الإنجاز بين الفرد والمجتمع «الجزء الأول»
من المسؤول عن الإنجاز وصناعة الحضارة، هل هو الفرد او المجتمع؟ ومن المسؤول عن تطوير الذات، هل هو الفرد او المجتمع؟ هذا السؤال مهم جدا، فهل يتحمل الفرد المسؤولية او يتركها على المجتمع؟ وهل تسن القوانين لمصلحة الفرد او لمصلحة المجتمع؟ وإذا أردنا أن نرفع الإنتاجية ونحقق الرفاه، فهل يكون التركيز على الفرد او على المجتمع؟
هناك ثلاث نظريات:
النظرية الأولى: تقول بأن الفرد هو الأصل فهو المنجز وصانع الحضارة، فإنتاج المجتمع ماهو إلا مجموع إنجازات الأفراد. فالمجتمع يشبه مركبا صناعيا كالسيارة، تتركب أجزاؤه من أفراد المجتمع، فكل فرد كأي جزء من السيارة يؤدي دوره ليتحرك المجتمع. فالأصل هو الأجزاء المختلفة التي تقوم بأدوارها ويتكون من مجموعها المجتمع او السيارة. وبناء عليه، يجب إحترام أصالة الفرد وسن القوانين التي تحافظ على حريته في الإستثمار والإنتاج والإستهلاك لأن مصلحته الفردية هي الأساس، أما المصلحة الإجتماعية فهي حصيلة مجموع مصالح الأفراد. وهذه هي القاعدة الفلسفية للنظام الرأسمالي.
تبلورت هذه الرابطة الميكانيكية بين الفرد والمجتمع منذ عهد آدم سميث عبر نظريته المعروفة في توزيع العمل. وهي ببساطة ترى أن الإنتاجية ترتفع كثيرا حين يتخصص كل فرد بجزء صغير من العملية الإنتاجية، فمثلا لو فكرنا في مصنع للكراسي فهناك خياران هما:
الخيار الأول: أن يصنع الفرد لوحده أجزاء الكرسي المختلفة من مسامير وأرجل وقاعدة وخلفية ثم يجمعها،
الخيار الثاني: أن يتوزع العمل بين عدة أشخاص كل في تخصصه، فأحدهم يصنع الأرجل وآخر يصنع القاعدة وآخر يصنع المسامير ثم تجمع هذه الأجزاء.
وهكذا برهن آدم سميث على أن الخيار الثاني أكثر سرعة وإنتاجية.
وأستخدم هنري فورد نفس النظرية في صناعة السيارات حين أستفاد من فكرة خط التجميع، فكل مجموعة من العمال تتخصص في صناعة جزء من السيارة وتضعه على خط التجميع لتصل الى مجموعة آخرى فتضيف جزءا آخر وهكذا حتى يتم تجميع السيارة في آخر خط التجميع.
ويؤيد توزيع العمل وخط التجميع فكرة أن الإنجاز الجماعي يعادل مجموع إنجاز الأفراد. ولذلك ركزت مبادئ الإدارة حتى منتصف القرن العشرين على ذات الفرد وزيادة إنتاجيته في المصنع.
وقد رأى بعض المفكرين أن الحضارة ماهي إلا نتاج عدد قليل من المبدعين وهم يستحقون بجدارة أن يجنوا ثمرة إبداعهم. فهم يرون أن التطور الحضاري يستدعي تشجيع المبدعين واستثمار طاقاتهم اللا متناهية. ولذلك لامانع لديهم أن يكون المبدع جشعا فيحصل على نصيب الأسد من أرباح العملية الإنتاجية، وبهذا برروا النظرية الرأسمالية ومانتج عنها من طبقية فاحشة في توزيع الثروة. ومن نتائج هذه المدرسة، نشأت مدرسة تقدير واحترام الذات
«self - esteem» في الثمانينات والتي نادت بأنه من حق المبدع أن يشبع شهواته من ملذات الدنيا دون قيود، حتى يحرر طاقاته اللامتناهية فتنتج مزيدا من الإبداع، راجع كتاب «Selfie، by: Will Storr». ومع الأسف بنيت هذه النظرية على دراسات تم تحويرها، ونتج عنها الكثير من الإنحرافات الخلقية والأمراض النفسية كالنرجسية.
ولاشك أن الرأسمالية شجعت المصلحة المادية للأفراد وأشعلت روح المنافسة فنتج عنها التطور والرفاه الإقتصادي المعاصر. ولكنها أنتجت الكثير من السلبيات، ونذكر هنا بعض الملاحظات:
1» إن هوية الفرد نتاج تفاعل مستمر مع محيطه الإجتماعي، فهي تتأثر بأسرته ومدرسته ومجتمعه والثقافة السائدة في عصره بنسبة كبيرة قد تتجاوز 50?،
2» المصلحة الفردية لاتحقق دائما المصلحة الإجتماعية بل قد تكون على النقيض منها كالإحتكار والغش،
3» لبت الرأسمالية جشع الأغنياء وظلمت الطبقة العاملة، وخير مثال هو قانون الأجور الحديدي «ديفيد ريكاردو، عام 1817، والذي يعني أن أجور العمالة يحكمه العرض والطلب كأي سلعة استهلاكية، فحين يزداد عدد العمال على الطلب، تنخفض أجورهم الى أقل من الأجر اللازم لتوفير ضروريات الحياة، فيؤدي ذلك الى سوء أحوالهم المعيشية ومن ثم الى موت عدد منهم. وحين يقل عدد العمال عن الطلب ترتفع أجورهم، وهكذا يكون أجر العمال عرضة لتذبذب العرض والطلب دون أي قيد على الحد الأدنى للأجور». وبعد معاناة وصراع طويل من قبل الطبقة العاملة، سنت قوانين تحترم بعض حقوقهم كالحد الأدنى للأجور وعدد ساعات العمل،
4» أنتجت الرأسمالية طبقية فاحشة يملك فيها 10? أكثر من نصف الثروة ويتحكمون في عملية الإنتاج برمتها،
5» تحكمت الطبقة الغنية في صناعة القرار فسنت القوانين المنحازة لمصالحها،
6» الإدارة الميكانيكية التي ركزت على إنتاجية العامل فقدت بريقها في عصر المعلومات التي لاتعتمد على إنتاجية العامل اليدوية بل تحتاج الى ثروته المعلوماتية. ولذلك تطورت الإدارة الى نظم جديدة تحاول أن تلمس قلب الموظف، ولكنها بقيت مع الأسف محكومة بمبدأ الأرباح أولا، مما يؤدي الى تسريح الكثير من العمال من حين الى آخر.
7» أنتشرت فكرة جديدة تقضي بأن الهدف من الأعمال والشركات ليس زيادة أرباح للمستثمرين فقط، وإنما رضا جميع أطراف العملية الإنتاجية من مستثمرين وعمال ومجتمع وعملاء وغيرهم.
8» نظام السوق المفتوح وأصالة الفرد المطلقة أثبتت فشلها في الدورات الإقتصادية المختلفة فأضطرت الحكومات للتدخل بتريليونات الدولارات عام 2008 مثلا لمعالجة الآثار الوخيمة للسوق المفتوح ونظرته الربحية قصيرة المدى.
وهكذا تبين أن نظرية أصالة الفرد كما أسست لها النظرية الرأسمالية غير صحيحة، ولذلك سنتطرق الى نظريات آخرى في مقالات لاحقة ان شاء الله.