آخر تحديث: 21 / 11 / 2024م - 10:22 م

الدكتور السيف: أدباء وعلماء الأمس منفصلون عن هذا الزمان

الدكتور توفيق السيف
الدكتور توفيق السيف
جهات الإخبارية أروى المهنا - عكاظ

من أكثر المفكرين والباحثين السعوديين إثارة للجدل، شخصية لاتقبل القوالب الجاهزة، ولا الأقواس التي تشكل عائقاً أمام يقظة الفكر المتحفز لتفسير وإعادة فهم الكثير من المنهجيات وزعزعة الكثير من القناعات. يؤمن الدكتور الباحث والمفكر توفيق السيف بأن أجمل ما في الحرية احترام الاختلاف، إذ إن لاختلافه بصمة واضحة ترسخ ضرورة الخروج عن السائد في الخطاب الديني تحديداً، وتسهم في تخفيف موجة التعصب والأفكار الرجعية من خلال قراءات معاصرة ترتكز على إعمال العقل والنقد.

السيف الذي أوضح في حواره مع «عكاظ» أن أدباء وعلماء الأمس منفصلون عن هذا الزمان، قال إن المجتمع في زمن سابق كان أسيرا لأسئلة زائفة، لكننا الآن أصبحنا أكثر قدرة، على الشعور بذاتنا الوطنية الواحدة، أي كوننا سعوديين أولا. وكشف أنه يعمل هذه الأيام على إكمال البحث المتعلق بموضوع «المساواة» وهو الموضوع الذي يعمل عليه منذ عامين.

لنبدأ من جائحة كورونا، كيف تقضي أوقاتك في فترة الحظر، وهل هناك مشروع جديد تعمل عليه؟

أولا أشكركِ أختي العزيزة أروى على هذه الفرصة الغالية، للحديث إلى قراء «عكاظ» الغراء، التي كانت إحدى أبرز محطاتي الكتابية في العقد الماضي، ولي فيها أصدقاء وأحباب.

في ما يخص إدارة الوقت، ما زلت أستيقظ كما اعتدت عند الفجر وأبدأ العمل نحو السابعة والنصف بأعمال الشركة التي يمكن القيام بها عن بعد، ثم القراءة.

أقرأ يوميا العديد من المقالات حول الانعكاسات المتوقعة لوباء كورونا على العالم في مختلف الجوانب. ثم أصرف ما بين أربع إلى ست ساعات في البحث المتعلق بموضوع «المساواة»، وهو الموضوع الذي أعمل عليه منذ عامين، واحتمال أن أفرغ من قسمه الأول خلال ثلاثة أشهر. وهكذا أبقي نفسي مشغولا إلى ما بعد المغرب بقليل.

أحيانا أشعر بالسأم لاحتباسي في البيت ثمانية أسابيع حتى الآن. أحاول مقاومة السأم بالعمل في الحديقة والتنظيف وإصلاح الأشياء. لكن - بشكل عام - لا أشعر بالفراغ وليس لدي وقت فارغ. أفترض أن هذا سيتغير خلال رمضان، على الأرجح وستتحول أشياء النهار إلى الليل وسيزيد وقت النوم.

في أحد مقالاتك دعوت الجميع للتفاؤل المطلق رغم هول ما يمر به العالم من تداعيات أزمة كورونا؟

الدكتور توفيق السيف

أميل إلى التفاؤل بشكل عام، وإذا سيطرت علي حالة من التشاؤم، فإنني أتجنب الكتابة والحديث أو مقابلة الناس، كي لا أنقل لهم عدوى التشاؤم. العالم مليء بالأشياء السيئة التي تولد الضيق في النفوس، فلماذا نزيدها سوءا.

وفي ما يخص وباء كورونا، فإنني أشعر أننا سنكون أقل قدرة على مقاومته إذا سيطر علينا التوتر. بل إن التوتر قد يدمر الأشياء البسيطة والجميلة في الحياة. التشاؤم يولد التوتر النفسي أو يزيده، ونحن لا نحتاجه. طالما كان البشر قادرين على الحياة رغم الوباء، فإن علينا أن نتعامل معه بشجاعة. التفاؤل يجعلنا أكثر قدرة على التفكير المنطقي واستثمار الإمكانات المتاحة في الحياة، رغم هذه السحابة السوداء التي تنذر بالفناء.

كيف تقرأ محاولات بعض الجامعات السعودية في إيجاد لقاح لفايروس كورونا؟ وهل من الممكن حقاً أن نتعايش مع الوباء؟

منذ ظهور الفايروس في الصين، كنت أنتظر إعلانا يشير إلى جهد علمي في جامعاتنا، بل كنت أتمنى أن يتولى أحد الأقسام الجامعية إدارة الحملة الوطنية لمكافحة كورونا.

سمعت مرتين عن أعمال بحثية تستهدف التوصل إلى لقاح للفايروس، أولها كان على لسان أحد الباحثين، والثاني على لسان مدير جامعة الملك عبد العزيز. ثم سمعت خبرا في صحيفة عن «خطة» لتصنيع جهاز مساعدة للتنفس، لكن الخبر صيغ بطريقة لا تسمح باعتباره جديا. لهذا السبب وذاك لا أرى في أي من هذه الإعلانات مؤشرات من النوع الذي نتطلع إليه، ولعل قلة متابعتي هي السبب.

أما عن التعايش مع الوباء، فإنني أبسطه على النحو التالي: في الوقت الحاضر يعمل ما بين 20 - 25 % من السوق والمجتمع، ويقع الباقي تحت الحظر. اقتراحي هو أن نعيد تعريف الفاعلية والحظر بحيث يتمكن نحو 50 - 60 % من الاقتصاد والمجتمع من العمل، مع الإلزام المشدد بوسائل الوقاية. أعتقد أن هذا ممكن وأن العالم ككل يتجه إليه. التعايش لا يعني التغافل عن حقيقة الوباء بل الحيلولة دون أن ندمر أسلوب معيشتنا خوفا منه.

بعيداً عن كورونا، هل ترى من الجيد أو الصحي أن نستمر بمناقشة خطاب الصحوة وأثره علينا كمجتمع سعودي أو أن نتجاوز المرحلة؟

لن نستطيع التوقف عن مناقشة خطاب الصحوة، لأنها باتت جزءا من تاريخنا الثقافي والاجتماعي وتصورنا للدين، وهي العناصر التي يدور حولها جانب كبير من الجدل بين الناس، أو هي - على الأقل - تشكل خلفية لهذا الجدل.

الصحوة ظاهرة اجتماعية تخضع للتحليل العلمي، مثل غيرها من الظواهر. أعلم أن ارتباط الوصف الديني بالصحوة قد يثير التباسا وحرجا، ولهذا فإن الضرورة تقتضي التأكيد على الجانب العلمي في الموضوع، أي كونها ظاهرة اجتماعية وجزءا من التجربة الثقافية للمجتمع، وهي تخضع للنقاش من هذه الزاوية، وليس من زاوية كونها حالة دينية.

من ناحية أخرى، فإن حداثة العهد - نسبيا - بالظاهرة، تعيق إلى حد ما الحكم المحايد على أشخاصها وحوادثها. أظن أن أي مناقشة لها، لن تنجو من الخلط بين التفسير والتقييم، لذا فإن من الواجب اتخاذ أقصى ما يمكن من احتياطات لتجنب الانشغال بالأشخاص والحوادث، لأن هذا سيقلل من قيمة البحث العلمي ويملؤه بالانفعالات، ما لم نركز على المناقشة العلمية، فإن كتابتنا ستكون مجرد شتائم منمقة أو تكرار لكلام قيل مئات المرات، وسيضطر أبناؤنا وغيرهم لقراءة تاريخ بلادنا الذي يكتبه الأجانب، بدل أن يقرأوا كتابتنا.

ساهمت لفترة طويلة في نشر ضرورة وعينا بتجديد الخطاب الديني بما يناسب العصر، هل وصل صوتك؟

الدكتور توفيق السيف

في بلدنا ظاهرة عجيبة، مجتمعنا تقليدي يميل إلى نمط ديني أحادي، إلا أنه في الوقت نفسه يتعامل بلين نسبي مع الدعوات الناقدة للتقاليد والداعية للتعدد الديني. لقد كنت أكتب حول هذا الأمر في الصحافة المحلية منذ 28 عاما بالتمام والكمال وبشكل منتظم، وأسمع أحيانا أصواتا تتبرم بهذه الكتابات، بتعبيرات لينة حينا وخشنة في معظم الأحيان. لكن للإنصاف فإن هذا لم يتجاوز الإنكار اللفظي، وهذا - في رأيي - من دلالات اللين في التعامل مع المختلف، وهو من الأمور المحمودة والفريدة في بلادنا. هل وصل صوتي أم لا؟ لا أدري. لكني أظن أننا اليوم أكثر قدرة على التجدد واستيعاب الأفكار المعقدة والمختلفة.

هل لدينا كمجتمع سعودي هوية ثقافية واضحة، وهل نحن مدركون لمعنى الهوية حقاً؟

لا شك أننا أصبحنا الآن أكثر قدرة على الشعور بذاتنا الوطنية الواحدة، أي كوننا سعوديين أو لا. في زمن سابق كنا أسرى لأسئلة زائفة مثل سؤال: هل أنا مسلم أو لا، أم عربي أو لا، أم سعودي أو لا. كنا ندفع دفعا لخيارات سخيفة - لكنها حاسمة أحيانا - بين متعارضات موهومة، وكنا نتعرض لعقاب روحي إذا اخترنا ما تمليه علينا عقولنا. الحمد لله أننا تحررنا من كل هذه التفاهات الآن، وبتنا قادرين على أن نتعرف على أنفسنا في إطارها الطبيعي، أي بيئتها الجغرافية والاجتماعية والسياسية. بتنا نفهم حقيقة أن الهوية ليست دائرة واحدة، بل هي مجموعة دوائر متداخلة، وأن الإنسان الفرد يحمل في الوقت نفسه هويات متعددة، ترتبط بانتمائه الاجتماعي والديني والثقافي وحرفته وطبقته الاجتماعية ولغته وانتمائه السياسي وتأملاته المستقبلية وموقفه من قضايا الكون. لكن هذه كلها تعبر عن نفسها بصورة ثقافية - روحية، تحت المظلة المادية - الثقافية التي اسمها الهوية الوطنية.

أعلم بطبيعة الحال أن هناك أناساً عاجزين عن استيعاب مفهوم الهويات المتعددة، وهم يرونها دليلا على ما يسمونه تلونا أو مؤشرا على عدم الصفاء. هناك أيضا من يحاول اختصار هذا التنوع إلى اثنين أو ثلاثة «القبيلة أو المذهب أو الدين أو القومية+الوطن» ويعتبر البقية ألوانا متباينة أو إضافات مشروطة. الحقيقة أن الهوية الوطنية هي الثابت الوحيد، وهي تتجلى في الانتماء القانوني فقط، أما البقية، أي كون الإنسان مولودا على أرض المملكة، أو انتماؤه للإسلام أو لقبيلة بعينها أو للعروبة، فهذه كلها ألوان مكملة، ولا تشكل شرطا ولا قيدا على الهوية الوطنية.

كيف تصف علاقة المثقف السعودي بالمجتمع؟ وهل المثقف خلال الخمسين عاما الماضية قدم مشروعا حقيقيا للمجتمع السعودي؟

لا أريد المبالغة في تصوير دور المثقف السعودي، لكني لا أريد أيضا التقليل من قيمته. السبب في ذلك أنني لا أرى ثقافة اليوم متواصلة مع ثقافة الماضي. لقد مرت المملكة بفترة انتقالية عميقة التأثير جدا، حين عبرت من اقتصاد الكفاف إلى اقتصاد النفط. وكانت - في تقديري - فاصلا سميكا بين الجيل الحاضر وجيل ما قبل خطة التنمية الأولى. الفاصل يعني أن النتاج السابق لم يعد عاملا مؤثرا في تشكيل صورة الثقافة الحاضرة، وبالتالي فإننا لا نستطيع ادعاء التراكم الحضاري الذي تتسم به المجتمعات التاريخية، أو لنقل إن التراكم الثقافي الذي لدينا لم يكن طبيعيا ولا متكاملا، بل هو متكلف ومفكك.

الثقافة السعودية اليوم منقطعة عن ثقافة الأمس، ولهذا فإن الباقين من أدباء وعلماء الأمس الذين ما زالوا يكتبون وينشرون، يبدون منفصلين عن هذا الزمان، فكأنهم يلقون المعلقات السبع بين هواة الشعر النبطي، حيث الكل مستمتع بما عنده، لكنه غير متواصل ولا متفاعل مع الآخر.

من هنا فإن عمر الثقافة السعودية الحاضرة قصير نوعا ما، وهو ينتمي إلى إطار خارجي أكثر مما ينتمي إلى بستان داخلي. وللمناسبة فإن هذا لا يخص لونا من ألوان الثقافة دون الآخر.

ومع مرور الوقت ستنغرس هذه النبتات في الأرض، وستذهب أعمق وأعمق حتى تمتص الروح الكلية للبلد وتتبلور في كل ألوانه. هذا بالطبع يحتاج إلى حرية واسعة للتعبير مضمونة بالقانون، كما يحتاج إلى الاحتفاء بالتعدد والتنوع في كل تجلياته.

ما هو الفاصل ما بين المعالم الثقافية والمعالم الدينية؟

مدخل الجواب إلى هذا السؤال، رهن بقناعة ميتافيزيقية مسبقة، موضوعها المساحة التي يغطيها الدين في حياة الناس. القائلون إن الدين شامل، يقولون تبعا إنه لا توجد مساحة حياتية خارج الإطار الديني. والقائلون إن الدين كامل وليس شاملا «وأنا من القائلين بهذا» يقولون تبعا إن معظم حياة البشر تقع خارج الدين، وهي تتوسع باستمرار، بينما تبقى الدائرة الدينية ثابتة أو متناقصة.

بديهي أن كل ما يقع خارج الدائرة الدينية، يتأثر بعمل العقل البشري والعلم الذي ينتجه هذا العقل. وهو قد يكون ثقافة - بالمعنى الفني - أو عملا عقليا بكل تعبيراته ومعانيه.

ليس هناك دليل حاسم على أن الدين شامل أو العكس. ليس عند هؤلاء ولا عند أولئك. ولذا فالمسألة تتعلق باعتقاد الإنسان واختياره الخاص.