آخر تحديث: 24 / 11 / 2024م - 12:29 ص

جدليات القراءة العشوائية

حسين أحمد بزبوز *

يصنف الكثيرون منا القراءة على أنها خير مطلق، ونطلق الكثير من الشعارات والعبارات التي تحث على القراءة وتمجدها باعتبارها كذلك. وكأنها بالمطلق دون قيد أو شرط الفاصلة بين الخير والشر، وكذا أيضاً بين السمو والرفعة من جهة، والدونية والوضاعة والضعف والعجز والفقر من جهة أخرى. ويسارع الكثيرون منا لاقتناء الكتب واستعراضها والتباهي بها، باعتبارها لآليء ثقافية لا مزيف أو مدمر لنا فيها.

وقد اعتاد الناس قديماً على القراءة من الكتب والصحف والمجلات الورقية، أما في هذا العصر فلم تعد القراءة عامة ولا القراءة الجادة خاصة، محصورة في إقتناء تلك المصادر الورقية، من كتب وصحف ومجلات، كما عهدنا ذلك من قبل. فبعد التحولات العلمية والتقنية الكبيرة التي شهدها العالم، هناك اليوم بحور متلاطمة من مصادر المعرفة والثقافة والعلوم الرقمية عبر الشبكة العنكبوتية، التي يمكن أن تثري القراء ومتابعي المحتوى، مضافة إلى مصادر المعرفة الورقية أو التقليدية.

لذا أصبح «نقل المعلومات» في العصر الحاضر عبر وسائل السوشال ميديا، كما كان تملك واكتناز الكتب والمنشورات والمخطوطات الورقية، وعرضها واستعراضها في أركان الضيافة، أو الظهور المرافق لها في الصور الشخصية، برستيجاً ثقافياً وجزءً من سلوكيات التباهي العلمي والمعرفي، التي يستخدمها البعض في استعراض العلوم والثقافة كعنصر من عناصر قوته الشخصية، ضمن سلوكيات شكلية لبعض البشر، بل ربما للكثيرين منا.

وفي خضم هذا الضجيج والزحام الكبير في عالمنا، حول مصادر المعرفة الورقية والرقمية، لا بد أن تعود بنا التساؤلات للنقاط المركزية الجادة، نحو القيمة الحقيقية للقراءة وجدوائيتها ونفعها وضررها، فهل الكتب ومصادر المعرفة كما يتصور البعض بلا شوائب وبلا مخدرات ومسكنات وسموم؟ وهل القراءة حقاً كما توحي بعض الشعارات والعبارات الرائجة خير مطلق؟ وهل كل ما هو متاح بين أيدينا للقراءة يعتبر حقاً فرصة لنا لنمونا الفكري والمعرفي والثقافي؟ أم أن هذه التصورات مجرد أوهام وهراء وضلال أو تضليل، خاصة في زمنٍ بتنا نعرف فيه جيداً أن العالم يزخر بالأفكار الهدامة، التي تمسحت بمسوح الحب أو الدين أو الإنسان أو كلها معاً؟.

ثم إن مسألة أن نقع فقط ضحايا لمتاهات هدر الوقت جراء قراءة ومتابعة التفاهات التي قد تنشر، مسألة جديرة بأن تدفعنا للتساؤول والمساءلة والمحاسبة، كي لا نهدر أعمارنا في الجري خلف السراب، نتيجة قراءة واقتناء ومتابعة كل ما ينشر.

ولعل من مصلحة بعض دور النشر والناشرين، وبعض الكتاب والمؤلفين، وناشري المحتوى، أن يبدو كل شيء في عالم القراءة جميلاً مفيداً، خالياً من القبح، نقياً من السموم، سليماً من الغثاء والثرثرات التي تستهلك العمر والوقت. وأن يستسلم القراء للقراءة العشوائية العمياء التي ينفق فيها المال بلا وعي، والتي تدار فيها القراءة من قبل القراء بلا نضج، فتضخ من خلالها الأفكار في اللاوعي الفردي أو الجمعي، دون كلفة ودون حساب، فيصبح الناس ضحايا لهدر المال وهدر الوقت، وأسراء للتجهيل الممنهج وغير الممنهج.

ويبدو أننا تبعاً لذلك، قد رسخنا في أدمغة غالبية الناس في ليلة ظلماء تلك القناعة التي مفادها أن القراءة خير مطلق، فتجد الكثيرين منا يكررون تكرار الببغاء، ما مؤداه قولنا: ”إقرأ وارق، فكل ما يقرأ فهو مفيد.... وكل ما هو مفيد لـ «س» من الناس فهو مفيد لـ ﷺ من الناس أيضاً، ولا تفاهات ولا سموم ولا ضرر في إقتناء الكتب وقراءة الكتاب، وكل من هو قاريء فهو هرم ثقافي، ويستحيل أن يكون بسبب ما يقرأ ساذجاً وتافهاً ومن الجهلة التافهين، فالقراءة تساوي العلم، ويستحيل أن تساوي الجهل، وضع نقطة هنا في آخر السطر، وأغلق النقاش“.

وهكذا، أطفأنا تساؤلات مهمة، وجدليات ضرورية، وولدنا القراءة العشوائية غير الواعية الضارة والهادمة، فلا أحد يجروء على المساس بقيمة باتت من المسلمات أو كالمسلمات، وإن طرح البعض المناقض، فسيطرح ذلك بصورة خجلة، أو ضمن عناوين مواربة، كي لا تهدم الصورة الوردية للكتاب، التي تسود الساحة، والتي غرست في أذهان الناس. وهنا وجب أن نتوقف لنلاحظ ونتساءل، فهل كل ما نقرأ مفيد لنا حقاً؟ أم أننا ضحايا الوهم؟ وما هو الحل للإستفادة المثلى من القراءة؟ وهل تلك الحلول المطروحة أو التي ستطرح، متيسرة حقاً؟.

قرأت في إحدى المرات عن قاتلٍ نفذ جريمة قتل فتاة بعد إغتصابها، باستيحاء فكرة الإغتصاب والقتل من رواية قرأها. ولعل مثل قضية هذه الرواية تعد مدخلاً جيداً لإثارة الجدال والشد والجذب هنا حول جودة وجدوائية وخيرية القراءة العشوائية، التي يروج لها الكثيرون، ويمارسها الغالبية أو البعض، خصوصاً من هم في مقتبل العمر، كذلك المثقف القشري الحريص على الظهور بمظهر المثقف البارع، الذي قد قطف من كل بستان زهرة، وله في كل ميدان شأن وفكرة.

ولعل لسان حال المدافع هنا - والمدافع هنا قد يكون على حق - يقول: ”إذا وقعت جريمة قتل بسند من قراءة رواية أو كتاب، فهل العيب في من يقرأ أم فيما يقرأ؟ أليست السكين سلاحاً ذو حدين؟ والدواء قد يكون سماً ودواءً في نفس الوقت“.

نعم السكين سلاح ذو حدين، والكتاب ومصادر المعرفة قد تكون كذلك، لكن ماذا يمكن القول عن الكتب التي تزرع أفكار الإرهاب أو العنصرية أو الطائفية؟ فهل هي أيضاً سلاح ذو حدين؟ وهل قراءتها نافعة، واكتنازها والتباهي بها مفيد؟.

في نموذج الرواية وقصة القتل سابقة الذكر، قد يكون العيب في القاريء لا في المقروء، وهذا وجه من أوجه تشابكات عقد جدلياتنا حول خيرية القراءة المطلقة وجودة القراءة العشوائية. لكن الإشكالات لا تتوقف هناك، فهناك نماذج أخرى قد تكشف لنا أن أسوء لحظات حياة الإنسان قد تكون لحظة يقع فيها كتابٌ بين يدي ذلك الإنسان، أو لحظة يستطيع أن يقرأ فيها ذلك الإنسان ذلك الكتاب، والكلام هنا لا يجب أن يختص فقط بكتب نعرف مسبقاً أنها كتب تخص الإرهاب أو التطرف أو العنصرية أو الطائفية، فالخطر الأكبر قد يكمن فيما لا يراه الإنسان خطراً، لا فيما نراه خطراً، وندرك طبيعة ما فيه من خطر، ونعرف حقيقة محتواه. إن الفخ الأكبر يمكن أن يكمن لنا فيما نهواه، ونحترمه، ونعتقد أنه بلا خطر، وندافع عن محتواه، بينما الخير قد يكون في ما يخالف ذلك.

لذا، إذا تجاوزنا هذا النموذج السابق حول قضية الرواية وحادثة القتل، باعتباره جزئية نقاش هنا فحسب، واعتبرناه مدخلاً فقط لإثارة الجدل والتساؤلات حول ”الخيرية المطلقة للقراءة“ التي يطرحها أو يتصورها أو يصورها لنا البعض، فيمكننا أن نستمر في طرح المزيد من الإشكالات والأسئلة والتساؤلات حول الخيرية المطلقة للقراءة، لنتساءل عن: جدوائية القراءة العشوائية، ومخاطر القراءة، وطبيعة القاريء وحاجاته، وطبيعة المقروء وقيمته للقاريء، وتفاوت الحاجات، وشرور المحتوى، والحاجات الملحة للفلترة، وعقلية القاريء، وقدرات القاريء على التشخيص والفرز، وعيوب القراءة الإنتقائية والمحصورة والمسيجة بسياج والمحاطة برقيب، وإيجابياتها... وغير ذلك.

هذه كلها يمكن أن تكون محاور تساؤلات خصبة، يمكن الغوص فيها بعمق، إذا اعترفنا أن القراءة ليست خيراً مطلقاً دائماً. ونحن هنا فقط نحاول فتح نوافذ للقاريء على بعض ما في مثل تلك التساؤلات من محتوى بما يتيسر لنا، كي لا تضيع أعمار الناس في هدر الوقت، وكي لا يضيع مستقبل إنسان بسبب قراءة كتاب أو متابعة محتوى.

ويمكننا القول هنا، أن القراءة العشوائية بلا ضابطة، هي مثل النزول إلى شاطيء البحر لصيد بعض الأسماك في ليلة ظلماء، دون معارف سابقة بالبحر ولا بالصيد، ودون أخذ أية احتياطات أو احترازات أو حماية.

وفي تصورات الصياد المبتديء، أحلام وردية بحجم السماء، بحجم الصيد ووفرة الأسماك التي سيصطادها، وسهولة الإصطياد، وفي أحلام القاريء المبتديء، أحلام وردية تجعله يظن أن مجرد القراءة العشوائية، ستجعله مثقفاً واعياً أو عالماً فطحلاً، وأنه ليس بحاجة لأسس وقواعد ضابطة ولا فلاتر ولا بوصلة، يتم بها ضبط القراءة على الوتر الصحيح.

وفي كلا الحالتين، تفشل الأحلام الوردية في تصوير العالم لنا على حقيقته، فأسماك القرش قد تختبيء في مياه الشاطيء، والمنحدرات العميقة قد تكون قريبة جداً من المياه الضحلة، كما أن القاريء قد يقرأ أفكاراً مسمومة لجهلة أو قتلة، وقد يكون ما يقرأه مجرد هراء أو أوهام وخيالات، وقد يكون أقل ضرر يصيبه من أضرار خوضه في مياه بحر القراءة العشوائية، هو هدر العمر والجهد وضياع الوقت والمال.

لكن القراءة المقيدة والمفلترة، هي أيضاً مشكلة أخرى تواجه القراء وقد تحجب الخير والحقائق، فهي قد تجعلك مثل الأسد المقيد في قفص، يأكل فقط ما يقدم له في ذلك القفص، فإن لم يقدم له شيء، أو قدم له ما هو سيء هناك، فسيمرض حتماً ويذوي ويموت، أو يعيش ضعيفاً هزيلاً بلا قوى، بينما مكان الأسد الطبيعي الذي أراده الله، هو مع أقرانه في الغابة رغم مخاطرها، فالفرائس موجودة تنتظر في الغابة لا في القفص، وطبيعة الحياة في الغابة أن تضع الأسود على خط الخطر والمنافسة لتقويتها لتنتج منها سلالات قوية، ومن واجب الأسد هناك في الغابة أن يضع الخطط، وأن يتصرف بمسؤولية ونضج، لينجو من الأخطار والأهوال، فإن لم يكن أهلاً للنجاة وخوض التحديات، فعليه بالبقاء في القفص، وتحمل إجراءات القدر هناك، لأن حياة الغابة لن تقبل بالوهن والضعف، ولن تستسلم للسلالات الضعيفة.

والقاريء أيضاً، يمكنه أن يحصر قراءته ضمن تيار أو قبيلة أو عقيدة، فيعيش على فتات ما يلقى له، بينما يمكنه أن ينطلق ليعيش تحديات الحياة الحقيقية، باحثاً ومنقباً بمسؤولية ونضج عن المعارف الواسعة الحقيقية، التي يمكنها أن تغذيه وتسمنه جيداً، في شبكة واسعة من غابات الحياة المعرفية، التي لا تحدها القيود، والتي يضيق عنها القفص.

وهنا بين إيقاع المقيد والحر، والعشوائي والمنضبط، في عالم القراءة، لا بد من طرح التساؤل الكبير: إذا كانت للقراءة مخاطر وفي المنشورات سموم، وكانت القراءة العشوائية الحرة خطرة، وكانت القراءة المقيدة والمفلترة خطرة أيضاً، فكيف يمكن أن نتصرف أو أن نعيش في عالم القراءة هذا؟.

قد يقرأ الإنسان فيقع ضحية أفكار دينية أو سياسية هدامة، وقد ينزلق نحو عنصرية مقيتة ضد طائفة أو جماعة أو جنس، وقد يقرأ ثرثرات لا تسمن ولا تغني من جوع تسرد في عبارات منمقة وأساليب علمية أو بلاغية، وقد تطرح تحت مسميات عقائد أو علوم، وقد يقرأ الإنسان بتبحر وتعمق في مجالات علمية ومعرفية نافعة لا تخصه، تجعله كمن يبحث في الغابة ليصطاد سمكة تعيش على الشاطيء، فيتبحر في المجالات الخطأ، وقد يكتفي بصيد البحر، ورزقه موجود بوفرة على البر، بينما تجده وقد حصر نفسه في قراءة ضيقة تضيق عليه الحياة الواسعة، وقد يقرأ الإنسان معلومات في مجلدات ونفس المحتوى موجود في كتاب واحد فقط، وقد تقرأ لكاتب أسلوبه غامض، وأنت لا تتقن فك ألغازه، والبديل متاح لك وموجود، لكنك لم تحسن الإختيارات.

إن القراءة هي معركة القاريء، وفن القاريء، والفلترة الجيدة ليست مهمة سهلة، لكنها ضرورية ومطلوبة وواجبة، وإن كان بعض جوانبها عسيراً على كثير من القراء، إلا أن اليسير منها أقلاً: أن تقرأ بانفتاح، ولكتاب ومؤلفين مرموقين ومحترمين، وأن تركز على دور نشر محترمة، وأن توائم بين حاجاتك الحياتية والمعرفية وما ستقرأ، وأن تستشير وتناقش وتجادل باحترام. لكن رغم كل المحاولات، ستبقى القراءة، ومتابعة المحتوى الجيد المنشور، معركة هزيمة أو انتصار، نحتاج فيها للإنتقال بلا شك، من العشوائية إلى الإحتراف.

وسيبقى العنوان العريض هنا، أمام القراء والمتابعة، وتحديات القراءة والمتابعة، هو: ”ليس المهم فقط أن نقرأ وأن نتابع، لكن من المهم أيضاً أن نعرف كيف نقرأ وكيف نتابع، وأن نتقن كيف نختار ما نقرأ وما نتابع“.

كاتب سعودي «القطيف»