قراءة في كتاب «الإنسان بين ثقافتين - ثقافة الأرض وثقافة السماء»
البناء المعرفي النظري بدون دراسة التاريخ وبدون ملاحظة الواقع وتجاربه وتطبيقاته تعطي أحكاما عاطفية غير موضوعية، هذا ما يتهم به الخطاب الديني وتأثيره على المجتمع الذي يقرأ الأحداث والأزمات بنظرة روائية عاطفية وبمنطق «المفروض» البعيد عن الواقع، واقع عوامل التحكم فيه اقوى من الخطاب النظري، يرى واقع نجح بالعلم وأن العلم هو المطور للحياة وسبب التقدم التقني والصحي والترفيهي هذا النجاح العلمي المعتمد على العقل والعلم وأن كان مؤقتا الا أن الإنسان بمتوسط عمره مهما امتد لا يرى إلا هذا العلم الدنيوي المسبب للتطور لكن عندما نؤرخ لمسيرة وتاريخ البشر نجد الكوارث والمصائب التي تسبب بها البشر طمعا في استغلال مواردها الطبيعية بكل وسيلة، أراد الإنسان أن يستغلها ويستثمرها فيما يفيده ماديا بعيدا عن أي تعليمات وارشادات دينية وكانت النتائج كارثية هذا ما نجده في تلوث البيئة واختلال التوازن البيولوجي والاحتباس الحراري المدمر للمناخ والمهلك للكائنات الحية فحدثت الفيضانات والزلازل والاعاصير، بعد جائحة كورونا اتجه الكثير وخصوصا العلماء والمتخصصون بالقول انها أحدى نتائج طغيان البشرية والطمع في الاستثمار الاقتصادي والتنمية البشرية بعيدا عن الاخلاق وعن كل نظام يحفظ توازن الطبيعة وكأن الكوارث الطبيعية أحدى نتائج هذا ما جنته أيديهم من فساد بالأرض.
بالرغم من اهمية الخطاب المنبري الديني، صوت الوعي والارشاد لكن بعض مضامين الخطاب الديني بقي في نطاق المفروض والرواية التي تقدم من وجهة نظر الخطيب مع تنامي المتعلمين والمثقفين المتسائلين الذين يثيرون علامات استفهام عديدة من واقع حياتهم ويريدون أجوبة منطقية وعقلية، مع ايماننا الاكيد بأن الله هو الخالق والمدبر والحكيم العالم بمصالح العباد لكن يبقى الإنسان بجانبيه الخير والشر والذي يغلب عليه الشر نتيجة حب الدنيا والطمع في صراع نفسي يغلب عليه الجانب الدنيوي، لا تتعدى نظرته ابعد من مناظر الدنيا الزائلة، فهو يعيش واقعا يريد الانتصار المادي فيه.
التحديات الثقافية تتضاعف والمعلومات في تجدد، تهجم على عقول الشباب بأدوات ووسائط مغرية، لذا نحن بحاجة لخطاب منبري على مستوى التحدي يستطيع مواجهة هذا التدفق الثقافي ومعالجة الاشكالات الفكرية.
سماحة الشيخ أبو عبدالحميد الهديبي صاحب تاريخ طويل في الخطابة المنبرية امتدت اكثر من نصف قرن وتجربة اجتماعية وثقافية عاصر الكثير من الشيوخ والخطباء والمثقفين وكان له حوارات ونقاشات اكسب واكتسب فكريا وتكونت لديه حصيلة ثقافية عميقة وواسعة، بعد هذه التجربة المنبرية بدأ في التأليف وتحويل محاضراته إلى كتب التي تحفظ تاريخه المنبري ومسيرة عطائه الديني والثقافي والاجتماعي.
سماحة الشيخ أبو عبدالحميد الهديبي في كتابه الذي أصدره قبل أكثر من سنتين «الإنسان بين ثقافتين - ثقافة الأرض وثقافة السماء»، يقرأ الإنسان الذي يعيش الصراع بين الحياة الدنيوية والحياة السماوية والتوازن بين هاتين الثقافتين الأرضية والسماوية.
الإنسان الذي تتجاذبه مغريات الحياة وتغرقه في بحر المظاهر الدنيوية لكن ثقافة الدين السماوي هي الخلاص من الانغماس في غرائزه وتذكره دائما أن الدنيا محطة عبور إلى دار قرار وبقاء.
التوازن في التعاطي بين متطلبات وضروريات ثقافة الأرض وثقافة السماء ﴿وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ ۖ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا ۖ وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ﴾.
الآيات القرآنية والأحاديث النبوية وروايات الأئمة وخصوصا ما ورد في نهج البلاغة ذلك الكتاب الكنز الذي لم يقرأ من المتخصصين قراءة تحليلية كل حسب تخصصه في العلوم الدينية والدنيوية لأستغنينا عن كثير من النظريات الفكرية النابعة من ثقافة وبيئة مختلفتين، أغلب ما نقرأه من تحليلات نفسية وتربوية واجتماعية واقتصادية وثقافية وعلاقة الإنسان بأخيه الإنسان وعلاقته بالطبيعة موجودة بهذا السفر الجامع في معانيه الواسعة المتجددة وبالصحيفة السجادية ورسالة الحقوق للامام السجاد وما ورد عن الأئمة المعصومين .
كتب سماحة الشيخ حبيب الهديبي حفظه الله بعد خبرة طويلة مع المنبر الحسيني وعلاقة تفاعلية مع جماهير المنبر بمختلف مستوياتهم التي اتاحت له معرفة ثقافة المجتمع عن قرب، فأنتج كتبه التي تجمع ما بين النظرية وملاحظات متراكمة ومتنوعة من وقائع وتجارب اجتماعية فتكونت لديه قدرة المقارنة والتقييم والمقاربة بين واقع يعيشه المرء سيطرت عليه مظاهر المادة وأبتعد عن مبادئ وقيم السماء ورسالة السماء التي بُعث بها نبي الأمة واستمروا بها الأئمة الاطهار .
كتاب الإنسان بين ثقافتين يحاكي ويستنطق واقع مثل ما نعيشه الآن من ارهاصات وتحديات لكنها اوسع وبوسائل اكثر تأثير من خلال ثقافة المنتصر علميا وتقنيا، الإنسان الذي يرى امور الحياة بمنظور ثقافة دينية وسماوية وآخر ينظر بمنظار دنيوي فقط وهناك من يعيش بأداتين العقل والعلم من جهة وانبهار بما يرى من اختراعات وابتكارات من أمم لا تهتم بالدين كمنهج حياة، واقع الدول والشعوب المختلفة اصبح مكشوفا للكل وقادم بشكل مبهر للمسلمين ويستولي على فكر الشباب.
ما يحتويه كتاب الإنسان بين ثقافتين خصائص الشخصية الإيمانية التي تتحلى بالوعي الديني والفكري ﴿قُلْ هَٰذِهِۦ سَبِيلِىٓ أَدْعُوٓاْ إِلَى ٱللَّهِ ۚ عَلَىٰ بَصِيرَةٍ أَنَا۠ وَمَنِ ٱتَّبَعَنِى﴾ لو اتبعت المنهج السماوي والرباني، سبيل الله لا يعرف خصائصه إلا من خلال الأحاديث النبوية وفهم العلماء والمفكرين والمفسرين والمتأملين للآيات والنصوص الدينية مع قراءة الحياة بواقعية.
من يقرأ الكتاب ويحلل الحوادث التاريخية والبشرية يستفيد من التجارب التي حدثت ونتجت عنها تداعيات تمس البشر، هذه النتائج نعيش انعاكساتها وآثارها إلى يومنا هذا، فينبغي دراستها وتحليلها قال الله تعالى ﴿قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآَخِرَةَ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾، وقال الله سبحانه وتعالى ﴿قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْض فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَة الَّذِينَ مِنْ قَبْل كَانَ أَكْثَرهمْ مُشْرِكِينَ﴾.
من يتابع وقائع التاريخ يجد تكرار الخطأ والفاعل هو الإنسان الذي كلما ابتعد عن الدين والثقافة السماوية تمسك بما تحت قدميه لأنه أصبح لا يشعر إلا بالملموس والمحسوس، فهو يتألم كلما فقد شيئا من مقتنيات الدنيا الفانية، أما من يتصل بخالقه والمدبر لشئون حياته في الدنيا ويتبع ارشاداته يجتاز دار الحياة المؤقتة بأمان لآخرة دائمة ونعيم لا ينضب وسلام لا ينتهي قال الله تعالى ﴿وَأَنَابُوا إِلَى اللَّهِ لَهُمُ الْبُشْرَى فَبَشِّرْ عِبَادِ الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ﴾.
من أهداف الإنسان في الحياة الدنيا اعمار الأرض وتنمية الحياة وتحسين جودتها وهذا لا يكون إلا بالعلم والاجتهاد في البحث والدراسة لكن العلم الدنيوي وحده لا يكون نافعا بدون قيادة ربانية توجه هذا العلم للمنفعة البشرية من غير ضرر للطبيعة والبيئة والإنسان، علاقة الناس بالطبيعة وكائناتها تُحكم بالتعاليم والارشادات الربانية وبمنظومة اخلاقية إنسانية حتى لا يطغى الإنسان بقوته ويستغل علمه في تدمير الارض وينتج عنه عدم توازن طبيعي وبيولوجي، هذا ما حدث بالفعل عندما طغت المادة واهتم الإنسان بالكسب المادي على حساب عناصر وعوامل الطبيعة فحدث الفساد بالأرض واختلت طبيعتها وظهرت اضرارها وفقدت البيئة بعض كائناتها التي تحفظ عوامل الحياة للبشر وبقية النباتات والحيوانات.
ما تواجهه دول العالم من فيصانات بسبب ارتفاع الحرارة وتلوث بيئي مدمر للنباتات والحيوانات، إلا أحد نتائج طغيان المنهج الدنيوي وهيمنة ثقافة الاستهلاك من أجل الربح والمنفعة المادية.
هذه جائحة كورونا تقول لكل من يرى الحياة بمنظار المادة، قدم علاجا للأخطاء، وابتكر حلولا لما انتجه فيروس كورونا من تعطل الحياة الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، هل يستطيع إنسان هذا العصر أن يقدم حلولا بالعلم والعقل فقط؟، نحن نرى كل فترة، العجز في اكتشاف لقاحات وعلاجات لفيروسات لا ترى بالعين المجردة.
لا أحد ينكر ما قدمه العلم والعلماء في التنمية الشاملة المستدامة ولا يعني عدم الأخذ بالأسباب والعمل بالأبحاث والدراسات العلمية والسعي والاجتهاد في البحوث العلمية لأيجاد حلولا للأزمات والقضايا البشرية من خلال الفكر والاجتهاد العلمي، لكن التسليم بكل ما يأتي به العلم فقط مع اغفال اليد الخفية والغيب وعدم الاستعانة بالدعاء والتوسل والذكر التي تبعث على الاطمئنان والثقة والراحة النفسية هذا المختلف عليه.
الكل شاهد أهوال المناظر في دور العجزة والمسنيين والمستشفيات بدول جعلت من العقل فقط مفتاح الحلول الحياتية في جائحة كورونا وتعرت المنظومة الاخلاقية لدول تنادي بالقيم الإنسانية منذ تأسيسها.
المطلوب التوازن الروحي والمادي في زمن طغت عليه الماديات وطغى الاستهلاك.
يختم شيخنا الفاضل في كتابه ببعض التوصيات التي تساعد البشر على مقاومة مغريات الحياة وتحمل آلامها، ”الإيمان نصفان، نصف صبر ونصف شكر“،
ويربط الكتاب الصبر بالتقوى ”جعل الصبر مطية نجاته والتقوى عدة وفاته“، ترويض النفس بالصبر الذي يرفعه إلى مراتب عليا من التقوى.
”لأنَّ الله لم يُنْزِله لزمان دون زمان، ولا لناس دون ناس، فهو في كلِّ زمان جديد، وعند كلِّ قوم غضٍّ إلىٰ يوم القيامة“، حسب هذه الرواية من يقرأ القرآن ويتدبره يجد فيه كل جديد ومناسب لزمانه وعصره، فوضوح الرؤية بالحياة ضروري لتجاوز عقبات الدنيا بسلام وأمان.
من لديه بصيرة يحدد رسالته بالحياة الدنيا، يسعى إلى تطوير نفسه ويغتنم الفرص في المساهمة بالتنمية والشراكة الثقافية والاجتماعية ويؤدي ادواره بالحياة من غير لبس ويحقق أهدافه التي تنفعه وتفيد مجتمعه في إطار الثقافة الدينية.
”إن دولتنا آخر الدول ولم يبق أهل بيت إلا حكموا قبلنا لئلا يقولوا إذا رأوا سيرتنا إذا ما كنا بمثل سيرة هؤلاء وهو قوله تعالى: ﴿والعاقبة للمتقين﴾“. يقول الشيخ في كتابه ”إن دولة أهل البيت لا تقوم ألا بعد أن تعيش البشرية التجربة…“.
قال امير المؤمنين ”رحم الله امرأً سمع حكما فوعى“، مع هذه المعرفة لا بد من الوعي بأنواعه الديني والاجتماعي والثقافي حتى يقارن ما يقرأه من نصوص دينية وواقع يعيشه وتتوازن فيه في الروح والمادة، هذا التوازن يأتي بالتأمل والتوجيه والارشاد ”ودعي إلى رشاد فدنا“، وفي بعض عبارات الكتاب ”فالإنسان المؤمن إيمانا واعيا يعيش رؤية بعيدة وشاملة يتجاوز الحس“، في عالم التقنية والمعرفة والمعلومات المتدفقة يسهل على الباحث عن الحقيقة أن يهتدي إلى الطريق المستقيم الذي يعمر الأرض ويجتهد فيها بالأخذ بالاسباب وهذا ضروري للاعمار والاستمرار لكن من خلال الارشاد الالهي والتعاليم السماوية التي لا تجعل الحياة الدنيا غاية في ذاتها ونهاية كل مخلوق بدون حساب اخروي.