آخر تحديث: 23 / 11 / 2024م - 8:37 م

قراءة في رواية صانع العبقرية

علي عيسى الوباري *

في ليلة جميلة كنت أتمشى بين النخيل كعادتي، رن جرس جوالي، القى التحية الصادقة كعادته بطيبته المعهودة، أين أنت ابورضا؟، حياك الله شيخنا الفاضل ابوميثم، أنا اتمشى لوحدي، أين أنت شيخنا؟، رد قائلا أجيك ساعطيك كتابا، بالفعل التقينا بعد مدة طويلة بسبب الحجر المنزلي الذي اقتصر تواصلنا بالاتصال الهاتفي للاطمئنان على بعض، أهداني سماحة الشيخ الفاضل علي النجيدي رواية «صانع العبقرية» لسماحة الشيخ المثقف المفكر عبدالجليل البن سعد.

قبل قراءة أي رواية تؤسس صورة ذهنية عن كاتبها، عناصر الصورة هي دراسته، تخصصه، خبراته وعمره وحجم تجاربه ونوعية ثقافته.

كاتب الرواية ينتمي إلى السلك الديني الحوزوي صاحب خطاب منبر حسيني متميز برسالته ومشروعه الديني والفكري.

غالبا بالمجتمعات المحافظة يصعب على رجل الدين أن يكتب روايات أدبية بسبب الصورة النمطية عن الرواية التي ارتبطت بسرد أدبي تنطوي على خيال ومعاني حب وعلاقات منفتحة ومفاهيم حداثية لأن أصل الرواية ولدت في مناخ الحداثة وهي متهمة من قبل البعض بالوسط الديني والحوزوي أنها من اهم وسائل التغيير الثقافي والاجتماعي عند الشباب والمؤثرة سلبا في ثقافتهم.

عبارة الكاتب مبثوث في نصوصه، ليس شرطا أن تكون صحيحة مائة بالمائة، فالكتاب المتسلح بثقافة موسوعية وتجارب واسعة ومتنوعة وممتدة بين الدراسة الحوزوية والقراءات المستمرة وحوارات حرة مع المثقفين تساعد كاتب الرواية في حشد وإبراز ثقافته وخياله وتجاربه وتتضح نظراته الفكرية في التشخيص والتحليل خصوصا من يكتب الرواية فوق سن الأربعين.

هذه تنطبق على سماحة الشيخ عبدالجليل البن سعد صاحب المشروع الثقافي الفكري المنبري الذي ينظر للمستقبل متكئ على قراءة التاريخ والتراث ومحيط بالواقع.

بدأت اقرأ رواية «صانع العبقرية» قراءة الهاوي للروايات، لدي معرفة مسبقة لا بأس بها عن ثقافة الكاتب الروائي، من خلال العنوان الذي اعتبرته أقرب إلى الكتب العلمية التربوية الإرشادية لكن عندما تقرأ بين الصفحات تجد السرد السلسل وجمالية العبارات ذات المعنى الهادف.

لن اتحدث عن أسلوب السرد والفاعل الحاكي وضمير المتكلم والغائب وبأي أسلوب أدبي اتبعه الكاتب فهذه الأدوات الادبية النقدية لها متخصصيها.

هناك وقفات تأملية يلحظها القارئ حسب خلفيته التعليمية والثقافية والنظرة المسبقة لقارئ الروايات المحترف ولا أدعي اني منهم.

حسب قراءتي لرواية صانع العبقرية لاحظت قدرة الكاتب على دقة الوصف وتضمينه كلمات وجمل يتوقف عندها القارئ  في أسلوب السرد التي تتضمن تفاصيل دقيقة عن الشخصيات في اقوالهم وعباراتهم وحركة أجسادهم، اليد، العيون، تعبيرات الوجه.

ينقل القارئ في سرده من الكلمة إلى الفعل ويلفت نظره بإشارات وإيماءات جميلة يسرح فيها القارئ ويتخيلها حسب درجة انسجامه مع مفردات الرواية.

هناك لمحات إبداعية في رواية صانع العبقرية لسماحة الشيخ عبدالجليل البن سعد منها:

”أحب من يمثل العصر ويجسد الواقع“، ”ليس المتدين هو من يُبسّط التكليف ليصبح مجرد شعائر يومية وموسمية بل هو من يَبسِط التكليف على الحياة كلها“، ”الجد والاستقامة في الصغر قدوة وريادة في الكبر“ على لسان أحد شخوصها الشاب الطموح شبر.

تضمنت الرواية مفاهيم ضرورية للبناء الاجتماعي وخلق الوعي مثل الإطار الأسري المبني على المحبة والترابط العائلي والحوار والنقاش للوصول إلى نموذج عائلي مؤسس على المبادئ الدينية والقيم الاخلاقية، بداية الإصلاح الاجتماعي تبدأ من النواة الأولى وهي العائلة المستقرة، أسرة أيوب والدروس الدينية والتربوية والارتباط بالمسجد بالصلاة ودورات التكليف.

تشكيل الهوية الدينية للشباب في عصر التقنية التي تخطف ألبابهم من خلال برامج وألعاب وتسلية الكترونية تقودهم إلى المجهول وطمس الهوية أو عدم معرفة أدوارهم وأهدافه، إذا لم يتحصنوا بحصانة دينية عقائدية وأخلاقية بالالتحاق بدورات التكليف.

التأكيد على أهمية العلم وتقدم الأمم والشعوب بواسطته حتى لو كان علما دنيويا، وأن المعرفة قوة بالحضور والحوار والنقاش فمن يمتلك المعلومة يقدر اجتماعيا.

الاهتمام بعلم يشغل بال الدول وبه تنمو الأمم وهو فقه الاقتصاد العلم المنسي في دراسات العلوم الدينية والحوزوية،  الاقتصاد الديني الذي ما زال فكرا لم يتحول إلى علم له قواعده وأصوله العلمية ومعادلاته الرياضية في حساب احتياجات المجتمع من الإنتاج وعرض وطلب السلع والخدمات وعلاقته بدخل الأفراد والسلوك الاستهلاكي.

الاقتصاد الاسلامي له موارده التي أكد عليها الاسلام كواجبات ومستحبات مثل الزكاة والخمس والثلث والأوقاف والصدقات وكيفية توظيفها واستثمار ها، وربطها بالتخطيط والادخار والاستثمار وبناء المؤسسات ومساهمته في تنمية الدولة الحديثة واستشراف المستقبل والتنمية.

الاقتصاد الإسلامي عندما يتحول إلى علم يهتم باحتياجات الفرد الحقيقية ويعزز قيم التكافل والتضامن والإيثار بعكس الاقتصاد الرأسمالي الذي سلع كل شيء، ونشر الثقافة الاستهلاكية السطحية من أجل الربح السريع، والأمر ينطبق على الاشتراكية الذي يتجاهل المهارات والكفاءات الفردية هذا ما أبرزه الدكتور فؤاد بدراساته العليا المتخصص بالاقتصاد.

ينتقل الروائي إلى لفتة إنسانية بعد قناعة راسخة تتحول العاملة الفلبينية إلى الإسلام لما وجدت فيه مبادئ سامية ترتقي بالمنتمي له وعندما رأت التعامل الراقي من البيت الذي تعمل به فاختارت اسما يشعرها بالانتماء للهوية الدينية وبالوعي والقيادة وهو زينب.

هناك لفتة جميلة بالرواية بالفصل الثامن والتأثر بالدعاء من خلال مكان عبادي ومقدس فيه تفاعل مع الحضور المصغي للدعاء وهم الشباب الذي يختلف عن استماع لدعاء مسجل باستوديو صوت جامد بدون تفاعل حضوري.

كما أشارت الرواية بالفصل التاسع الخيال الإيجابي لدي الشباب وأنه مقدمة في بناء المشاعر وهو تأسيس للواقع والتمهيد له.

تتضمن الرواية أهمية ربط الشباب وصناعة العبقرية من خلال الرموز والقدوة الذين تركوا آثارا فكرية ومواقف إنسانية لا تنسى أمثال العبقري السيد الشهيد محمد باقر الصدر وعبارته المشهورة ”التكليف تشريف من الله...“.

في الفصل الثاني عشر تؤكد الرواية على دور المرأة المتعلمة التي انتقل دورها من المنزل إلى المجتمع تقوم بدور معرفي وفكري تشاطر الرجل الفاعل الديني في الدعوة والتثاقف، فمجتمع اليوم غير مجتمع أمس كل فرد ذكر أو انثى صغير أو كبير له دور في التنمية الاجتماعية والثقافية.

كذلك أشار الروائي في روايته الرائعة التأكيد على الفنون التشكيلية في النشاطات الاجتماعية وجذبها للجمهور وتعتبر من الهوايات في تحبيب الشباب للفنون وبواسطتها يمكن تحسين الذوق الاجتماعي والرقي بسلوك الشباب في صفحة 156.

الرواية تشير لأهمية الشباب في زمن المعرفة التقنية ولا ينبغي التعامل معهم من برج عاجي فلديهم من الطاقات والمهارات ما يقدمونه للمجتمع.

بدون شك رمزية الفاعل الديني ودوره بالتوعية الدينية ما زالت لكن الشباب يريد تعليم ديني بالحوار التفاعلي وكذلك الشعور بهم كفاعلين لديهم ما يقدمونه وليسوا متلقيين فقط.

ذكرت الرواية الفاعل الديني والرموز الدينية بواقعنا وببيئة الاحساء كانوا سابقون في نشر المعرفة وتعزيز الوعي ينبغي ذكرهم كقدوة بالمجتمع لا ينسى فضلهم.

بالزمن الحالي في انتشار التعليم ومجانية المعلومات التقنية إذا أريد صناعة شباب قادة ذو فهم ووعي لا بد من الاعتراف بأن لديهم من المواهب والمهارات بعلوم وتخصصات أخرى حتى لو كانوا صغارا بالعمر يفيدون بها المجتمع.

الفجوة المعرفية الواسعة بين الشباب والرمز الديني والحوزوي انحسرت فالكل لديه معرفة حسب تخصصه، ولا تصنع العبقرية إلا بالارسال والاستقبال والحوار والنقاش والتفاعل في خط أفقي وليس عمودي حتى تكسب شبابا وتجعلهم فاعلين وقادة.

الكاتب صرح وضمن في بعض جوانب الرواية بتسامح مجتمع الاحساء وطيبة أهلها وتفاعل أفرادهم مع بعض يسود مناخها السلم الاجتماعي، والاحساء ولادة في إنتاجها العلمي والمعرفي، طبيعتها الخضراء تؤهلها لإعادة الإنتاج المعرفي بسبب خصوبة خيالها وإبداعاتها الفنية، من يعيش على ترابها يحب العلم ويبحث عنه بكل مكان ويعود لها مبادرا وفاعلا وذكر الكاتب بعض الرموز الذين لن ينساهم المجتمع لأنهم أعطوا وضحوا.

اخيرا اعتقد ما أراده كاتب الرواية هو معرفة الشباب نفسيا والتعمق في تفكيرهم والتعامل معهم بثقافة هذا العصر بأنهم أكبر من يلقنوا تعليما فوقيا وكأن عقولهم وعاء للحشو بل هم مشاركون في التنمية المعرفية، يحصلوا علما دينيا ويقدموا معارفهم بالمقابل لا يقبلون المعلومات كما هي بل يريدون معرفة الأهداف والغايات والدلالات، يطرحون الأسئلة الموازية لأجوبة من يدرسهم فهم أصبحوا بوسط معرفي معولم له خطورته إذا لم يحصنوا بالثقافة الدينية وكذلك تشعرهم بوجودهم بما يحملون من مهارات.

خاتمة:

الرواية تقدم رسالة الشعور بهموم الشباب والاحساس بتطلعاتهم وأن الشباب إذا أراد الحصانة الأخلاقية ينبغي أن يقرأ دينه حكما وفكرا ويتفاعل مع الفاعل الديني ويحمل رسالة اجتماعية بإطار ومضمون ديني وقيم أخلاقية يعرف قضايا عصره ويستشرف المستقبل.

الكاتب دلل على ثقافته العميقة ومخزونه المعرفي واللفظي وصياغته الجمل والعبارات الحكيمة التي تستقرأ هموم الشباب والقضايا الاجتماعية، نقل جزء من الواقع الذي عاشه برموزه الدينية والاجتماعية وكانوا روادا ومبادرون بزمنهم.

‏مدرب بالكلية التقنية بالأحساء،
رئيس جمعية المنصورة للخدمات الاجتماعية والتنموية سابقا.