آخر تحديث: 23 / 11 / 2024م - 8:37 م

مقابلة الإساءة بالإحسان

عبدالله الحجي *

قال الشاعر:

فَيَا عَجَبًا لمن رَبَّيْتُ طِفْلاً *** ألقَّمُهُ بأطْراَفِ الْبَنَانِ

أعلِّمهُ الرِّماَيَةَ كُلَّ يوَم *** فَلَمَّا اشتَدَّ* ساَعِدُهُ رَمَاني

وَكَمْ عَلَّمْتُهُ نَظْمَ الْقَوَافي *** فَلَمَّا قَال قَافِيَةً هَجَاني

أعلِّمهُ الْفُتُوَّةَ كُلَّ وَقْتٍ *** فَلَمَّا طَرَّ شارِبُهُ جَفَاني

الأمر الطبيعي أن لا ينكر الإنسان المعروف ويحسن إلى من أحسن إليه وليس في ذلك فضل فكل من أسدى معروفا يستحق أن يقابل بالمثل. قال تعالى: ﴿هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ [1] . فإن أحسن الإنسان فهو لنفسه وإن أساء فهو أيضا لنفسه كما قال الله تعالى: ﴿إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لِأَنفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا[2] .

إلا أن البعض يُنكر ويجحد المعروف والإحسان كما أشارت إليه الأبيات المذكورة أعلاه التي تُنسب إلى معن بن أوس الذي أحسن إلى ابن أخته ولكنه قابل الإحسان بالإساءة. كم يشعر الإنسان بالأسى في شتى المجالات عندما يحسن إلى شخص قريب أو بعيد ويكون له ناصحا ويبذل كل مايملك من أجله ويسعى في خدمته وتعليمه وتدريبه وتوفير سبل الراحة له وإيثاره على نفسه، ويتفاجأ بردة فعله السلبية تجاهه وقلة مروءته وإساءته إليه من غير مبرر، أو لمصلحة شخصية، أو لسوء فهم أو سوء ظن لم يبذل أقل جهد لحمله على الخير والتحقق منه قبل الإساءة.

والصنف الثالث أعلى مرتبة يسْتّر له الفؤاد عندما تجد شخصا يُحسن ليس فقط لمن أحسن إليه بل يتعدى ذلك ويحسن إلى من أساء إليه واعتدى عليه. إنه من مكارم الأخلاق التي لاينالها إلا ذو حظ عظيم، وشرف كبير، ومن يملك قلبا يتوهج إيمانا ملبيا دعوة اللطيف الودود الرحيم بعباده حيث يقول: ﴿وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ [3] .

مقابلة الإساءة بالإحسان لها آثار وفوائد تنعكس على حياة الإنسان ومن أبرزها ما أشارت إليه الآية الكريمة بأنك عندما تُحسن إلى عدوك الذي أساء إليك فذلك الإحسان قد يؤثر عليه ويُشعره بالخجل، ويصبح كأنه ولي حميم. كما أن الإحسان قد يكون سببا في إصلاح المسيء، والتأثير فيه عملياً لتغيير منهجه وفكره وسلوكه، كما أورد التاريخ من قصص كثيرة ذات عبرة وعظة، ومن أبرزها قصة هداية ذلك اليهودي الذي قابله النبي ﷺ بالإحسان وقام بزيارته والاطمئنان على صحته بالرغم من إساءته إليه. قال الإمام علي : «إن إحسانك إلى من كادك من الأضداد والحساد، لأغيٓظ عليهم من مواقع إساءتك منهم، وهو داع إلى صلاحهم». [4] 

ومن آثار الإحسان كسب وامتلاك قلوب الناس ومحبتهم ومودتهم مما يجعل أفراد المجتمع أكثر ألفة وتلاحما وتماسكا. قال رسول الله ﷺ: «جُبِلت القلوب على حب من أحسن إليها وبغض من أساء إليها» [5] . وقال الإمام علي : «من كثر إحسانه أحبه إخوانه»؛ وقال: «بالإحسان تملك القلوب» [6] .

والإحسان إلى المسيء هو من مكارم الأخلاق التي أشار إليها صاحب الخلق العظيم في قوله: «ألا أخبركم بخير خلائق الدنيا والآخرة؟: العفو عمن ظلمك، وتصل من قطعك، والإحسان إلى من أساء إليك، وإعطاء من حرمك» [7] . وتتجلى مكارم الأخلاق في الدعاء المنسوب للإمام زين العابدين الذي يربينا على الإحسان في هذه العبارات العظيمة: «وَسَدِّدْنِي لاَِنْ أعَارِضَ مَنْ غَشَّنِي بِالنُّصْحِ، وَأَجْزِيَ مَنْ هَجَرَنِي بِالْبِرِّ وَاُثِيبَ مَنْ حَرَمَنِي بِالْبَذْلِ وَاُكَافِيَ مَنْ قَطَعَنِي بِالصِّلَةِ واُخَالِفَ مَنِ اغْتَابَنِي إلَى حُسْنِ الذِّكْرِ، وَأَنْ أَشْكرَ الْحَسَنَةَ وَاُغْضِيَ عَنِ السَّيِّئَةِ.»

* «الرواية الصحيحة هي «استدّ» بالسين المبهمة، ويكون المراد بها السَّداد في الرمي، وقد رواه بعضهم واشتهر بالشين «اشتد» التي هي بمعنى القوة».

[1]  سورة الرحمن - آية 60

[2]  سورة الإسراء - آية 7

[3]  سورة فصلت - آية 34

[4]  [5]  [6]  ميزان الحكمة - محمد الريشهري - ج 1 - الصفحة 641

[7]  الكافي - الشيخ الكليني - ج 2 - الصفحة 107