منتدى الثلاثاء والتحولات الاجتماعية
لن تفوت الباحث في التاريخ الثقافي المعاصر لبلدان الخليج والجزيرة العربية، ملاحظة أن المؤسسات الأهلية الثقافية والاجتماعية، التي انبثقت في فترات مختلفة من هذا التاريخ تعبيراً عما شهدته مجتمعاتنا من تحولات في الوعي باتجاه المعرفة والتنوّر والانفتاح على العصر، هي التي لعبت دور القاطرة التي قادت هذه التحولات وأطرّتها في صيغ جمعية توعوية، على شكل أندية أو جمعيات ثقافية وأدبية، وأيضاً على شكل أنشطة تحمل طابع الاستمرارية، ساهمت في استنهاض المجتمع، وبلورة طاقات العطاء والإبداع فيه، وتمكين المواهب في مختلف مجالات الثقافة والأدب والفن من التعبير عن نفسها، ومدّ الجسور بينها وبين المجتمع عامة.
ولا يمكن تتبع مسار التحولات الاجتماعية السريعة في بلدان منطقتنا خلال العقود الماضية، من منظور الاقتصاد وحده، خاصة لجهة التركيز على الآثار الحاسمة لاستخراج وصناعة وتسويق النفط في تلك التحولات، فذلك وحده لا يكفي، وإنما من خلال الثقافة أيضاً، والتفاعل المتبادل بينها وهذه التحولات، وتأثير كل منهما في الآخر. فالنشاط الثقافي هو شكل من أشكال الفعالية الاجتماعية، ومع أخذنا بالاعتبار الاستقلالية النسبية للثقافة، فإننا لا نستطيع أن نفصلها عن سياق التحولات الاجتماعية عامة، فاعلة فيها ومنفعلة بها.
فللخليج والجزيرة العربية تاريخ ثقافي حافل وثري بالأعلام من رموز النهضة والتنوير والفكر الإصلاحي، وبمفردات الثقافة النابعة من البيئة المحلية والمنفتحة على الآخر أيضاً، التي طبعت سيمياء المنطقة وشكلت وجدان شعوبها، عبر مراحل تاريخية مختلفة، وهذه الرموز والمفردات هي التي كوّنت صورة مجتمعاتنا اليوم بوصفها مجتمعات حية منفتحة على الثقافة والأفكار المختلفة التي سرعان ما اندمجت في بنيتها، وشكّلت نسيجها الراهن، المتحول هو الآخر والمغتني بالجديد دائماً.
يتعين النظر إلى مجمل الحركة الثقافية، إبداعاً وأنشطة ومؤسسات، رؤية شاملة في تجلياتها المختلفة، بوصفها مظهراً من مظاهر نشاط المجتمع المدني، القائم أو قيّد التشكل في بعض الحالات، عاكسة لأشكال ومظاهر الوعي الاجتماعي والاتجاهات الفكرية في المجتمع في سيرورته وتحوّله من حال إلى حال، وكذلك لوعيه بهويته الوطنية، وما دخل ويدخل عليها من مؤثرات في مجتمعات وجدت نفسها، فجأة، تتحول دفعة واحدة في كل شيء: في الاقتصاد وفي التعليم وفي الثقافة وفي أنماط السلوك.
عرفت المملكة العربية السعودية الشقيقة، كما بلداننا الخليجية الأخرى، الكثير من المؤسسات الثقافية والأدبية، التي وضعت على عاتقها الاعتناء بالنشاط المتنوع الذي يغطي مجالات مختلفة، ولم تحصر نفسها في الأدب أو الفن وحدهما، و”منتدى الثلاثاء الثقافي“، في المنطقة الشرقية من المملكة الذي يحتفل هذا العام بمرور عشرين عاما على تأسيسه نموذج حي على ما نقول. فهو يستضيف، وبصورة منتظمة على مدار شهور السنة، ندوات ومحاضرات وورش ومعارض فنية، دون كلل، وبمثابرة تستحق الثناء والإعجاب بالقائمين عليه. ومن على منصته الأسبوعية حاضرت مئات من الشخصيات الثقافية والمجتمعية سواء من داخل المملكة أو من البلدان المجاورة.
أزعم أن لديّ بعض الاطلاع على الموضوعات والعناوين التي يختارها ”منتدى الثلاثاء الثقافي“ في أنشطته، والفضل الأكبر في ذلك يعود للصديق المثقف جعفر الشايب، الحريص على إيصال أخبار الملتقى للمهتمين، حتى خارج السعودية، فوجدت في الكثير منها ما يعبر عن تلمس القائمين عليه للقضايا التي ينبغي الانصراف لمناقشتها وبلورة الآراء حولها، وكذلك حرصهم على أن تكون ذات صلة بما يمور في المجتمع من تغيرات وانشغالات.
وكان لي، شخصياً، شرف أن أكون أحد من استضافهم المنتدى في أمسية تناولت الشأن الثقافي في منطقتنا، فرأيت بأم عيني الجمهور الكبير المواظب على حضور أنشطة الملتقى، والتفاعل الحي من الحاضرين في النقاش حول القضايا التي يتم طرحها، بما يضفي على الحوار الحيوية والعمق، ويضيء زوايا مختلفة في الموضوعات قيد النقاش.
وما يثلج الصدر كذلك التنوع في الفئات العمرية المختلفة للمواظبين على حضور فعاليات الملتقى، فبالإضافة للمخضرمين، نلمس حضوراَ لافتاً للشباب من الجنسين، الذين لا يحملون في أنفسهم التعطش للمعرفة فحسب، وإنما يجسدون انغراسهم في الحراك الثقافي، بما يتمتعون به من مهارات جديدة تميز الأجيال الشابة عامة، ومن وعي ونضج يفصح عنهما ما يطرحونه من أسئلة ومن أفكار، وفي هذا لعمري دليل عافية لاي مؤسسة منخرطة في الشأن الثقافي، كونه يعكس قدرتها على استقطاب مختلف الأجيال المختلفة، وانفتاحها على الجديد، إن في التفكير أو في المهارات والأساليب.
نشدّ على أيادي القائمين على المنتدى، ونتمنى لهم المزيد من العطاء والنجاح.