آخر تحديث: 28 / 3 / 2024م - 5:41 م

نشأة النزعة الإنسانية في الفكر العربي والإسلامي

جهاد فاضل

يتوقف الدكتور زكي الميلاد في كتابه الصادر حديثاً عن «مؤسسة الانتشار العربي» في بيروت «الإسلام والنزعة الإنسانية» عند ما يسميه أوسع وأضخم المحاولات الفكرية التي تناولت الحديث عن النزعة الإنسانيّة في المجال العربي والإسلامي وأكثرها تراكماً وثراءً، ولعلها من أسبق المحاولات زمناً، إذ ترجع إلى ستينيات القرن العشرين، حين اشتغل الباحث الجزائري الأصل الدكتور محمد أركون على هذا الموضوع في إطار رسالته للدكتوراه التي أنجزها سنة 1969 وصدرت في كتاب بالفرنسية سنة 1970.

أطروحة الدكتوراه هذه التي قدّمها أركون لجامعة السوربون في باريس حول النزعة الإنسانيّة في المجال العربي ترتكز على أمرين أساسيين ومترابطين يشرحهما زكي الميلاد على النحو التالي:

الأمر الأول: البرهنة على وجود نزعة إنسانية عرفها الفكر العربي والإسلامي في القرن الرابع الهجري، نشأت بعد استلهام التراث الفلسفي الإغريقي. فدراسة الأدبيات الفلسفية للقرن الرابع الهجري تتيح لنا كما يقول أركون أن نتحقق من وجود نزعة فكرية متركزة حول الإنسان في المجال العربي والإسلامي. وهذا ما يدعوه أركون «الإنسية العربية»، بمعنى أنه وُجد في ذلك العصر السحيق تيار فكري يهتم بالإنسان، وكل تيار يتمحور حول الإنسان وهمومه ومشاكله حسب رأي أركون يُعتبر تياراً إنسياً أو عقلانياً.

رأي أركون هذا هو بخلاف ما هو شائع وثابت عند المستشرقين الأوروبيين الذين لم يكونوا يعتقدون بوجود نزعة إنسانية إلا في عصر النهضة، وفي الحضارة الأوروبية بالذات، الأمر الذي يعني أن النزعة الإنسانية هي شأن وامتياز أوروبي، ينبغي أن يُسجَّل عليه «صُنع في أوروبا»!

وإلى الخمسينيات والستينيات من القرن العشرين ظل بعض المستشرقين مثل غوستاف فون غربوبناوم، كما يقول أركون يحتج على تطبيق مفهوم النزعة الإنسانية في المجال العربي والإسلامي باعتبار أن هذا المفهوم مرتبط بانبثاق الحداثة في أوروبا في القرنين الخامس عشر والسادس عشر، ولا علاقة له بعالم الإسلام!

في حين يرى أركون أن النزعة الإنسانية ظهرت في الحضارة العربية الإسلامية قبل أن تظهر في الحضارة الأوروبية بعدة قرون.

الأمر الثاني: تحليل الأسباب الفكرية والتاريخية التي أدت إلى نسيان أو ضمور واضمحلال النزعة الإنسانية في الفكر العربي والإسلامي في القرن الخامس الهجري بعد مجيء السلاجقة. ومن ثم البحث عن كيفية موت واضمحلال النزعة الإنسانية في الفكر العربي والإسلامي خلال فترة قصيرة، وكيف استمرّت ونمت في الفكر الأوروبي منذ عصر النهضة إلى اليوم.

ولهذا يرى أركون أن المهمة الملقاة على عاتق المؤرخ أو الباحث اليوم هي تبيان كيفية ضمور تلك النزعة الإنسانية الواعدة.

والغاية من هذه الأطروحة في نظر أركون تتحدد في البحث عن السبيل إلى بعث الأنسنة من جديد في المجال العربي والإسلامي. وكيف يمكن وصل ما انقطع واستلهامه مجدداً لكي يُبنى عليه نهضة جديدة.

هذا ما يريد أركون أن يسجله لنفسه منذ أن التفت متأخراً إلى المجال العربي الإسلامي، بعد أن كان غائباً لزمن طويل عن هذا المجال، ولعله برغبته وإرادته، فجميع مؤلفاته كتبها بالفرنسية ثم نُقلت إلى العربية مترجمة، مع أنه يحمل شهادة ليسانس حصل عليها من قسم اللغة العربية بكلية الآداب بالجامعة الجزائرية في خمسينيات القرن الماضي.

وقد أراد أركون من هذا الحديث المكثف والواسع عن الأنسنة أن يقدم حسب تصوّره فتحاً عظيماً وجديراً للفكر العربي الإسلامي يذكره ويصله بعصر الإبداع والتجدد الفكري والفلسفي في القرن الرابع الهجري من جهة، ويذكره ويصله من جهة أخرى بعصر الحداثة الظافرة في الفكر الأوروبي الحديث والمعاصر. وهاتان هما القطيعتان الفكريتان اللتان يدعو أركون لتجاوزهما من أجل الولوج إلى عالم الحداثة والسير في ركب المدنية.

وبعد أن يذكر الباحث مصطلح «الأنسنة» أو «الإنسانية» وأيهما هو الأفضل للاستخدام عربياً، يقول زكي الميلاد: «يبدو لي أننا لسنا أمام مشكلة مصطلح بحاجة إلى من يخترعه لنا أو يلفت نظرنا إليه بقوة أو غرابة، كما صوّر أركون، وإنما المشكلة هي في توليد هذه النزعة الإنسانية من داخل منظومتنا الفكرية، وفي بنائها وتحققها وممارستها الفعلية في بيئتنا.

من جانب آخر يربط أركون وآخرون النزعة الإنسانية بازدهار النزعة العقلانية، فلا نزعة إنسانية حسب رأيهم بدون فلسفة أو فكر فلسفي يغذيها ويدعمها.

وهذا ما يفسر عند أركون انبعاث واضمحلال النزعة الإنسانية في المجال العربي والإسلامي. فانبعاثها في القرن الرابع الهجري كان نتيجة استلهام التراث العقلي والفلسفي الإغريقي، واضمحلال في القرن الخامس كان نتيجة تراجع التراث العقلي وموت الفلسفة في السياقات العربية والإسلامية.

ويرى آخرون مثل المؤرخ التونسي هشام جعيط أن مفهوم النزعة الإنسانية في المجال الأوروبي تطور بتأثير العقلانية التي قلبت القيم في داخل الفكر الأوروبي.

ولهذا يعتقد جعيط أن هناك التحاماً بين النزعة الإنسانية والنزعة العقلانية في مظاهرها المتعددة والمتشعبة.

ويرى أركون أن كتابه «نزعة الأنسنة في الفكر العربي» لم يحظ باهتمام يُذكر عربياً، مثله في ذلك مثل بقية المؤلفات ذات الأبعاد الفكرية والعلمية.

وهذا يعني أن النزعة الإنسانية في الفكر الأوروبي كانت مرتبطة بسياق تاريخي هو الذي شكل طبيعتها وهُويتها، وبلور ملامحها ومحدداتها، وهو سياق يختلف جذرياً وطبيعة السياق التاريخي الذي عاصره الفكر الإسلامي.

وهذا يعني أن النزعة الإنسانية نظرية أوروبية ننفتح عليها ونتعاطى معها على هذا الأساس وليس بصفتها نظرية كونية نسلم بها بصورة مطلقة وتامّة.

وحين يصف أركون الفترة التي وجدت فيها النزعة الإنسانية في المجال العربي والإسلامي خلال القرن الرابع الهجري يرى أنها تمثل فترة العلمنة الجنينية، ومن أبرز هذه العلائم إضعاف هيبة الخلافة من قبل الأمراء البويهيين، ثم ازدياد أهمية الدور الذي يلعبه العقل الفلسفي من أجل تجاوز الصراعات المتكررة والحاصلة بين الطوائف والمذاهب والعقائد والتراثات العرقية الثقافية. ومن المعلوم أن الخلافة تتمتع برمزية دينية عالية، واستخفاف البويهيين بها يعني السير في طريق العلمنة لمؤسسة السلطة العليا. كما أن صعود العقل الفلسفي على حساب العقل المذهبي الأرثوذكسي يعني أيضاً تأكيداً لعلمنة الفكر في الساحة العربية الإسلامية. وكلها عناصر كانت موجودة في القرن الرابع.

هذا الربط بين الأنسنة والعلمنة عند أركون يضيف تحفظاً وتشككاً واحترازاً. وفي مثل هذه الحالة تكون العلمنة بمنزلة العقيدة للأنسنة، بحيث لا يمكن الوصول إلى الأنسنة بدون العلمنة. وهذه هي الإيديولوجيا بتمامها.

ينتقد زكي الميلاد في كتابه محمد أركون ونزعته الإنسانية فيرى أن أركون بدل أن يستلهم النزعة الإنسانية من منابع القرآن، ومن روح الإسلام وجوهره، يغلق الطريق أمام هذا الاستلهام ويتمسك بالمعنى الغربي ويحاول إسقاطه على المجال الفكري العربي والإسلامي.

السبب برأيه هو أن أركون واقع تحت تأثير مديونية المعنى حسب الاصطلاح الذي يستخدمه، وهو من اختراع الباحث الفرنسي المعاصر مارسيل غوشيه. فأركون مدين للفكر الأوروبي في معارفه. وفي الوقت الذي تحفل كتابات ومؤلفات أركون بأسماء المفكرين والفلاسفة والمستشرقين الغربيين، فإنه لا يأتي على ذكر مفكري العالم العربي والإسلامي إلا نادراً. وحين يأتي على ذكر أحد منهم، فإنه غالباً ما يكون في سياق نقدي، وبطريقة تقلل من شأنهم ومنزلتهم الفكرية والعلمية والمنهجية، كما لو أنه يظهر تعالياً عليهم.

والخلاصة أن أركون يحاول البحث عن نزعة إنسانية في المجال العربي والإسلامي تكون شبيهة بالنزعة التي ظهرت في الفكر الأوروبي، ومعبّرة عنها، ومتماهية معها، كما لو أنه يبحث عن المعنى الأوروبي للنزعة الإنسانيّة في المجال العربي والإسلامي.

وتحت عنوان النزعة الإنسانية والنقد الخارجي يلاحظ الباحث أن الغرب وضع نفسه في دائرة النقد والاتهام حين أطاح النزعة الإنسانية وانقلب عليها وذلك بالطريقة التي تعامل بها مع بقية العالم. فما أن امتلك القوة والقدرة والتقدّم حتى أخذ يفكر بمنطق التوسّع والسيطرة والاستعمار بحثاً عن الثروات والأسواق والأيدي العاملة وامتلاك القوة وآليات السيطرة، السلوك الذي أظهر الغرب في صورة المتوحش والناهب، وبشكل دفع الشعوب الأخرى إلى مقاومته والثورة عليه.

وفي تفسير هذا الموقف هناك من يرى أن خطاب النزعة الإنسانية في الغرب يعتمد مفهوم الجوهر الغربي للإنسان ليبرّر استعمار غير الأوروبي تحت شعار الإنسانوية، وأنسنة غير الغربيين. ولما كان غير الغربي حسب هذا الخطاب ليس ذا جوهر إنسانوي، كان حرياً بالإنسانوي الغربي أن يهيمن عليه عسكرياً واقتصادياً وثقافياً.

واحتجاجاً على هذا الموقف، وعلى هذه السياسات ارتفع صوت الطبيب والمناضل والمحلل النفسي المارتينيكي فرانز فانون «1925 /1961» يحثّ على ترك أوروبا التي لا يكلّ أهلها عن الحديث عن الإنسان، لكنهم يقتلون البشر أينما يجدونهم. لقد خنقوا البشرية بأسرها تقريباً باسم ما يسمونه التجربة الروحيّة.

وحين توقف مالك بن نبي أمام هذه القضية في سياق اختلافه مع المستشرق الإنجليزي هاملتون جب، قال: إن حديثنا عن إنسانية أوروبا لا يكون إلا حديثاً عن نزعة إنسانية جذبية دون إشعاع. وفي هذه الحالة نراها تعني إنسانية أوروبية في الداخل، وإنسانية استعمارية في الخارج!

وحتى محمد أركون لم يستطع أن يصمت أمام هذه المسألة. فقد أخذ عليه أصحاب كتاب دليل الناقد الأدبي أنه يطرح النزعة الإنسانية وكأنها أحدث مكتسبات الفكر المعاصر. فقد وصف أركون هذه النزعة في الغرب بالنزعة الشكلانية والتجريدية، واعتبرها نزعة «لا تقيم أي مقارنة بين تعاليم الفلسفة الإنسية النبيلة والسامية، وبين الممارسات السياسية التي تجري على أرض الواقع. فهي في وادٍ والواقع في وادٍ آخر. لا يكفي أن نقول نحن إنسيون، نحن مع النزعة الإنسية والإنسانية، نحن نعتبر الإنسان أكبر قيمة في الوجود، ثم نمارس شيئاً مختلفاً على أرض الواقع، نمارس التمييز والاستعباد ضد الأجنبي أو المختلف وضعاً أو لغة أو وجهاً أو ديناً. هذه إنسية شكلانية».

وأمام كل ذلك يمكن القول إنه إذا كان من المفترض لهذه النزعة الإنسانية التي وجد فيها الغرب سحراً وفتحاً واكتشافاً خلاقاً أن تمنع الغرب وتردعه ولا تجعله يتبنى سياسات الغزو والسيطرة، فلماذا لم تمنع هذه النزعة الغرب وتردعه عن سياساته؟

ويمكن التساؤل أيضاً: هل النزعة الإنسانية قابلة للتجزئة والانقسام بطريقة يمكن التعامل معها في مكان وحجب هذا التعامل في مكان آخر؟ أم أنها نزعة يفترض أن يكون لها ماهية واحدة ليس غير، ولا تقبل من الأساس التجزئة والانقسام؟

إن النزعة الإنسانية إما أن تكون نزعة واحدة لا تقبل التجزئة والانقسام أو لا تكون.

وبقدر ما أسهم الغرب في تطوير المعرفة بهذه النزعة الإنسانية، وفي لفت الانتباه إليها، أسهم أيضاً في إسقاطها وإبطال مفعولها وإفراغها من محتواها.

وهذه مفارقة غريبة أظهرت الغرب أمام العالم بصورتين متناقضتين: صورة الغرب المتمدن والإنساني داخل محيطه، وصورة الغرب الإمبريالي وغير الإنساني خارج محيطه.

ما قام به الغرب داخل محيطه أثار دهشة العالم وإعجابه، لكن ما قام به خارج محيطه أثار هلع العالم وفزعه. فخلال المرحلة الاستعمارية الطويلة ارتكب الغرب مجازر وفظائع وكوارث لا توصف ولا تنسى منها عمليات إبادة وجرائم ضد الإنسانية أدّت إلى قتل وإبادة آلاف وملايين من البشر، وهذا ما يعرفه الغربيون قبل غيرهم، وتشهد على ذلك وثائقهم وشهاداتهم وأرشيفاتهم التي لم يكشف عنها تماماً.

نشرت السبت 6/2/1441 هـ - الموافق 5/10/2019 م