استلاب العقل والقلب والحس
عندما ”ظهر الصندوق“ الذي يظهر من خلف شاشته الزجاجية ”بشر لا تتوقف عن الكلام والحركة“ وبات جزأ لا يتجزأ من كل بيت، وواحد من أهم أفراد الأسرة الذين لا يمكن الاستغناء عنهم بسهولة.
حين ذاك بدأ الحديث عن ”العمر التالف في الصورة المتخيلة“، بدأت البشرية تصرف الكثير من عمرها فيما لا حقيقة له، ولا يمكن القبض عليه، وتباعد الناس حتى أصحبوا غرباء حتى على أنفسهم.
وسرعان ما تحول الصندوق إلى محمول في أيديهم، وسرعان ما تقبل الناس أن تكون لهم حياة ”بديلة لحياتهم“ وأن تكون لهم صورة تختلف عن حقيقتهم أو لا تعبر بالضرورة عنهم. وبات كل واحد يقدم نفسه بالشكل الذي يحب أن يكون عليه، ويرفعها إلى ما يعجز عنه، أو إلى ما لا يستحقه من الفضائل والصفات.
ثم إن هذا ”المحمول“ مكن الجميع من ”أدوات النفاق الاجتماعي“ بحيث يكون أقرب للتصديق، وأكثر قبولا، وعمد إلى الرياء بالمال والمكانة الرفيعة التابعة لمن الكثير منه وجعلها متاحا للجميع ويسيرة لكل من يود أن يتباهى بما لا يملك ولا يقدر عليه، وحتى الجمال جعله في يد كل طالب، ومكن الجميع من سحب أعمارهم إلى أي مرحلة يرغبوا فيها، وجعل درجة الجمال ونوعه صناعة تنتجها أزرار مطيعة سريعة الوثبة.
هذا التراكم ”للوهم“ و”للحقيقة المزورة“ و”للصورة المتخيلة“. ”وللرغائب المواربة“ و”للشهوات الخبيئة“ باعدت بين الناس وحقيقتهم، وأضعفت وعيهم بواقعهم، ليس في الصورة الذهنية للذات فقط، بل في الانفصام والعجز عن تقبل الذات وهي مجردة من كل الامتيازات الفارهة التي تهبها لها التكنلوجيا.
ثمة قلق يتزايد أن ”ربع“ الطاقة الإنتاجية للبشرية قد تقضي عليها ”الهواتف المحمولة“ وإن ”ساعات التأمل، والالتقاء بالنفس“ باتت أكثر من نادرة، وإن الصحف الورقية ”ماتت بسبب أعراض القراء عنها لصالح الهواتف المحمولة“، وإن ”ساعات الانشغال به تتصاعد“ بشكل أكثر من خطر، وإن وباء عظيما لا يراه أحد، ويعرفه الجميع أسمه ”إدمان الهاتف المحمول“ وإن الحياة الأسرية والاجتماعية تأثرت تأثيرا سلبيا خطرا بسببه. وإن الناس كل الناس باتت أقل صبرا في الجلوس مع بعضهم والنظر في وجوه بعضهم لأن هذا سيصرفهم عن هواتفهم المحمولة، وإن اللقاء بينهم يعني - التجاور - في التصفح، بحيث ينصرف كل جليس إلى هاتفه وهو يمرر الكلام من طرف لسانه!!.
يتحدث العلماء عن تراجعات مقلقة لقوة التركيز، ووظائف الدماغ المتعلقة بالتفكير طويل الأجل، وعن زيادة نسبة ”الشتات“ وبداء عضال أسمه ”الاهتمام طوال الوقت بأمور كثيرة جدا، في موضوعات كثيرة متعددة“ في كل مجالات الحياة، وجميعها لا صلة للمتلقي بها، ولا تأثير لها على حياته، وليس معنيا بها، وإنها تشبه نقل القش إلى حضيرة خيول الجيران دون أجرة ولا طلب من أحد.
والمقلق ضعف التركيز صحب معه قلة الصبر، والعجز عن الصمت، وفقدان الإدراك بإمكانية ”لا أعلم“ فقد تحول الإنسان فجأة إلى كونه ”يعلم بكل شيء“ وقادر على قول كل شيء، وإن هذا كله يتصف باليقين الجازم أنه يمثل الحقيقة المطلقة والكلمة الفصل.
إن النفوس غيرت صفاتها بوعي منها أو بدون وعي، وإن العقول تضمر بوعي منا أو بدون وعي، وإن العوالم الافتراضية تبتلع العالم الحقيقي للناس، وإن الناس مشغولون على الدوام بصورة ذواتهم، ونظرة الناس إليهم، أكثر من انشغالهم بذواتهم الحقيقية، وإن المارد الذي خرج من الصندوق المتكلم سحر أعين الناس واستلب منهم عقولهم وحواسهم وقلوبهم أيضا.
وهي فتنة لا نجاة لأحد منها إلا من رحم وعصم.