آخر تحديث: 23 / 11 / 2024م - 8:37 م

جدل قراءة الفن

نزار الأسود

في حجرة الصف، وخلال احدى محاضرات مادة «تاريخ الفن»، قام البروفيسور بعرض لوحة تعود لمدرسة دي ستيل“De Stijl”الفنية ذات الأصول الهولندية والتي تنتمي لتوجه ما بعد الحداثة، حيث اقتصرت هذه اللوحة على تقسيمة مستطيلات مختلفة الاحجام وتتلون بالألوان الأساسية «ازرق، أحمر أصفر، أبيض والأسود»، متسائلا عن قرائتنا النقدية لها، ليمتلئ الصف بعدها بردود فعل مختلفة، إلا أن ضحكات التهكم والاستهانة كانت هي الغالبة على الموقف.

من هذه النقطة يبدأ الحديث عن الجدل في قراءة المدارس الفنية المنتمية لفترة مابعد الحداثة، والتي جاءت على إثر الثورة الصناعية والطفرات الاقتصادية التي شهدها العالم في منتصف القرن التاسع عشر، انطلقت من هنا المدرسة التكعيبية لرائدها «بابلو بيكاسو» لتعصف لاحقا بمفهوم الفن وتزيله من جذوره لتطلق مفهوما جديدا كليا يتعلق بمفهوم القطعة الفنية اولا قبل التقنية، إلا أن هذا المفهوم الجديد - رغم قابليته لأن تتم عولمته وتصديره بسبب عنصر التجريد والتبسيط - لاقى صعوبات شديدة في استيعابه وقراءته بالطريقة الصحيحة من العوام والبسطاء في خارج نطاق الغرب، حيث لازالت النزعة - في دولنا العربية مثلا - تشيد وتنشد وتدهش بالمدارس الكلاسيكية وفترات عصر النهضة ومراحل الحداثة المبكرة - كالانطباعية - وأظن أن السبب وراء هذه النزعة الكلاسيكية هو فقر القدرة التحليلية للقطعة الفنية، وأميل هنا لتقسيم تحليل العمل الفني لعاملين هما: 1 - المفهوم concept 2 - التقنية technique، وعلى الارجح فأن مشكلة القراءة لدينا تكمن اهتمامنا الكبير جدا بتقنية الرسم وجودته التي كانت تتطغى في المدارس الكلاسكيكية والنهضوية، مع التواضع في المفهوم.

يجب علينا هنا أن نقوم بصياغة تعريفات للمفهوم والتقنية، ودراسة كيفية تأثيرهما على مختلف المدارس الفنية، فالمفهوم هو: مايود الفنان أو العمل الفني قوله للمتلقي، بينما التقنية تتعلق بطريقة اظهار وتشكيل القطعة الفنية، وللتوضيح أكثر، فإن التوجه الطاغي في المدارس الكلاسيكية كان متعلقا بمفهوم البورتيه أو المشاهد الفوتوغرافية للمكان، الناس، الأحداث، الطبيعة، وهو مفهوم بصري بحت ومتواضع - مقارنة بالتوجهات مابعد الحداثية - بينما طغت في هذه الفترة التقنيات الفنية من اضاءة وانعكاسات ودقة متناهية في الرسم والملامح وتصوير، رسم المشهد بطرق منظورية اشبه لأن تكون واقعية جدا كما يراها الرسام، مما سهّل على المتلقي من العوام عملية قراءة القطعة الفنية بناءً على واقعيتها، وعلى العكس من ذلك جاءت التوجهات في فترة مابعد الحداثة بمفهوم أعمق وأوسع وأشمل بتقنية متواضعة، حيث توجه كل فنان لبناء مفهومه الخاص المتعلق بذاته ونظرته الفردية، الشخصية بعيدا عن الواقع، وكذلك بناء تقنية خاصة فيه تمثل بصمته، مما جعل المدارس الفنية الحديثة ترتبط ارتباطا وثيقا بالأسماء لا الأعمال، فالتكعيبية cubism مثلا تبرز بها تقنية التجريد وتحويل الاجسام الى مسطحات مبسطة هندسية بحتة وثنائية الابعاد، والمدرسة الانشائية الروسية supermatism لرائدها «كاشمير ماليفتش» تبرز بها تقنية تكسير الاشكال الهندسية وتشكيلها في اللوحة وكأنها تطفو على سطح مائي، وكذلك مدرسة دي ستيل de stijl الهولندية لرائدها المعماري «بيت موندريان» تبرز بها تقنية تقسيم اللوحة الى مستطيلات مختلفة الاحجام تتلون بالالوان الاساسية «أحمر، ازرق، أصفر، ابيض» وتصل بينها خطوط سوداء، ممايجعلنا في نطاق مفهوم وتقنية واسعان جدا ومتفردان بالفنان، وبعيدان كل البعد عن الواقعية، وهنا نسأل: لماذا هذا البعد في مدارس مابعد الحداثة عن الواقعية في التقنية؟

نميل بالقول عن هذا السياق بأن الطفرات الاقتصادية والتنقية واختراع الالة التي صاحبت الثورة الصناعية كان لها الشأن الأكبر والأهم في تجديد وتطوير كل هذه التقنيات الفنية، لم نعد اليوم بحاجة لرسم صورة واقعية ومشهد حي لحدث معين، بل بالإمكان وبكل بساطة تصويره باستخدام الكاميرا، مما انشئ فن جديد هو التصوير الفوتوغرافي، فبالتالي اصبحت توجهات المدرسة الكلاسيكية بلا معنى، فمن وجهة نظري اعتقد بأن هدف الفن والفنان الأسمى في عصر النهضة وماسبقه هو التأريخ والأرشفة وتصوير مايراه كمصدر تاريخي، والشاهد على ذلك الاهتمام الكبير لتصوير ورسم الاحداث المعينة كالمعارك والحروب والطبيعة، فهل مازلنا بحاجة للرسم من باب تأريخ حياتنا اليومية والاجتماعية والسياسية في ظل كل التقنيات المتاحة؟ أصبح الفن مقرونا بنظرة الفنان لا نظرة العين، وكذلك نظرة الفنان هذه تبلورت وتمحورت وتجددت مع تجدد العالم بعد الثورة الصناعية، من منطلق أن كل حراك اقتصادي يصحبه بالضرورة تغيرات اجتماعية يصحبها تغيرات فردية.

بعد تسليط الضوء على تعريف عناصر العمل الفني نعود الآن الى اشكالية فهم وقراءة العمل الفني بالنسبة لمجتمعنا العربي، أعتقد بأن لب المشكلة يكمن في اختلاف الثقافة الفنية المتراكمة تاريخيا بالأصل، بمعنى أنه لامكان للفنون التشكيلية والبصرية في تاريخنا الطويل، فالفن التشكيلي لم يكن متواجدا أنما تم تصديره، وتم تصديره متأخرا خلال فترة الدولة العثمانية، وجاء في مقابله الأدب، فعندما كانت اوروبا تأرخ امجادها وحياتها وتأرشفها من خلال لوحات دافنتشي، كان العرب يأرخون احداثهم واوضاعهم الاجتماعية والاقتصادية والسياسية من خلال الشعر والأدب، صوّر الأعشى معركة ذي قار قائلا:

وجند كسرى غداة الحنو صبحهم

منا كتائب تزجي الموت فأنصرفوا

لما رأونا كشفنا عن جماجمنا ليعرفوا أننا بكر فينصرفوا

قالوا: البقيّة والهندي يحصدهم ولا بقية إلا السيف، فأنكشفوا

وكما تحول الفن التشكيلي جذريا وجاءت فترة مابعد الحداثة لتبني مفاهيم الفن من جذوره، مر فن الأدب عند العرب بمرحلة تحول بنّت جذوره من الجديد، فظهرت لدينا توجهات أدبية جديدة كليا - كشعر التفعيلة لرائده بدر شاكر السياب - وكما تحولت الفنون التشكيلية من التأريخ والأرشفة الى مفاهيم وتقنيات فردية تخص الفنان بلا قيود واقعية الكلاسيكية، تحولت موضوعات الأدب العربي من تصوير التاريخ الى تصوير مشاعر الشاعر وبتقنياته الخاصة بلا قيود قافيات وبحور الشعر الكلاسيكي.

الفن متجدد باستمرار وقابل لاعادة البناء في أي منحى من مناحِ التاريخ، وقراءة هذا الفن وتلقيه دائما وابدا يعود للثقاقة المحلية والبناء التاريخي والثقافي للمجتمع، فمن غير المفروض علينا التلقي والانتقاد أو حتى فهم وقراءة لوحة تشكيلية تم تصديرها - أو عولمتها بالأحرى -، فالجدل الثقافي والنقدي هي حالة طبيعية وصحية، وديناميكية ايضا تصب في مصلحة تقدم وتطور البشرية ثقافيا قبل أن تصب في مسألة تطور الفن بحد ذاته.