آخر تحديث: 21 / 11 / 2024م - 7:28 م

الحياة ليست يوتوبيا!

فؤاد الجشي

يظهر للعيان في محطات الحياة نقاشات جادة، يتصف بعضها بخشونة الحديث بين طرف وطرف في مسائل قد تكون تافهة لا تستحقّ أن تكون سبباً لخلاف في وجهات النظر يؤدي في النهاية إلى اشتباك لفظي أو جسدي في بعض حالاته، يطال ضرره أحياناً الأطراف الساعية في الصلح بين المختلفين، وربما تتسّع دائرة الخلاف لتشمل المجتمع كلّه.

فإذا كان اللغط القائم فكرياً أو إنسانياً أو عقدياً، حينها يصبح رأياً عامًا محلّيًا أو دوليًا من خلال القنوات الإعلامية المرئية أو شبكات التواصل الاجتماعي، فكيف يمكن لنا تحديد المسبّبات التي قضت أن تكون بين تلك الأطراف بين النزاع والصراع؟

يُعرّف جون بيرتون الأسترالي الذي ساعد على إنشاء مركز معهد تحليل وحلّ النزاعات، بأنّ النزاع والصّراع مختلفان في التوجه أمام بعضهم البعض، حين يذكر بأنّ النزاع على صنفين: قصير الأمد، وطويل الأمد. وهي تمثل مشكلة عميقة غير قابلة للتفاوض، مما ينذر أن يتطور الأمر إلى صدام اجتماعي واقتصادي وسياسي، قد يكون سبباً في اشتباك مسلّح بين طائفتين أو بلدين، من هنا تظهر طائفة العقلاء قبل وبعد، في احتواء الموقف وتغليب المصلحة العامة بإضافة لغة الحكمة بينهم.

يعرّف العقل الباطن ”اللّاشعوري“ بأنّ جميع العمليات العقلية التي حدثت وسوف تحدث ستكون بداخل هذا المستودع العجيب، إنه الجزء الذي يخزّن المعلومات التي لا تُخزّن في العقل الواعي، بسبب قدرة المساحة التي لا تتوفر في العقل الواعي، كما أنه لا يستطيع أيضًا أن يميّز بين الخير والشّر، وبين السّلبي والإيجابي.

العقل الباطن يقوم فقط بحفظ المعلومات ليصبح مركزًا للانفعالات، فهو مخزن للاختبارات المترسّبة نتيجة القمع النفسي، مثل جميع التجارب والأفكار والمشاعر والأحاسيس والغرائز، كما أنّ العلماء لم ينجحوا في تحديد موقعه، حيث يعتقد بأنه شيء محسوس وليس ملموساً مثل الروح، إنّها إحدى معاجز الخالق العظيم.

في زمن الطفولة رأينا أو سمعنا وشاهدنا أشياء لم تكن تناسب وعينا الأول، وهذا طبيعي في بعض حالاته اعتقادًا من المحيط بأنّ ما نقوله أو نفعله لا يشكّل ضررًا فادحًا في السلوك الأول الإيجابي أو السلبي، الذي ينتقل بدوره إلى العقل الباطن ”اللاشعوري“ حتى يصبح مصطلحًا أو ظاهرة اجتماعية في سنٍّ معيّنة يسلكها الفرد، إما جبرًا أو قهرًا، بعدها تصبح تحت وطأة الظروف ميول واتجاهات مختلفة فكرية وسلوكية حسب موجة الفكر والثقافة الاجتماعية السائدة في وقتها مفهومًا مركزيًا في التفكير والبناء الأسري والاجتماعي للذكر والأنثى.

وتكثر الشكوى في العلاقات الزوجية عند البعض، حيث الاختلاف والنزاع الذي يمكن السيطرة عليه في مسيرة الحياة اليومية، مدركين أنّ الصراع العائلي للبعض، الذي يتوقف عليه أحد الأسباب الرئيسة وهي السّكن والراحة، مفترضًا بأنه المخدع الآمن للحياة الخارجية، يقلّ الاختلاف بداخله، حين تتجلّى فيه المودة والرحمة والاطمئنان والسعادة، وهو ليس خيالًا عندما ترتوي من ماء بئر زمزم أمام بحر هائج من الحياة اليومية بين رزق مطلوب، ورؤى تستندان إليها في منزل يضم أفراد العائلة معًا، كالشجرة التي تظلّل على من يقف تحتها ويحميها.

الإنسان قادر على الوصول إلى أعماق البحار وأغوار الكون ثم أخرج الطعام من تلك الصحاري الجرداء، وجعل البرّ والبحر وسيلة للانتقال، وصنع الطائرات والقنابل المدمّرة، والمبتكرات التي لا تنتهي، إلّا أنّ العقل ما زال مجهولًا ومحيرًا للإنسان، لم يستطع علماء النفس أن يتوصلوا إلى كيفية الوصول إلى حالة التوافق مع النفس من خلال العقل، وكيف نصنع من تلك النفس وسيلة السعادة وراحة البال التي يبحث عنها الجميع في هذه الحياة التي يغلب عليها الشقاء والماديات، التي تمثّل تحدّيًا أو صعوبة في طريق النجاح أمام الأهداف المتوقعة.

فعندما لا يرى أحد الزوجين بعض أوجه التشابه والمواقف التي قد تحدث في بعض سنين أو أكثر، فهناك أسباب أخرى تقع هي المخزون المعرفي وهو أقلّ في بداية التجربة، الذي يسيطر على الإنسان، أثناء قرار الارتباط ما قبل الزواج للمرأة والرجل في تحقيق أمانٍ مادية ومعنوية للطرفين، منها أيضًا، الاختلاف في المستويات التعليمية والثقافية للزوجين، الأولاد، وتسلّط أحد الزوجين، والمادة، الفراش، وهي قائمة لا تنتهي.

وقد تكون أسباب الصراع أحيانًا متعلّقة بالمعنى الحقيقي للحياة في غياب الثقافة العامة المبكرة والإيجابية التي تؤثر بدورها على السّلوك العام للمرأة والرجل في نظرتهم للعلاقة الزوجية بسبب التغييرات الجذرية في مفهوم العادات والتقاليد، التي اكتسبها المرأة والرجل في المرحلة السابقة والمتقدمة، أمام الكم الهائل من النصائح والعظات اليومية التي لا تنتهي، عليها تتهور الأهداف أو تهرب بعيدًا عن الواقع المرتبطة أصلًا بالوعي الثقافي والمعرفة منذ الطفولة، مما يسبب سلوك معيّن في رحلة الحياة.

الاختباء تحت الغطاء داخل الغرف المظلمة للتورية، بأننا أصحّاء وما يكون خلافاً ليس هو خلافاً بالفعل، حيث إنّ معظمنا يتواجد غالبًا في مكانٍ ما في الوسط، أي ما بين سليم نفسيًّا، مجهد نفسيًّا أو مريض نفسيًّا. إنّ الخلافات في بعض أطوارها سمة طبيعية في العلاقة الزوجية تحتاج إلى مركز للاستشارات العائلية لاستعادة التواصل مع الذات والمجتمع. وحتى يتحقق السلام الداخلي الكلّي أو الجزئي يجب أن تكون هناك عيادات استشارية في كلّ زاوية في البلاد، امتعاضًا لما نراه من مطاعم يصعب عددها في أنحاء متفرقة وكثيرة.

ثقافتنا الزوجية قبل وبعد الارتباط يجب أن تكون موجّهة من المكوّن الأخلاقي للدين، يعزّزه قانون جبري صحي نفسي يحدّد كفاءة العلاقة بين طرفين كما هو السائد في الكفاءة الصحية الوراثية الجبري الحالي قبل الزواج، في إرشاد المجتمع لتعزيز وظائفهم المناط بها في الحياة وهي السّعادة النسبية في الدنيا وإعمار هذه الأرض سوف يساعد كثيرًا في انخفاض الكثير من الخلاف أو النزاع بين الأفكار والصور المشوهة التي اكتسبت تحت بند بعض العادات والتقاليد المقيتة التي ساعدت على اكتساب نظرية الفضيلة المطلقة في حسن الخلق، أمام التلقين المطلق في بناء السلوك الفردي والاجتماعي.

وعينا يستطيع إعادة إنتاج عادات وتقاليد جديدة معينة ترتبط بالواقع الجمعي، بعيدًا عن إشكاليات اللغط التي لا ينتهي، برؤية جديدة تتوافق مع الدين والحداثة التي نراها ونشعرها ونلمسها. لقد أصبح كوكب الأرض قرية صغيرة أمام الاكتشافات الكونية، يستطيع الإنسان أن ينطلق إلى أقاصي الأرض يبحث عن علاقة سليمة شرعية مع مفهوم آخر جديد، في بناء فكر ثقافي اجتماعي مع أمة جديدة تتناسب مع قيم الحياة التي تتوالد كلّ يوم بتجارب مختلفة، ما نشاهده في هذه الحياة لن يبقى، وإنّ الحياة تتغيّر والقيم الخالدة التي نعيش عليها هي الخالدة.

لن يتقدم الإنسان إلّا بتجاربه بعيدًا عن التناحر اللفظي أو التصادم، الذي قد يساعد على التطور وإعطاء الفسحة للفكر الواعي للتغلب على الصّعوبات أمام جمال الحياة التي لا تتوقف، الإنسان يسعى للكمال بتقنيته، بينما السعي يكون في القيم الأخلاقية التي تساعد على نهضة المجتمع وترابطه، فالسعادة ليست من الكماليات، بل إنّها مطلوبة في جميع الأوقات بعيدًا عن الحقد والحسد الذي يسود الإنسان في بعض حالاته، وهذا يجعلنا نتوقف في التقاطع والهدوء للعبور بالسفينة وطاقمها وهم الأبناء، إلى الحياة القادمة، نزرعها ونحصدها معًا، بإضافة وعي عاقل يتناسب مع الرؤية المستقبلية للحياة، العقل الباطن دائمًا ينتصر للأفكار أكثر قوة.

قال أحد الحكماء: ينساك الناس عندما تكون على صواب، في حين يذكرونك حين تكون على خطأ.