آخر تحديث: 19 / 4 / 2024م - 11:39 م

حديةُ رأيٍ أم تكامل

ناجي وهب الفرج *

ترتكزُ الحياةُ وتدومُ وتنهضُ على تبادلِ المنافعِ بينَ كلِ منَ يجمعهم العيش مع بعضهم البعض، فهم يؤثرون ويتأثرون فيما بينهم وبمن حولهم. ومن مستلزماتِ استمرارية استقرار الأمور لديهم أنْ يمتلكون علاماتٍ ويسيرون على نظمٍ ينبغي مراعاتها في طرقِ تعاملاتهم وتعايشهم. وأيضًا من دواعي ديمومة واستمرار هذا التكافل البناء هو أن تكونَ مداولاتهم ونقاشاتهم التي تدورُ بينهم والتي تفضي وتحتمُ عليهم في أنه ليسَ هنالكَ رأي صائب بالمطلق ولا يمكنْ لشخصٍ ما اعتيادي مثلهم ومثلنا أن يمتلكَ الحقيقةَ كاملةً ومحال أن يكون لديهِ إحاطة كاملة بجميعِ ما يحدث، فما يغيبُ عنهُ يتذكرهُ الآخرون وما يسرحُ ويغفل عنهُ الآخرون يتذكرهُ هو بالمقابل وبهذه الكيفية والمنوال تكتملُ الفكرةُ وتتضحُ الصورةُ لديهم وعلى هذا جرت عليه سيرة العقلاء.

من الأهمية بمكان وجود محدداتٌ في إدارةِ الرؤى والنقاشاتِ خلال تناولها بين هذهِ الأطرافِ المتكافلةِ التي تعيشُ مع بعضها، تستندُ على فكرة مساحاتِ الدوائرِ التي يفسحُ لها الشارعُ المقدسُ أن تتحركَ ضمن مداهُ وما تتيحُ لها الأنظمةُ والقوانينُ التي تتماشى مع الشرعِ بالضرورة من مجالٍ يتيح لها حرية في الحركةِ والانطلاقِ، وإذا استعنا أيضًا بالمنطق الرياضي لتقريب الفكرة وتبسيطها للقارئ الكريم؛ فإنهُ في علم الهندسة يُسمح ويجوز أن تتقاطعَ الدوائرُ بحيث لا تضيعُ الحقوقُ ولا تلتبس الواجباتُ وحتى إن كَانَ هنالكَ تقاطع؛ فيكون هذا التداخل والتقاطع مرهونًا باستفادةِ هذهِ الاطراف كل منهم بالآخر، والمحافظة من جانبٍ آخر على ما تمتلكهُ هذه الدوائرُ من عناصرٍ على ملاكها فيؤدي هذا التقاطعُ إلى ما يُسمى بالتشارك الذي يحقق الفائدةَ المرجوةَ التي تخدمُ جميعَ الاطرافِ وتصبحُ هذهِ المشاركات وتصبُ في نهايةِ الأمرِ في منفعةِ وخدمةِ كافة الدوائر المتقاطعة فتصبح علاقتهم علاقة ورابطة تساهمية أو تشاركية، وهذا ما يحدث من جانب آخر على مستوى الدقائق الصغيرة كذرات المواد في علم كعلم كيمياء المادة، فعند اتحاد الذرات والتي ترمي للوصول إلى مرحلة الاستقرار وتحقيق المرجو منها لتكوين منتج يخدم الجميع ويتحقق الغرض المراد الوصول إليه بدون خسارة لكل طرف، ونحقق مبدأ مهم غاية في الأهمية بيننا وهو أنه تنتهي حريتك عندما تبدأ حرية الآخرين.

وكما ورد عن أبي سعيدٍ الخدري رضي الله عنه: أن رسول الله ﷺ قال: «لا ضرر ولا ضرار».

هكذا يتم تبادل المنافعُ على مستوى كائنات متناهية في الصغر، فما بالك بالإنسان الذي وهبهُ الباري جل وعلا من الإمكاناتِ والذي كرمهُ وأهلهُ ورفعهُ حين قالَ عنهُ عز من قائل: «لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ» التين 4

وقال جل وعلا في موضع آخر في كتابهِ المجيد: ﴿وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا الاسراء 70.

ونأتي في هذا المقام ومن زاوية أخرى؛ لنعالج حدية الرأي عند هذه الاطراف المتعايشة أو المتكافلة، فهذا المعنى يظهر عندهم في أقوالهم وأعمالهم فلا يقبلون في حل الأمور بينهم منطقًا وسطًا في حل الأمور والتي لا ينبغي التشدد فيها ويمكن علاجها بالتدرج لنصل لمبتغانا من الحلِ الذي يعطي الجميعَ الحلَ المرضي والمطلوب والمعقول في آن معًا.

فعندما نجد زلةً أو خطأً ما عند شخصٍ قريب أو بعيد، وهذا الخطأ لا يستلزم جرهُ لا قدر الله إلى معصيةِ الله، بل هو فعل أو قول لا يتعدى كونهُ نتيجةَ جهلٍ أو نسيان فيمكن معالجتهُ ضمن خطواتٍ ومراحلٍ حتى وإن كانتْ تتسارع ببطءٍ وتحقق نسبًا من النجاحِ والانجازات متدنية بين فترة وأخرى لتقويم الاعوجاج، فهذا مقبول وحالة صحية؛ فالعلاج لا يتمْ دفعة واحدة بل يحتاج لهذا التدرج، فمثلهُ كمثل الدواء يؤخذ بجرعات وفي أوقاتٍ محددة حتى يؤتي أُكلهُ المراد منه.

هكذا نربي أولادنا وأنفسنا على التدرجِ في الحلِ، وما يناسب قولهُ في وقتِ ومكان لا يناسب ويتلاءم في وقت ومكان آخر.

لستُ أنسى كلماتٍ وتوجيهاتٍ بعضَ مَنْ نهلنا منهم العلم أثناء دراستنا الجامعية منذ ما يقرب من الثلاثين عامًا، بإنّ الأبناء والطلاب مثلهم كمثلِ الزرعِ ساقهُ وقوامهُ ضعيف ولين، كلما جاءتْ ريحٌ مالَ حيث مالتْ وأرادتْ، يتطلب أن نضع لهُ المساند والدعامات لكي لا يميل ونعدل قوامهُ من حينٍ لآخر كي ينمو مستقيمًا كلما احتاج لذلكَ، وإذا تركنا وأهملنا ميلهُ دون تدعيم ومساندة وكبر على ما هو عليهِ وحاولنا فيما بعد تعديلهِ فإنهُ لن يستجيبَ وإذا أصرينا وعدلناه سُيكسر ويموت وتكون خسارتنا مضاعفة وفادحة. فكذلك الحال هذا ينطبق على مراعاة نمو الإنسان في مراحلِ حياتهِ المختلفةِ فهو يحتاجُ للتوجيهِ والارشادِ والمداراةِ والتقويمِ والاستيعابِ حتى يستطيعَ النهوض والاستمرار ونسعى أن نضع يديهِ على الجادةِ في بدايتهِ ليسلكَ وينطلقَ في الخطِ المستقيمِ المراد والمخطط لهُ.

دعونا نُثبت عدةَ مطالب ٍفي هذا الشأن:

- الإنسانُ بمن معهُ يتكامل ليكون منتجًا ومثمرًا.

- ينطلق مع مَنْ معهُ بأرضية مشتركة ويتقاطع ويتشارك معهم في المصالح والاهداف.

- توفير الداعم والمساند والموجه خلال مراحل نمو هذا الناشىء.

- وضع الأمور في نصابها لتبنى وتنمو وتستمر على الجادة.

- نحتاج لتعدد النظر في زاويا مختلفة للمشكلة قيد الحل لتشخيصها حتى يمكن تغطية وتقديم أكبر قدر ممكن من الحل لها.

- لابد من التدرج في تطبيق الحلول بجرعات محددة ومتوازنة على فترات زمنية حتى نصل إلى العلاج الكامل.

هذا ونسأل الله جل وعلا لنا ولكم الهداية والسداد.

نائب رئيس مجلس إدارة جمعية العوامية الخيرية للخدمات الاجتماعية