آخر تحديث: 21 / 11 / 2024م - 6:12 م

عندما نكتوي بشظايا الأخطاء الطبية

ياسين آل خليل

الأخطاء تحدث في كل مكان، وقد لا يأخذ الأمر طويلًا قبل أن تتكشف خيوط تلك الأخطاء ويدخل مرتكبيها في مساءلات وجزاءات تضع حدا لتجَاوزاتهم الغير مسؤولة. لكن عندما تكون الأخطاء ذات خلفية طبية وإكلينيكية، من الطبيعي أن يكون مقرها المستشفيات ومراكز الرعاية الصحية والصيدليات، عندها قد لا يجد الإنسان البسيط الذي يبحث عن علاج لمرض ألمّ به مفرًا أو ملجئًا يلوذ إليه، دون أن يكون عرضة لشظية من شظايا الأخطاء الطبية الغير مسؤولة والتي يمكن أن تحدث في أي دقيقة أو ساعة وعلى مدار العام.

نحن اليوم بحمد الله نعيش نهضة شاملة يقودها سيدي خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان وولي عهده الشجاع الشاب محمد بن سلمان. هذه القيادة بوعيها ونظرتها الثاقبة والبعيدة والشاملة تحرص بكل ما أوتيت من قوة على سن القوانين ومحاصرة العابثين بالمقدرات الاقتصادية، التي تنال من نهضة هذا البلد الآمن، والأهم من ذلك أنها تمس سلامة وأمن أهم مورد طبيعي، ألا وهو الإنسان.

في العالم الغربي انتبهوا مبكرا إلى أهمية رصد المخالفات الطبية كغيرها من الإحصاءات لما لتلك الأرقام من أهمية وما لها من آثار سلبية على اقتصاديات بلدانهم وتطورها. على أنه لا توجد إحصائيات ترصد أعداد الأخطاء التي تحصل في المملكة وحيثياتها، إلا أن الناس لا يخفون هذه الأحداث ويتناولونها في أحاديثهم وفِي محيطهم الخاص. الإنسان هو عماد أي تطور تصل إليه أي بلد، وهو اللبنة التي يُبنى عليها كل شيئ من تعليم وصناعة وصحة وما دون ذلك من مقومات الحياة. ولهذا أعطى ولي العهد محمد بن سلمان حفظه الله أولوية للإنسان في رؤيته 2030 لأنه يدرك أنه بدون الإنسان لن نتمكن من اللحاق بركب الدول المتقدمة.

علاقة الطبيب بالمريض هي علاقة إنسانية قبل أن تكون علاجية. يُتَوقع من الطبيب المباشر لأي حالة مَرَضِيّة، معقدة كانت أو روتينية أن يكون مُلمًا بجوانبها، يقظًا مُدركًا أهمية أي خطوة يخطوها، حتى يتفادى الوقوع في أي خطأ من شأنه أن يُحول المريض الى ضحية، وبدون وعي، ينسف تلك العلاقة الإنسانية المقدسة بينه وبين المريض. الأخطاء لا تقع إلا إذا توافرت عوامل وأسباب حدوث الخطأ. الإهمال وعدم الاحتراز، وسوء التقدير ونقص المهارة والجهل بما تقتضيه أي حالة، كلها مجتمعة أو واحدة منها كفيلة بوقوع خطأ طبي كان بالإمكان تجاوزه.

لا أخفي عليكم أني كنت أحد تلك الضحايا التي لم يحالفها الحظ. فقبل أقل من شهر وتحديدًا في شهر نوفمبر من هذا العام، ذهبت الى أحد العيادات المعروفة في المنطقة لإزالة بعض الشمع من كلتا أذُنيي. لسوء الطالع، تحولت تلك الزيارة الى كابوس أدخلني في دائرة من الألم والمعاناة النفسية، وتعطيل لمصالحي الشخصية.

ما حدث لي يوم الثاني عشر من نوفمبر، لم يكن حادثًا عرضيًا، فالطَريقة التي تعاملت بها الطبيبة المتدربة كانت بكل وضوح، تنم عن جهل في التعاطي مع أحد أبسط الأجهزة الطبية ”أوتو سكوب“. هذا دون شك يعكس مدى الإهمال والتقصير في التدريب والإرشاد من قبل القائمين على هذه العملية الدقيقة والمهمة من تحضير الأطباء الجدد قبل إعطائهم مهام تفوق قدراتهم الحقيقية. أما الصدمة الكبرى، فهي جهل المتدربة بعملية تنظيف الأذن والتي لا تتطلب الكثير من المهارة. إدخال ”الطبيبة“ أنبوب التنظيف بطريقة خاطئة وضخها الماء بشكل هستيري داخل الأذن جعلني أتيقن أكثر بأن هذه الطبيبة ليست مؤهلة لأداء هذا النوع من العمل، فكيف أسندت لها هذه المهمة ومن هو المسؤول..؟

الآن مرّ شهر على عملية التنظيف الفاشلة التي أحدثت ثقبا كبيرًا لا تقل مساحته عن ثلث مساحة الطبلة. بعد مراجعات عدة مع أخصائي الأذن، وفحص السمع، تبين أني فقدت جزءا هائلًا من سمع الأذن المصابة. للأسف لا توجد هناك من ضمانات تعيد السمع الى وضعه الطبيعي بعد أن عانت الأذن الوسطى ما عانته جراء ضخ الماء بطريقة غير اعتيادية وخرق الطبلة وإدخال جزء من الشمع وما يحويه من عوالق طبيعية الى الأذن الوسطى، وعليكم أن تتصوروا مقدار الألم الذي ألمّ بي في تلك الدقائق العصيبة، لا لشيئ غير أن تأخذ تلك الطبيبة نصيبها من التدريب دون مراقبة آنية من مدربها. والنتيجة خسارتي كمُتلقي للعلاج. وتنتهي القصة وكأن شيئًا لم يكن..!

نحن نعيش عصر التحولات الكبيرة التي تشهدها مملكتنا الحبيبة تحت قيادة ملك الإنسانية والحزم، وفِي زمن التطلعات الكبيرة والخطط الإستراتيجية الجبارة التي انبثقت من رحم رؤية 2030 النافذة، والتي يقودها ولي العهد بكل ثقة وثبات. في هذه الحقبة بالذات، لم يعد لأحد أو مؤسسة أن تعمل في منئا بذاتها، أو تتستر على بعض الأعمال التي من شأنها عرقلة هذه الرؤية، أو الإضرار بأي من خططها. الإخلال بأي رافد حيوي، يعني المس باقتصاد البلد وإلحاق الأذى ببنيته المجتمعية، مركز الإهتمام الأول والمحور الأهم لرؤية 2030.

من هذا المنطلق أناشد سيدي خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان وولي عهده الأمير محمد بن سلمان حفظهما الله، أن يضعوا حدًا للوضع السافر من الاستخفاف بقيمة الإنسان وعدم توافر الحد الكاف من الضوابط الإكلينيكية وضعف الالتزام بأدبيات المهنة في المراكز الصحية والمستشفيات والعيادات، هذا مع كثير من الإهمال الذي يصل حده الى مستويات كارثية تصل نتائجها في أحيان كثيرة إلى أخطاء طبية جسيمة تودي بحياة المرضى أو تتركهم مع عاهات تلازمهم بقية حياتهم.

إنه من الأهمية بمكان، سن قوانين جديدة صارمة تلزم المراكز الصحية والكوادر الطبية بالتقيد بها، ووضع غرامات مليونية إلزامية لتعويض الأفراد المتضررين أو ورثتهم. هذه التعويضات المليونية، لا شك، أنها ستكون رادعة وحائلة بما يكفي لإيقاف هذا النزف الكبير لمليارات الريالات التي تتكبدها ميزانية الدولة سنويا، وما يتعرض له الوطن من خسائر بشرية وعاهات جسدية تحتاج الى الرعاية وتكلف الدولة الكثير من المال والجهد والوقت نتيجة لهذه الأخطاء. من جانب آخر، تعمل هذه التعويضات على تخفيف الكثير من المعاناة التي يتكبدها المرضى المتضررين كعوارض جانبية جراء خسارة في الأرواح، أو تلف أو فقدان لأحد الأعضاء، أو أضرار نفسية ومالية تلازم هؤلاء المرضى على امتداد السنين المتبقية لهم في هذه الحياة.