اليوم العالمي للمرأة
نشوء الرأسمالية في أوربا إبان ثورتها الصناعية الأولى اعتمد بشكل كبير على استغلال قوة العمل الرخيصة في ظل ظروف غير إنسانية وفي مقدمة من استغلتهم بشكل بشع النساء والأطفال.
مع أن الرأسمالية مثلت تاريخياً مرحلة تقدمية وثورية إلى الأمام من خلال القضاء على التشكيل الاجتماعي الاقتصادي السياسي الإقطاعي القديم وتشييدها نمطاً «برجوازياً» مغايرا حديثاً، كما فرضت هيمنتها السياسية والأيدلوجية التي مكنتها من تحرير قوة العمل بما في ذلك عمل النساء والأطفال.
وإزاء تفجر الصراعات الاجتماعية والسياسية، وتنامي الحركة المطلبية والنضالية والثقافية للمرأة في الغرب من ناحية، وتطور الإنتاجية وإدخال المكننة من ناحية أخرى، أمكن تعديل وتطوير كثير من الأنظمة والإجراءات والتشريعات والقوانين في البلدان الصناعية «الرأسمالية» المتطورة التي تكفل الحقوق العامة للمواطنين، ومن ضمنهم النساء ومساواتها «تحقق في فترات ودرجات متباينة» القانونية مع الرجل.
غير أن حياة الغالبية الساحقة من سكان العالم «الجنوب» وفي مقدمتهم النساء والأطفال ما تزال مهددة، يطحنها الفقر والجوع والمرض وانعدام الأمل في المستقبل، وفي ظل العولمة فإن حدة الفوارق بين الشمال والجنوب وبين الأغنياء والفقراء أخذة تزداد اتساعاً وعمقاً.
المرأة العربية لا تزال تخضع بوجه عام إلى إجراءات تمييز ظالمة، وتصادر حقوقها وكرامتها الإنسانية؛ وذلك بسبب القوانين والإجراءات الحكومية والأعراف والتقاليد الاجتماعية والثقافية السائدة، التي يكرسها الفهم المغلق للدين والمجتمع الأبوي الذكوري.
كما ان المرأة والطفولة العربية هما في مقدمة ضحايا العنف والصراعات والحروب، «والذي يشمل العدوان الإسرائيلي المستمر ضد الشعب الفلسطيني والشعوب العربية» والأعمال الإرهابية التي تفتك بالعديد من المجتمعات العربية والتي طالت عشرات الملايين وبخاصة المهجرون والنازحون بصورة قسرية، أوتحت وطأة الفقر والحاجة، كما يقدم الكثير منهم على ممارسة أعمال تتسم بالخطورة على حياتهم وصحتهم، بما في ذلك الهجرة غير الشرعية، والانخراط في المليشيات والجماعات المسلحة، أو ضمن عصابات الإجرام المنظمة التي تمارس نشاطات غير مشروعة، مثل تجارة المخدرات والسرقة والسوق السوداء والدعارة.
والتي فاقمها تصدر المجموعات الإرهابية والمتطرفة والتكفيرية «تحت شعارات إسلاموية» المشهد السائد في عديد من البلدان العربية كسوريا والعراق وليبيا واليمن والصومال وأفغانستان وغيرها، كما نشير بشكل خاص إلى سيطرة ما يعرف بتنظيم الدولة الإسلامية «داعش» على مناطق واسعة في سوريا والعراق، وإخضاعها لمناطق واسعة تضم عدة ملايين من السكان في الفترة ما بين 2014 و2017، حيث مارست أبشع الجرائم ضد الإنسانية وفي مقدمتهم النساء والأطفال والتي طالت بشكل أكبر المنتمين للأقليات الدينية «كالإزيديين والمسيحيين» ومن بينها القتل والتهجير وفرض الجزية واسترقاق النساء والأطفال وبيعهن في سوق النخاسة، إلى جانب تجنيد النساء والأطفال للقيام بأعمال ارهابية انتحارية ضدالمدنيين العزل، وغيرها من الممارسات التي تعد جرائم بحق الإنسانية.
جاء في ديباجة ”الاتفاقية الدولية للقضاء على جميع أشكال التمييز ضد المرأة“ أن التمييز ضد المرأة يشكل انتهاكا لمبدأي المساواة في الحقوق واحترام كرامة الإنسان، ويعد عقبة أمام مشاركة المرأة، على قدم المساواة مع الرجل، في حياة بلدهما السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية، ويعوق نمو رخاء المجتمع والأسرة ويزيد من صعوبة التنمية الكاملة لإمكانات المرأة في خدمة بلدها والبشرية.
كما جاء في المادة الأولى يعني مصطلح ”التمييز ضد المرأة“ أي تفرقة أو استبعاد أو تقييد يتم على أساس الجنس ويكون من إثارة أو أغراضه توهين أو إحباط الاعتراف للمرأة بحقوق الإنسان والحريات الأساسية في الميادين السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والمدنية أو في أي ميدان آخر، أو توهين أو إحباط تمتعها بهذه الحقوق أو ممارستها لها، بصرف لنظر عن حالتها الزوجية وعلى أساس المساواة بينها وبين الرجل.
رغم الاتفاقيات والتشريعات والبروتوكولات الملحقة الدولية المتعددة المتعلقة بحقوق المرأة التي صدّقت عليها غالبية الدول في العالم، فإن التمييز والاضطهاد متعدد الأشكال الواقع على الأطفال والنساء في العالم هو في تصاعد وتزايد مستمرين ولم تفلح الإجراءات والأهداف العامة ومن بينها ما صدر عن مؤتمر القمة العالمي من أجل الطفولة العام 1990 ومؤتمر المرأة في بكين العام 1995 وما تلاهما من مؤتمرات في الحد من مضاعفاتها الخطيرة وإيجاد بيئة جديدة يتمتع فيها الأطفال والنساء بوضع صحي وتعليمي واجتماعي مناسب.
وقد قدم تقرير التنمية البشرية الصادر عن الأمم المتحدة العام 1995 فكرة معيار تمكين المرأة، لقياس مساهمة المرأة التي يعكسها الدخل لكل فرد، وحصة المرأة في المراكز المهنية والتقنية، وحصتها في قاعة المجالس النيابية، وقد وجد أن ترتيب العالم العربي أقل من أية منطقة أخرى في العالم، عدا إفريقيا جنوب الصحراء. كما أن نصف الإناث في الوطن العربي أميات ومعدل الوفيات من النساء الحوامل وحديثات الولادة ضعف نظيره في أميركا اللاتينية، وأربعة أضعافه عن شرق آسيا.
تقرير التنمية الإنسانية العربية للعام 2002 أكد ثلاثة نواقص أساسية تواجه جميع الدول العربية وهي نقص الحرية، ونقص تمكين المرأة، ونقص المعرفة. وفي سياق متصل، أكدت المنظمة العربية للتربية والثقافة أن عدد الأميين العرب بلغ أكثر من 70 مليون أمي «ثلثاهما من النساء» في العام 2005 وبنسبة تتجاوز 35%، وهو ما يساوي ضعف معدل الأمية في العالم.
جاء في تقرير التنمية العربية الإنسانية للعام 2009 أنه مازالت أنماط القرابة الأبوية والتمييز الذي يجيزه القانون والإخضاع الاجتماعي والهيمنة الذكورية المتأصلة تكبل المرأة العربية على العموم، وهي، بحكم منزلتها الضعيفة في ما يتعلق بصنع القرار داخل العائلة تتعرض باستمرار لأشكال العنف الأسري والممأسس. وتشمل تلك الممارسات المدرجة في الفئة الأولى كل أشكال الاعتداء الجسدي التي تراوح بين الضرب والاغتصاب والقتل.
وتختلف ممارسات العنف المبني على الجنس أو العنف ضد النساء بحسب الثقافات ومفاهيمها، إلا أنه يمكن تعريف «العنف» بشكل عام - وفقًا لمنظمة الصحة العالمية - على أنه ”كل الأفعال العنيفة ضد المرأة التي ينتج منها أو من المرجح أن ينتج منها أذى جسدي، جنسي، معنوي، أو اقتصادي، أو أي معاناة للنساء، أو التهديد بها بواسطة الإكراه، أو المنع التعسفي من الحرية، سواء حدث ذلك داخل الأسرة، أو في الحياة الخاصة“
أما النوع الثاني فهو وقوع المرأة ضحية لممارسات ثقافية واجتماعية تلحق بها، مثل تشويه الأعضاء التناسلية للإناث «الختان»، وتزويج الفتيات في سن الطفولة وحقوق الولاية والقوامة للرجل على الزوجة والتي كرسته قوانين الأحوال الشخصية في غالبية البلدان العربية، كما تندرج جرائم قتل النساء بدواعي الشرف ضمن الممارسات البشعة التي تتعرض لها النساء.
المرأة العربية لاتزال تخضع إلى إجراءات تمييز ظالمة وتصادر حقوقها وكرامتها الإنسانية، وذلك بسبب القوانين والإجراءات الحكومية والأعراف والتقاليد السائدة التي يكرسها الفهم المغلق للدين والمجتمع الأبوي الذكوري.
إن تغيير واقع المرأة والطفولة في البلدان العربية يتطلب اتخاذ إجراءات جذرية لإصلاح البنى السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية، ومن بينها سنّ التشريعات والأنظمة الحديثة التي تحد من اضطهاد المرأة ومنعها من القيام بمهماتها ووظائفها، بما في ذلك نيل وممارسة حقوقها الاقتصادية والاجتماعية والسياسية كافة، جنباً إلى جنب مع الرجل، وبما يتفق مع إمكانياتها وخصائصها الإنسانية، والتي لا تتعارض مع جوهر التعاليم والمثل الدينية، وتتفق مع المبادئ والمفاهيم الأخلاقية والقيم والمعايير الكونية، والقوانين والتشريعات العالمية ألتي وقعت عليها «مع إبداء تحفظات معينة» غالبية الدول العربية.
على صعيد بلادنا حدثت تطورات مهمة على صعيد حقوق المرأة في السنوات الماضية، ونشير هنا إلى توسيع نطاق عمل ومشاركة المرأة في شتى المناشط والقطاعات الحيوية ومن بينها تسلمها مواقع قيادية في الأجهزة الحكومية المختلفة ومشاركتها في عضوية مجلس الشورى ووزيادة نسبة مساهمتها في عمالة القطاع الخاص، وحصولها على حقها في الترشح والأنتخاب للمجالس البلدية وغرف التجارة، والجمعيات المهنية، إلى جانب تمكين المرأة في قضايا مهمة مثل إلغاء شرط موافقة أو مرافقة الكفيل «الأب أو الزوج أو الأخ وخلافه» في قضايا حيوية مثل الدراسة والسفروالعمل والحصول على جواز السفر.
إلى جانب الإنفتاح الاجتماعي والسماح للمرأة بارتياد دور السينما والمسرح والموسيقى والملاعب الرياضية، وغيرها من الأماكن العامة، إلى جانب الحد من تجاوزات وتدخلات رجال هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
كما نقف عند الحدث الأبرز بالنسبة للمرأة التي تشكل نصف المجتمع، وهو صدور المرسوم الملكي السامي الذي أصدره العاهل السعودي الملك سلمان بن عبدالعزبز وتضمن السماح للمرأة السعودية بقيادة السيارة والذي دخل مرحلة التنفيذ في 24 يونيو 2018.
على هذا الصعيد نستذكر جهود وتضحيات المناضلات في بلادنا من أجل نيل حقوق المرأة ومساواتها مع الرجل في المجالات كافة،
غير أنه لا يزال هناك العديد من المعوقات الاجتماعية الثقافية والبيروقراطية؛ إذ رصدت العديد من التقارير واقع المرأة في السعودية، ومن بينها حالات ومظاهر العنف الأسري ضد الأطفال والنساء المتزوجات، وذلك وفقًا لتقارير وإحصاءات رسمية وموثقة من قبل جهات رسمية وحقوقية، التي تضمنت قضايا تقدر بالآلاف لحالات إيذاء وعنف وتعذيب جسدي ونفسي وتحرش جنسي.
يتعين هنا التنويه بالمرسوم الملكي الذي أصدره الملك سلمان بن عبد العزيز حول ”نظام مكافحة التحرش“ في شهر سبتمبر 2018، كما درست لجنة الإصلاح الإداري ومجلس الشورى توصيات لإقرار مشروع للحد من إيذاء الأبناء، وإنشاء هيئة وطنية لحماية المرأة والطفل. كما شرعت وزارة الشؤون الاجتماعية بالتعاون مع عشر جهات حكومية في مختلف مناطق المملكة بافتتاح وحدات، أطلق عليها ”وحدات الحماية الاجتماعية“ يكون من اختصاصها التدخل السريع في معالجة حالات العنف الأسري.
ومن جهتها، دعت الجمعية الوطنية لحقوق الإنسان إلى المبادرة إلى وضع حد لمعاناة المواطنات السعوديات المتزوجات من غير مواطنين.. غير أن التقرير لاحظ أن ”كل ما سبق يتلخص في مبادرات ودعوات ودراسات كلها تصب في صالح المرأة والطفل، ولكنها لم تنفذ حتى الآن“
ونذكر هنا بكل صدق وشفافية أن واقع وطموح المرأة في بلادنا في العديد من المجالات كان يصطدم ولا يزال بعقبات عدة من بينها عوامل اجتماعية «مجتمع أبوي ذكوري» وموروثات ثقافية وايديولوجية ومعوقات سياسية وبيروقراطية.
ويكفي أن نشير هنا إلى المراوحة والممانعة التي استمرت طويلا بين بعض مكونات المجتمع، وأطيافه الثقافية والفكرية حول قضايا حيوية مثل جدوى وأهمية تعليم وعمل المرأة في المجالات المتاحة كافة، أو قيادتها للسيارة، وتحديد مواصفات مظهرها وحجابها «وذلك تحت عنوان الخصوصية التي تصورنا طفرة جينية نعيش بمعزل عن كل ما حولنا من البشر» وغيرها من قضايا تتصل بحقوق المرأة الإنسانية الأساسية التي حسمها التطور العالمي في مختلف بلدان العالم، بما في ذلك البلدان العربية والإسلامية، ناهيك عن بلدان مجلس التعاون، التي نتماثل ونشترك ونتداخل معها من حيث طبيعة النظم السياسية، والبيئة الاجتماعية والثقافية السائدة.
هناك العديد من العقبات النظامية والاجتماعية والثقافية التي يتعين تذليلها ومعالجتها من أجل نيل المرأة مكانتها وأهليتها الإنسانية والقانونية، وعلى قدم المساواة مع الرجل في المجالات كافة.
التجربة التاريخية تؤكد أنه لايمكن لأي مجتمع ينشد التقدم والتطور والتنمية المستدامة، وأن يكون عنصراً مشاركاً وفاعلاً في التاريخ والحضارة الكونية، أن يسير بنجاح معتمداً على قدم واحدة، وأن يقلع وينطلق بتوازن اعتماداً على جناح واحد.