آخر تحديث: 24 / 11 / 2024م - 1:07 ص

وقود الإصلاح الحسيني «3» حواري الحسين عبد الله بن يقطر

حسين نوح المشامع

قال الله تعالى: ”رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة يخافون يوماً تتقلب فيه القلوب والأبصار“ «النور37».

وفي كتب من الإمام الحسين بن عليّ وهو بمكة إلى أخيه محمّد بن عليّ: «بسم الله الرحمن الرحيم، من الحسين بن عليّ إلى محمّد بن عليّ ومَن قِبلَه من بني هاشم: أمّا بعد فإنّ من لحق بي استشهد، ومن لم يلحق بي لم يدرك الفتح والسلام». كامل الزيارات «75».

لم يقتصر عطاء الشهادة في النهضة الحسينية على ما قدم من قرابين في عرصات كربلاء، بل إن الشهداء الأبرار الذين كتبوا أسماءهم في هذا السفر الخالد بمداد دمائهم الزاكية، وأبوا إلّا أن يكون لهم هذا الشرف والسؤدد الذي لا يضارعه شرف آخر، فسقطوا في سبيل النهضة الحسينية الخالدة، قبل واقعة عاشوراء الدامية. إن هؤلاء الأبرار باستثناء، الشهيدين مسلم بن عقيل وهاني بن عروة، لم يأخذوا حقهم من التبجيل والتأبين والذكر الجميل، وإن كانوا في غنى عنه، بعد تبجيل الله سبحانه وتقديره لهم. ولعل عدم تسليط الضوء عليهم مردّه، إلى وهج عاشوراء الساطع وما حصل فيه من مآس ومآثر تُذهل كل شخص وتشغله عن غيره من الأحداث، وما قامت به السلطة الحاكمة آنذاك من التعتيم وإخفاء للحقائق، خوفاً على وجودها. «01»

شهيدنا لهذه الحلقة هو عبدالله بن يقطر، فمن هو وما نسبه؟؟

عبدالله بن يقطر «أو بُقطُر» بن أبي عقب من بني ليث بن بكر بن عبد مناف بن كنانة، وبما أنه ينتسب إلى قبيلة حمير اليمانية، فاعتبره بعض المحققين من الحميريين اليمانيين الذين ولدوا في المدينة. «02» ولقد قيل عنهً: أنه كان من موالي أهل البيت علىهم السلام؛ فأبوه يقطر كان خادماً عند رسول الله ﷺ، وأُمه ميمونة كانت تعمل في بيت أمير المؤمنين علىه السلام. «01»

أهم ما اشتهر به عبدالله بن يقطر:

إن أهم ما اشتهر به عبدالله كونه رضيع الإمام الحسين ، رغم إن بعض المحققين يرى أنّ الحسين لم يرضع من لبن رضع عليه عبدالله، وكونه رضيع الحسين علىه السلام، وهو ما جاء في مصادر عديدة، من جهة أُمه ميمونة التي قد ولدته قبل ولادة فاطمة الزهراء علىها السلام للحسين بثلاثة أيام؛ فيبدو أنها أرضعت الحسين مع ابنها، كما أرضعته أُم الفضل - لُبابة بنت الحارث - زوجة العباس بن عبدالمطلب. ولكن بعض الباحثين يرفض أن يكون الحسين علىه السلام قد رضع من ثدي امرأة أُخرى غير أُمه علىها السلام، وإبهام رسول الله ﷺ. «02» وأما ميمونة وأُم الفضل إنما تولتا حضانته وتربيته؛ فجاز أن يُعدّا ممن أرضع الحسين علىه السلام. وقد ذكره ابن حجر من الصحابة، فيكون ممن رأى رسول الله ﷺ وسمع حديثه، وهو أمر ليس ببعيد؛ ولأنه كان قرين الإمام الحسين علىه السلام في السن؛ ولذا يعبر عنه: لدة الحسين. «01»

حواريي الإمام الحسين علىه السلام:

ويبدو أن عبدالله بن يقطر كان من حواريي الإمام الحسين علىه السلام، ومن المقربين لديه وموضع ثقته واعتماده؛ لذا وقع عليه الاختيار لحمل رسالته إلى أخيه وابن عمه مسلم بن عقيل، كما أنه حاز على درجة سامية في الإيمان واليقين، أهّلته لتحمُّل هذه المهمة المحفوفة بالمخاطر. «01»

سفير الإمام الحسين إلى الكوفة:

أرسله الإمام الْحُسَيْن إِلَى مسلم بن عقيل قبل أن يعلم بقتله. وقد ذكر المؤرخون أن الحسين بعثه مع مسلم، فلما رأى مسلم الخذلان بعثه إلى الإمام الحسين يخبره بالأمر. «02» وقيل: لمّا بلغ الإمام الحسين الحاجز من بطن الرمّة، بعث إلى أهل الكوفة كتاباً، قال فيه: «بسم الله الرحمن الرحيم: من الحسين بن عليّ إلى وجوه إخوانه المؤمنين والمسلمين، سلامٌ عليكم، فإنّي أحمدُ إليكمُ اللهَ الذي لا إله إلاّ هو. أمّا بعد؛ فإنّ كتاب مسلم بن عقيلٍ جاءني يُخبرني فيه بحسن رأيكم، وإجماع مَلَئِكم على نصرِنا والطلبِ بحقّنا، فسألتُ الله أن يُحسن لنا الصنيع، وأن يُثيبكم على ذلك أعظمَ الأجر. وقد شخصتُ إليكم من مكّة يومَ الثلاثاء لثمانٍ مَضَين من ذي الحجّة يومَ التروية، فإذا قَدِم عليكم رسولي فانكمشوا في أمركم وجِدُّوا، فإنّي قادمٌ عليكم في أيّامي هذه، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته». وطوى الإمام الكتاب وختمه بختمه، ودفعه إلى عبدالله بن يقطر. «03»

أسباب اعتقاله:

قبض عليه الحصين بن نمير أو بن تميم، وسط الطريق قبل الكوفة بالقادسية، وأرسله إلى عبيدالله بن زياد. فسأله عبيدالله عن حاله فلم يخبره، فقال له: اصعد القصر، والعن الكذاب بن الكذاب، ثم أنزل حتى أرى فيك رأيي، فصعد القصر فلما أشرف على الناس قال: أيها الناس، أنا رسول الحسين بن فاطمة بنت رسول الله ﷺ إليكم لتنصروه وتوازروه على ابن مرجانة وابن سمية الدعي ابن الدعي. «02» وقال السيّد ابن طاووس: فلمّا قارب دخولَ عبدالله بن يقطر الكوفة، اعترضه الحُصَين بن نُمَير ليفتّشه، فأخرج رحمه الله الكتابَ ومزّقه، فحمله الحصين إلى عبيدالله بن زياد! «03»

كيفية استشهاده:

أمر به عبيدالله بن زياد، فألقي من فوق القصر إلى الأرض، فتكسرت عظامه، وبقي به رمق، فأتاه عبدالملك بن عمير اللخمي، وكان قاضي الكوفة وفقيهها، وكان مشهور بالفسق والفجور فذبحه بمدية، فلما عيب عليه، قال: إني أردت أن أريحه، وقيل إن استشهاده بسنة 60 أو 61 هـ . «02»

حوار عجيب وتَحدٍّ غريب:

وكان هنالك حوارٌ عجيب غريب بين عبدالله بن يقطر وعبيدالله بن زياد، لمّا مَثُل بين يدي الاخير «أسيراً»، وهو هكذا:

- قال له عبيدالله: مَن أنت؟

أنا رجلٌ من شيعة أمير المؤمنين عليّ أبي طالبٍ وابنه.

لماذا مزّقت الكتاب؟

لئلاّ تَعلمَ ما فيه.

مِمّن الكتاب وإلى مَن؟

من الحسين بن عليّ وإلى جماعةٍ من أهل الكوفة لا أعرف أسماءَهم.

- فغضب عبيدالله بن زياد وقال له: والله لا تُفارقُني حتّى تُخبرَني بأسماء هؤلاء القوم، أو تَصعدَ المنبر فتلعنَ الحسين وأباه وأخاه، وإلاّ قطّعتُك إرْباً.... إرْباً!

أمّا القومُ فلا أُخبرك بأسمائهم، وأمّا اللعن فأفعل!

الموقف الحاسم المفاجئ: صَعِد المنبر، فحَمِد الله وأثنى عليه، وصلّى على النبيّ محمد وآله، ثمّ أكثرَ من الترحُّم على أمير المؤمنين ووُلده صلوات الله عليهم اجمعين، ثمّ شرع بلعن عبيدالله بن زياد وأبيه ولعنِ عُتاة بني أُميّة عن آخِرِهم، ثمّ قال مخاطباً الحاضرين ناقلاً إليهم وصية سِرّاً عظيماً: أيُّها الناس، أنا رسول الحسين بن عليٍّ إليكم، وقد خلّفتُه ببطن الرمّةِ فأجيبوه. وقيل: إنّه قال: أنا رسول الحسين بن فاطمة بنت رسول الله ﷺ إليكم لتنصروه وتُوازروه على ابن مرجانة وابن سميّةَ الدَّعيِّ ابن الدعيّ. «03»

الإمام الحسين واستشهاد عبدالله بن يقطر:

فلما بلغ الإمام الحسين قتل ابن يقطر خطب، وقَالَ: أيها النَّاس، قد خذلتنا شيعتنا، وقتل: مسلم بن عقيل، وهانئ بن عروة، وقيس بن مسهر، وعبدالله بن يقطر، فمن أراد منكم الانصراف فلينصرف. فتفرق عنه النَّاس، وأخذوا يميناً وشمالاً حتى بقي في أصحابه الذين جاؤوا معه من الحجاز. «02»

شعره: وقد ورد أنّه قال:

إذا كملت إحدى وستون حجّة إلى خمسة من بعدهن ضرائح‏

وقام بنو ليث بنصر بن أحمد يهزّون أطراف القنا والصفائح‏

تعرفتهم شعث النواصي يقودها من المنزل الأقصى شعيب بن صالح

وحدّثني إذا أعلم الناس كلّه أبو حسن أهل التقى والمدائح‏. «02»

بين عبدالله بن يقطر وقيس بن مُسهَّر:

هناك تشابه كبير بين قصتيهما واستشهادهما من جانب، والخلط والتردد وعدم الجزم عند الكثير من المؤرخين وأصحاب السير في أحداث قصتيهما من جانب آخر، فهناك اختلافاً كبيراً وخلطاً عجيباً بين قصتيهما، بل قد تجد في الكتاب الواحد قصتين مختلفتين عن أحدهما. وتذكر المصادر التاريخية والأخبار الكثيرة: أن عليهما وقع اختيار الإمام الحسين ؛ لأنْ يكون لهما السهم الأوفر في القيام بمهمة السفارة بينه وبين ابن عمه وسفيره مسلم بن عقيل؛ لما يمتلكان من الشجاعة والصبر، والإيمان، والخبرة، والدراية في أداء مثل هذه المهام الجسام، وقد دفعا وهم يؤديان هذا التكليف الإلهي نفسيهما ليمضيا شهيدين سعيدين في سبيل الله تعالى، وليكونا من طلائع شهداء النهضة الحسينية المباركة، قبل أن تقع الفاجعة الكبرى في يوم عاشوراء. كما نجد في مصادر التاريخ التباساً كبيراً في قضية هذه المراسلات، ولا سيما في تحديد شخصية الحامل لبعض تلك الرسائل، فيُتردد بينهما ولا يُقطع في المسألة؛ مما جعل الصورة غير واضحة في معرفة مهمة ودور كل من هذين الشهيدين الرسولين؛ وبالتالي لا يتسنى الوقوف على معرفة كيفية نيلهما لدرجة الشهادة الرفيعة. وقد ذكرت هناك عدة سيناريوهات وكيفيات لتحديد مهمة كل منهما؛ ولكثرة الاختلاف في قصة الرجلين في المصادر التاريخية قد لا يجد الباحث مصدراً واحداً يستند إليه في إثبات دعواه. ولكن هناك بعض الرسائل لم يحصل خلاف في حاملها. فهنيئاً للشهيدين السعيدين هذا التأبين والإطراء والدعاء من إمام الأُمة وسيد شباب أهل الجنة. فسلام عليهما يوم ولِدا، ويوم استُشهدا، ويوم يُبعثا حيين مع محمد وآله الطاهرين. «01»

وهكذا تنتهي بنا الحلقة الثالثة من حلقات المنسيين من رواد الملحمة الحسينية، على أمل اللقاء بكم مرة أخرى ومع شمعة حسينية أخرى، محاولين تسليط الضوء داخل حنايا التاريخ الإسلامي الخافت، علنا نستطيع رؤية أمجادها الباهرة في دهاليز ذلك التاريخ المظلمة.