ومضات رائية 9
تصدير: هي سلسلة من ومضات لا تتقيد بتجنيس الومضة ومحدداتها المتداولة في التنظير النقدي، بل تنطلق من إمكاناتها اللغوية، لتشمل محمولات الحرف في تنوعاتها المختلفة.
«9»
حين يشير النقد الحديث إلى أن النص الأدبي الناجح هو النص المفتوح على القراءات، فهو لم يأت بفكرة جديدة غير مطروقة في تراثنا الأدبي ولا في نماذجنا العليا، وقد جعل المتنبي نصه الشعري غنياً بالشوارد، مما أشعل القراءات المتخصصة حول شعره وأورث الخصام بين النقاد والمتذوقين.
لكن لا أحد يرجع سبب تعدد القراءات لشعر المتنبي إلى تعمية مستغلقة وغموض عقيم
فلو كانت الصفة المذكورة تلحق نص المتنبي، لرأيناه مغمور الذكر متعيناً في حيز نخبوي ضيق لا يتناوله إلا المتخاصمون من المتخصصين، لكن الواقع غير ذلك؛ بشهادة الكثير من شعره الذي تلهج به ألسنة الناس والذي سار لكثرة تداوله مسار الأمثال، حتى إنه نفسه قد صرح بالحقيقة تلك من خلال قوله:
”وما الدهرُ إلا من رواة قصائدي.... إذا قلتُ شعراً أصبح الدهرُ منشدا“
نعم، فنحن أمام رجل مفكر يهندس الكلمات وفق ميزان مدروس ويستشرف مستقبلها، وميزانه يجمع بين الإبلاغية وبين فنية اللغة الشعرية، فلا يجعل الأولى تطغى على الثانية، وما الثانية بطاغية على الأولى، وبذلك يجمع ”الخلق“ على شعره ويحقق نجاحاً جماهيرياً ونخبوياً.
إن معادلة المتنبي هذه سوف تبقى حلم كل شاعر وأديب، ولا تنطلي على الحاذق دعوى تغير مفهوم الشعر ووظيفته، فما الدعاوى تلك إلا لتبرير الفشل والإخفاق الجماهيري الذي سينسحب حتى على النخبة، فالإنسان كائن اجتماعي بالطبع، ومؤشر النجاح الجماهيري هو الذي يقود النخبة في الغالب ويدفعها إلى الاهتمام بالنص الأدبي المتداول والملفت.
إنَّ الغموض المنتج لا يعني التعمية ولا يعني الاستغلاق، بل هو تقنية تجمع بين الطبقات الدلالية للنص الذي تتحرك على سطحه موجات تغري المجموع في وضوحها كما أن ما تحتها من عمق يغري المتمرسين بفنون الغوص..
فمن من الشعراء لا يحب أن يسهر النقاد ويختصمون حول شعره، ومن من الشعراء لا يجب أن يكون الدهر - على ما في الكلمة من اتساع وامتداد - من منشدي شعره ومن رواته الأبديين..؟!
تقولُ لي:
لقد تغيَّرَ مفهوم الشعر ومفهوم تلقيه..
فأقول لك:
ألا ترى حال كثير من الشعراء التي يُرثى لها هذه الأيام، يطبع كل واحد منهم ديوانه الشعري، ويقيم له حفل توقيع لا يحضره إلا القلة وهم من جمهور «الشلة» فيُتخلَّص من أجزاء يسيرة من نسخ الديوان، وتذهب بعضها للإهداءات، والبقية يناغيها غبار رفوف المكتبات..!
أفكلّ ذلك الفقد المأساوي والمهول لمكانة الشاعر بسبب تغيَّرَ مفهوم الشعر ومفهوم تلقيه..!
فلله درك، ولله در ما جرى على شاعر هذه الأيام وما عليه استجد..!
لله در ذلك المآل، ثم لله در من قال:
”كُلُّ ما في الأرضِ من فلسفة ٍ... لا تُعَزِّي فاقداً عمَّن فَقَدْ..!“