بعد أن يرتد إليك طرفك
”لم يعد مصطلح القرية الكونية Global Village الذي صاغه مارشال ماكلوهان Marshall McLuhan في ستينيات القرن العشرين، يتناسب والتحولات التي يشهدها العالم الراهن، بعد أن جرى اختصار العالم برمته في جهاز الهاتف المحمول.“ إسماعيل نوري الربيعيّ، ”الإنسان الرقميّ وشراك الإنترنت“.
لاشك أن الهواتف الذكية أحدثت نقلة نوعية في كثير من جوانب حياة الإنسان العلمية والعملية، ولعل أبرزها كان ولا يزال في ”التعاطي“ مع المعلومة كماً وكيفاً واستدعاء. فأصبح غير المتخصص وجه لوجه مع المعلومات التخصصية والعلماء المتخصصين في شتى المجالات يسمع منهم ويقرأ لهم مباشرة متعلِّما ومناقشاً ومحاوراً. فالمعلومات والكتب المتخصصة التي كانت حكراً على المتخصصين أمست متاحة لشاب لم يتخصص بعد في أي مجال. وهذا ما دفع ذلك الشاب وأمثاله إلى أن يتحدث وربما يكتب في مواضيع متنوعة بسطحية تارة وبعمق تارة أخرى بحيث لا يستطيع المتخصص بحال أن يغض الطرف عنه ويهمل حديثه فلا يحاوره ولا يناقشه بحجة أنه غير متخصص.
وقول بيير بورديو Pierre Bourdieu بأن من لا يتلقى ثقافة رفيعة لا يمكن أن ينتج أحكاماً رفيعة، لم يعد حكراً ربما على ذلك النمط التقليديّ من المتخصصين الذين يقضون أوقاتهم في مكاتبهم بحثاً وتنقيباً وقراءة في الكتب. بل إن ذلك الشاب الذي جلس يحتسي قهوة في ذلك المقهى الذي اكتظ بالمرتادين، لم يخرج من ذلك المقهى إلا بعد أن فرغ من قراءة بحث عميق أو نقاش علميّ طويل في أحد الموضوعات المتخصصة والدقيقة جداً من خلال هاتفه المحمول الذي لا يتجاوز كفة يده، وإلا بعد أن خرج منه بثقافة تتيح له أن يناقش المتخصصين في ذلك الحقل العلميّ أو - على الأقل - في جزئية دقيقة من ذلك المجال الواسع. فذلك الجهاز الصغير حجماً تحول إلى مكتبة ضخمة تحضر إليك كل الكتب والمعلومات من كل مكان على هذه الأرض، فجني الفانوس السحريّ خرج من ذلك الهاتف المحمول ليقول لصاحبه ”شبيك لبيك“. وكذلك فإن ”شركات البرمجيات التي جعلت هدفها الرئيس يقوم على تنميط العالم في القالب الاستهلاكي“ ضخت البرامج و”الأبليكيشنات“ التي تحوي على ما يلبي رغبات المستهلك مادام ذلك يدر لها الربح الوفير والهيمنة والسيطرة على رغباته وميوله.
وعلى كل حال؛ فإن هذا الكم الغزير من مصادر المعرفة التي يتيحها الهاتف الذكي، أسهم - بحسب رولان بارت Roland Barthes - ”في تقارب الثقافات المختلفة، وزيادة الاعتماد المتبادل فيما بينها، وغدت أحوال الوعي بالإختلاف هي الأكثر شيوعاً وتداولاً، فيما راحت الفواصل تذوب بين المجتمعات والثقافات المختلفة. والنتيجة هي إن كل هذه التغيرات العلمية التي أحدثها الهاتف الذكي، جعلت من جميع المتخصصين في الحقول المختلفة عرضة للمناقشة والمساءلة والحساب. ولن يكن عالم الدين ورجاله بدعاً من أولئك المتخصصين. فلم يصبح أمراً غريباً ولا مستهجناً أن تجد شاباً غير متخصص يطرح رأياً أو إشكالاً دينياً أويناقش فكرة ومعتقداً دينياً متكئاً و“ مستقويا" بمنبع المعلومات الذي لا ينضب أبداً وهو ذلك العفريت الذي في يده الذي يأتي له بالمعلومات بعد أن يرتد إليه طرفه بلحظة واحدة فقط، والذي أمده بكل تلك الثقة والقوة والجسارة التي تحلى وتسلح بها.
فذلك الشاب لم يعد لوحده في الساحة الآن، بل إنه مع جيش متكامل مدجج بكم هائل من السلاح المعرفيّ والعلميّ. وهذا ما أوجب على المتخصص أن يكون مستعداً استعداداً علمياً مسبقاً وقوياً كي يكون متحصناً تماماً من أية ضربة طائشة من ذلك الشاب قد تسقطه وتسقط كبرياءه ووقاره العلمي والثقافي كله. ومن هنا، فإنه على المتخصص، مهما أوتي من علم ومهما كان تخصصه دقيقاً ومحكماً، أن يتواضع ويرضخ بأن يدخل في ”حوار“ هادئ مع ذلك الشاب وأمثاله مُظهِراً ومبطِناً عدم امتلاك الحقيقة وجاهزاً لأن يتعلم ويبحث وينقب عن تلك الحقيقة بمعية ذلك الشاب وبمساعدته التي لا يستهان بها بعد الآن!