النكته وارتباطها بالواقع الاجتماعي
الفكاهة فن من فنون الكلام وظاهرة رمزية مهمة للتمثيل الاجتماعي، لا يمكن تبرئتها تماماً فهي لا تحتمل الخلط أو التخصيص لكونها تعتمد على السخرية والتشفي والشماتة أو تحقير الأفكار أو ذات ومشاعر الآخرين، بحيث يُعطي معنى وتحدث فائدة وتصنع هدفاً، وتُعلم قاعدة وتشرح مفهوماً مبهماً حيث تتحول النكتة لأداة من أدوات التعلم واكتساب الخبرة والمعرفة، ولا ينبغي هنا أن نتعامل معها كوسيلة للضحك والدعابة، أو وسيلة لإدخال السرور على النفس، بل كابتكار إنساني حاد الذكاء ووسيلة من وسائل التعبير الصريح لتضمنها كافة الآراء والمواقف المختلفة في قالب متناقض وصادم للعرف والمنطق المتعارف عليه.
معنى النكتة: - ”نٌكته ونِكت ونَكات ونكُتات“ بعنى الأثر الحاصل على الأرض أو النقطة في الشيء تخالف لونه أو العلامة الخفية أو الفكرة اللطيفة المؤثرة في النفس أو المسألة العلمية الدقيقة يتوصل إليها بدقة وإنعام فكر.
سيغموند فرويد «طبيب مؤسس علم التحليل النفسي وصاحب نظرية ”العقل واللاوعي“» عرف النكته ”بأنها ضرب من القصد الشعوري والعملي يلجأ إليه المرء في المجتمع ليعفي نفسه من أعباء الواجبات الثقيلة ويتحلل من الحرج الذي يوقعه فيه الجد ومتطلبات العمل“، وصنفها إلى مجموعتين نُكات بريئه ومُغرضة، الأول يتوافق مع أولئك الذين هدفهم الوحيد هو إضحاك الناس، وبالتالي تعرف شعبياً بالنكت البيضاء التي تهدف للتسلية والاسترخاء.
أما الأخرى المُغرضة فهي تلك التي تحتوي على مستوى معين من العداء أو الفحش أو العدوان أو للإثارة النفسية.
كما عرفها الفيلسوف الفرنسي هنري برجسون بقوله ”لا مضحك إلا ما هو إنساني“.
وكشفت نتائج دراسة أجرتها جامعة ولويرامبتون البريطانية أن ”النكتة“ قديمة التاريخ حيث إن الفراعنة بمصر والسومريين في جنوب العراق، هم أول من استخدموا ”النكته“ وروح الدعابة والفكاهة للتخفيف من حدة ما يواجهونه من مصاعب ومتاعب السلطة.
كما نقلت صحيفة ”ليبراسيون“ الفرنسية عن هذه الدراسة أن أقدم ”نكتة“ ألقاها إنسان على وجه الأرض تعود إلى 3900عام، عندما استخدم السومريون الذين يقطنون جنوب العراق ”النكته“ للتعبير عما يعانونه من متاعب من زوجاتهم ”النكديات“.
وأن أقدم ”نكتة“ فرعونيه فتعود لعام 1600 قبل الميلاد، وجدت محفورة على المعابد المصرية القديمة وبالتحديد في عصر الملك سنفرو.
ويقول أستاذ على التاريخ بجامعة ولويرامبتون الدكتور بول ماكدونالد الذي نجح من خلال هذه الدراسة في جمع أقدم 10 نكت في التاريخ، إلى أن ”النكتة“ كانت تتغير بتغير الأزمنة والقرون فتارة تأخذ شكل فزورة أو لغز وتارة أخرى تأخذ شكل الفُكَاهة والدُعَابة، لافتاً على أن الغرض من التنكيت من فجر التاريخ هو تناول موضوعات محظور الاقتراب منها بروح الدعابة للتملص من الوقوع تحت طائلة القانون.
فالنكتة هي مظهر من مظاهر الأدب الشعبي ولوناً من ألوان القصة القصيرة المعبرة عن واقع معاش بكلمات مترابطة ومتسلسلة قد لا تتجاوز الجملة الواحدة، مُعتمدة على أسلوب التكثيف الشديد من بداية ونهاية وحِبكة وقد تكون منطقية أو غير ذلك، حاملة فكرة عميقة مؤدية لمعنى واضحاً قادر على النفاذ في نفوس متلقيها موجبة للضحك والسعادة والانشراح وإن تضمنت مفارقات بعناصرها ومفاجئات خارجة عن المألوف وغير متوقعة وغريبة تسبب بالاندهاش المقترن بالمتعة والارتياح والضحك.
أضحت ”النكته“ تُستخدم إعلامياً لتحقيق أهداف غير ملحوظة للعامة، لكنها واضحة جداً للخاصة، للمعنيين بالأوضاع الاجتماعية والإنسانية وأصحاب القرار، لهذا أصبحت النكتة ممغنطة وجاذبة لاهتمام الناس كونها استطاعت التعبير عن همومهم ومعاناتهم وأحوالهم المعيشية والاجتماعية، فنجاح النكتة كوسيلة تعبير ودعابة لا يتوقف فقط على مهارة المحتضن بطرحها أو من جبلتهم طباعهم على استخدمها كوسيلة تعبيرية دائمة عن ما يدور حولهم من أحداث يومية، بل إن نجاحها يتوقف على من يتلقاها ويستوعبها ويحاول ربطها بواقعه اليومي والاجتماعي المُعاش، وفي ظرف زمني قصير لا يتعدى ثواني معدودات، ولكنها تبقى وسيلة وليست غاية وأداة فاعلة في التخفيف من حدة الواقع بكل متغيراته السلبية أو الإيجابية، معبرة عن موقف جماعي لفئة عريضة من الناس صيغة بلغة عامية ومفردات بسيطة سهلة الانتشار رغم كونها وثيقة غير مدونة تُعوض إلى حد ما عن المقالات والخطب والتحليلات المتخصصة ومعبرة عن رأي ومشاعر ومواقف أصحابها دون تحديد هوياتهم بوسيلة من وسائل الفن الكلامي الهزلي المضحك وكوسيلة للترفيه عن النفس وهمومها وآلية للإفصاح عن الاحاسيس المحرمة والمكبوتة.