فمثل هذه الأحاديث تطول وتطول وفيها من القصص التي يمل من روايتها الثرثار ويقبل على ما فيها من نوادر كل ضيِّق صدر وملول..!
- كأنك قد تعبت من الحوار وتميل إلى إنهائه؟
- نعم تعبت، ولم يكن تعبي لانطوائية في نفسي ولا لقلة بضاعتي، ولكن الحديث في القضايا التي يكثر فيها اللغو يتعبني ولعل الإيجابية الوحيدة التي حصلت عليها من حديثي حول أولئك الذين لا تفهمهم الأبقار هو الوقوف على المغزى العميق في قوله تعالى:
”وإذا مروا باللغو مروا كراما“ وشعوري بالراحة والاطمئنان والتلذذ بهذا النص القرآني العظيم؛ باعتبار أن التدبر عن مكابدة ألصق في مقاربة النص من التدبر عن غير مكابدة.
- وخلاصة القول؟
- وخلاصة القول: عليك أن تقابل أي واحد من هؤلاء البائسين الخاسرين مادياً ومعنوياً ممن لا يهتمون إذا لم تفهمهم البقر، ثم تدعوه بمفرده إلى وجبة عشاء في بيتك وبعد أن تقوم بواجب الضيافة اسأله السؤال التالي:
في أدبيات من يتعاطون الفلسفة وما يضارعها من عقليات، شاعت عبارة «فرض المحال ليس بمحال»، وأنا أطرح عليك سؤالاً يجيش في صدري ولك أن تعتبره من فرض الفلسفة المذكور
وسؤالي لك وأنت أديب تنتج نصوصاً نخبوية مفتوحة على القراءات يتناولها النقاد والمحللون الأدبيون ولا يشبعون من تناولها وهذا بحد ذاته نجاح للنصوص ودليل على غناها كما تقول الرؤى النقدية التي تتبناها..
ولكن ماذا لو نجحتَ بعد ظفرك بإدهاش النخبة في توسعة دائرة الإدهاش لتشمل المغضوب عليهم والضالين عن الرؤى السامقة من عامة الناس فتكون نصوصك ذات تنوع طبقي فتغري طبقتها الظاهرية عامة الناس وتجعلهم يهيمون بنصوصك كما يهيم الإنسان العادي بجمالية البحر حين يقف على ضفته ويرى زرقة مائه وتمايل أمواجه وأكاليل نوارسه فيما يرى من يمتلكون أدوات الغوص جمالياته المخبوءة في أعماقه التي تبعث على الدهشة والذهول؟
ثم اسأله:
هل صار الجمع بين الجماهيرية والنخبوية في النص من المستحيلات؟ ألا تتمنى في داخلك - والإنسان كائن اجتماعي - أن يشير الناس كل الناس إليك بالبنان إذا شاهدوك في أي مكان عام وأن يهرعوا إلى اقتناء دواوينك فور وصولها إلى المكتبات..؟!
وأقول لك إذا قلت له ذلك وحده - وكأنك تناجيه ولا ثالث لكما - وأشدد على كلمة «وحده» فإنه سيوافقك الرأي؛ فالإنسان ميال بفطرته إلى حب الكمال ولا أحد من المبدعين يتمنى أن يكون ناجحاً نخبوياً فقط ولا يتمنى أن يجمع بين النجاحين.
لكن المشكلة أن ضيفك هذا الذي وافقك على ما طرحته في فرض السؤال ستتلاشى موافقته لك إذا عاد إلى «شِلَّتِه» الشَلَلية وسيضظر إلى الانخراط في المجموع النخبوي الذي اعتاد على إدمان علة تياره الشعري وعلى الخوف والرهبة من الخروج من نفق علته المظلم خشية من اتهامه بالتخلف عن السير في ركابها؛ فيضطر إلى كتم صوته الداخلي وفطرته التي تجنح إلى الكمال فيخشى أن يفكر مجرد التفكير بإمكانية الجمع بين الجماهيرية والنخبوية في النصوص الإبداعية ويدمن استصحاب علة العلل المسؤولة عن النمطية المقيتة والكساد الفاضح، كما يواظب على جبر خاطره وتسلية نفسه بمقولة ”وما عليَّ إذا لم تفهم البقرُ“..!
- يعني الجدل معهم بيزنطي؟
- هو كما تقول
- والحل؟
- الحل أن تكون فطناً فتستعمل معهم أسلحتهم التي شهروها وشعاراتهم التي رفعوها من قبيل «اقتل أباك» و«القطيعة مع الماضي»؛ فأدبياتهم بلحاظ الزمن صارت من الماضي، وأصحاب تلك المقولات المستعارة صار بعضهم بعمر الأجداد لا الآباء فقط ف «تجاوَزْ أباهم وجدهم» ولا أقول اقتلهما، و«قاطع ماضيهم» وتَوجَّهْ إلى الشعراء الجدد وانصحهم بألا ينسجوا على منوال ماض مقاطع وأب متجاوَز، وبأن ينفتحوا على الحياة ويحاولوا أن يعيدوا النص الأدبي إلى صدارته وإلى وهجه المعهود في تراثنا، ولا عيب ولا نقيصة في نص يتماهى بماضيه النابض بلحاظ التمثُّل في تحقيق النجاحين لا بلحاظ المحاكاة الإحيائية ولا الوقوع في مستنقع الاجترار..
فعليهم - وهم أهل بما يمتلكون من أرث أدبي عريق - أن يسعوا ليكونوا ممن يُشار إلى فرادتهم المعيارية والذوقية، وأن يثقوا بإمكاناتهم فيكونوا ممن يُدار في فلكهم، وألا يصيبهم اليأس من عدم التفات آني، وأن يُرجعوا سبب عزوف بعض المتلقين عما يصدر من إبداع يحمل أصالته ولم يخضع للاشتراطات المستعارة والمجترة بصورة مشوَّهة - والساحة لا تخلو من مبدعين حقيقيين - إلى الانطباع العام السيء الذي راكمه المنتج المضطرب المشار إليه في الأذهان؛ مما أدى إلى أن يبعدهم الانصراف عن اكتشاف النوعي وتلقي المختلف، وهو انصراف مستحكم وليس من نوع الانصراف البدْوي الذي يذهب في أدنى تأمُّل؛ ولذلك فالتلقي لا يعود إلى أيامه الذهبية ولا يحقق ازدهاره المنشود إلا بعد ظهور إبداعي فعَّال يشكِّل ظاهرته التي تمحو ما استحكم من انصراف...
وما الأمر بصعب المنال ولا ببعيد متى ما تواصل الاجتهاد في المداومة على الجمع بين التألقين لدى المبدعين في نتاجاتهم الإبداعية كلها..ففي الجمع بين الجماهيرية والنخبوية يكمن التحدي وعليه يكون الرهان.