الاقتراض اللغوي بين متطلبات الحاجة وإغواء الانبهار
من يبحث في تاريخ أية لغة من اللغات يجد أنها لم تسلم من ظاهرة التقارض اللغوي، فهي تأخذ وتعطي بقدر ما تتطلبه الحاجة، ويكون الأمر مقبولاً لا يتحسس منه أهل اللغة؛ لأنه يدل على حيوية اللغة وتكيفها مع ظروف عيش الناطقين بها..
لكن المسألة إذا تحولت من تلبية حاجة إلى انبهار بالكلمة المقترضَة وتفضيلها على كلمة مطابقة لمعناها أو قريبة منه في لغة المقترِض، فإنها - حينئذ - ستكون ناتئة بين كلمات اللغة التي أُقحمت فيها، وتبقى تُلوّث بصر القارئ وتزعج السامع وتعرض المتلقي إلى مشاعر الانكسار والمسكنة متى ما تَلَبَّسَ بحيثيات ذلك المقترض.
غير أن المتلقي الذي يدرك قيمة اللغة وقيمة التعامل معها حضارياً قد يشعر بالنفور مِن سلوك مَن كان على مثل هذه الحال، فينظر إليه بعين تطفح بالإيحاءات السلبية، ولا فرق في الأثر المذكور بين أن يكون الاقتراض في إطار التحدث أو في إطار الكتابة، وحينئذ ينتفي غرض من اقترض دون وجود مبرر للاقتراض سوى تصرفه المدفوع بأوهامه وتصوراته التي تحسب أن انتشار نص مكتوب على الشاكلة تلك أو تأثير محادثة على النحو المذكور يتحققان فيتحقق ما يصبو إليه...
إن أثر الاقتراض غير المبرَّر تظهر سلبيته في المجالات جميعها، فعلى صعيد الآداب، نرى غير قليل من الشعراء في منتصف القرن المنصرم يتأبطون كتاب «الغصن الذهبي» وما يدور في فلكه، فيستعيرون منه ومن غيره الأساطير اليونانية وأساطير الحضارات الأخرى ويقحمونها إقحاماً في نصوصهم القصصية والروائية والشعرية معتقدين أنها تفعل فعل النفث في العقد فتسحر المتلقي وتجعله ينبهر بها ذلك الانبهار..
وهو ما حدث فعلاً لبرهة من الزمن وكان الانبهار ولكن على مستوى طبقي ضيق، ربح فيه منتجو النصوص نخبهم التي تميل إلى ما يميلون، ولكنهم في مقابل ذلك قد خسروا السواد الأعظم من الجمهور الذي كابد ما كابد من الحاجز الكبير المشيد بينهم وبين النصوص المشغوفة بما لا أثر له سوى الأثر الذي جعل النص بارداً كالجليد، وما أعظمه من أثر؛ مما دفع بمبدعيه إلى التغطية على فشلهم والتعلل بمقولة ”ولِمَ لا يُفهَم ما نقول“ تارة، وتارة أخرى يستأنسون إلى درجة يلوغ الانتشاء وهم يجترون تبريرات استعارة أساطير الآلهة الإغريقية وتوظيفها من بعض أدباء الحضارات الأخرى الذين عللوا ذلك بموت الإنسان عندهم بعدما صار مشغوفاً بالحياة المادية ففقد براءته مما اضطرهم إلى النهل من الزمن الأسطوري بحثاً عن البراءة والسذاجة اللتين يفتقر إليهما الإنسان العصري المتلبس بعُقَد الماديات..!
إن فتح الباب على مصراعيه واستعارة التجربة بحذافيرها من الآخر، والتماهي مع توظيفاته المتكيفة معها - دون النظر إلى الفرق الشاسع بين ملابسات الزمان والمكان لدى المستعار منه والمستعير - لهو تصرف لا ينم عن بصيرة ولا يتمخض عنه حراك إبداعي..، فكيف يبدع من يستنسخ ومن لا يتقن غير التقليد؟!
ويطالعنا - على سبيل المثال - شاعر مبدع مثل بدر شاكر السياب الذي لم يسلم نصه من الوقوع في دائرة التيار الانبهاري، فقد أتعب نفسه حين اقترض شخصية «إيكاريوس» الأسطورية ليرمز بها إلى الإخفاق مما اضطره إلى ترخيم الكلمة وحذف بعض حروفها في غير موضع النداء ليحافظ على استقامة الوزن إذ يقول:
”إيكارٌ يمسح بالشمس
ريشاتِ النسرِ وينطلق
إيكارُ تلقَّفه الأفق..“ [1]
ولو أنه وظف شخصية «عباس بن فرناس» لكان نصه أكثر نجاحاً، باعتبار أنها شخصية عربية حقيقية ومعروفة لدى المتلقي العربي، ولما اضطر إلى عملية الترخيم والحذف وتنوين الاسم الأعجمي الممنوع من الصرف.. فلا يوجد أي مبرر لاقتراض شخصية «إيكاريوس» والتطابق موجود بينها - مع كونها شخصية أسطورية - وبين «عباس بن فرناس» - وهو الإنسان الحقيقي الواقعي - في كونهما صنعا جناحين من الريش والشمع وجربا الطيران فأخفقا، وكل ما يريده شاعرنا السياب هو تقرير مسألة الإخفاق في النص وكان اقتراض الأسطورة المذكورة وسيلته التي سعى من خلالها إلى تحقيق ما يريد.. [2]
بيد أن السياب نفسه كان قد صرح - في حواره مع الأديب كاظم الخليفة - بتخليه عن اقتراض الأساطير اليونانية وما في وزانها، بعدما كانت له فيها صولات وجولات [3] ، وهذا التخلي أو التغيير يعد من إيجابيات شخصيته الساعية إلى تحقيق ذاتها التي لا تثبت على شيء في سبيل الوصول إلى الفرادة والنوعية في الإنتاج، والتي لا تبالي بمشاكسة تيار أدبي صاعد ظل - في مقدار كبير من الزمن بعدها - يبالغ إلى درجة الغلو في ترسيخ هذا النوع من الاقتراض، وفي اعتباره ملمحاً من ملامح التحديث آنذاك..
لقد وقع المتلبسون بالملمح المذكور في الخطأ الذي وقع فيه شطر من شعراء الحقبة التي توصم عادة ب «عصر الانحطاط» لدى جملة من مؤرخي الآداب ومن المصنفين التقليديين؛ فحيازة النص الأدبي على أكبر قدر ممكن من المحسنات البديعية والمبالغة في ارتهانه للبلاغة الشكلية لا يصنع منه نصاً أدبياً راقياً كما أن إقحام الأساطير اليونانية والأجنبية على نحو العموم في النص لا يجعله نصاً جديداً في إبداعه أو مبدعاً في تجديده المثقل بالأساطير المحشودة والمستعارة.
إن اقتراض الأساطير المشار إليها في أدبنا الحديث - باعتبارها مفردات ذات مفاهيم شديدة الارتباط بأنساقها وبما تحمل من أفكار وإيحاءات عالقة بها - لذو صلة لصيقة بمسألة الاقتراض اللغوي، ولا يبعده عن ذلك نسبية التناول والتداول من حيث الضيق والسعة، فالنص الإبداعي غير حبيس اللحظة الآنية الاستهلاكية في تداوله، بل هو يتمتع بحسب التجربة بصفة البقاء والتجدد والديمومة تمثلاً وقراءةً، وهو لهذا وذاك أكثر قيمة وحضوراً وتأثيراً من التداولات غير الإبداعية.
فالهدف من المقارنة بين اقتراض شخصية «إيكاريوس» واستحضار شخصية «عباس بن فرناس» المفترض استحضارها في نص السياب، هو قياس منسوب التناول والتداول لدى الجمهور والنخبة على حد سواء.
ولعل نتيجة القياس ستظهر لنا كم خسر النص من عمر ديمومته بفعل «نخبنته» المفتعلة والفقيرة كل الفقر.. فما أشبه «إيكاريوس» بالسراب الخادع في نص أُقحِمَ فيه، لينكشف الغموض المفتعل بمجرد مذاكرة القارئ والتزود بحصة مدرسية حول أساطير الأغيار، فيتكشف النص مظهراً حقيقة عمقه المنشود؛ ذلك لأن النص الذي يرتكز على الغموض الإحالي في إنتاج إيحائيته يخادع نفسه ولا يخدع القارئ الحصيف في إيهام تلبسه بالغموض المنتج، بخلاف النص الذي تنبعث منه التموجات الإيحائية بعفوية منزهة من الافتعال؛ مما يكسبه ديمومة التداول في انفتاحه على القراءات والتلقي في مستوياتهما العامة والخاصة.
إن الاقتراض اللغوي - في حقيقته - لا يخرج عن إطار الحاجة الممارسة بين ذوي اللغات المختلفة، ويبقى في إطاره الطبيعي الناجح والحضاري أيضاً متى ما تحرك وفق إطاره المذكور، ولكنه لا يحقق المطلوب ولا يصيب الهدف متى ما خرج عن تلبية متطلبات الحاجة ووقع في غواية الانبهار.